يتحدث الواحد منّا عن وحدته على أساس كونها مشكلة تستحق الشفقة، ولا تلبث الوحدة، بالتعميم، أن تغدو شجرة يستظلّها متعطّشو العطف والمؤانسة. هكذا كانت على الأخص في القرن التاسع عشر الأوروبي:
وَصْفَة، مع السلّ، ليصبح المرء تائهاً رومنتيكيّاً، ووسيلة لجذب النساء.
بعد الحداثة الميكانيكيّة أضحت الوحدة داءً واقعيّاً لم يعد فيه أيّة جاذبيّة. وحدة مَنْ فاته القطار ولا مزاج عند أحد للتحسّر عليه. بل بالعكس، صار مدعاة للنفور أو الشماتة.
غير أن هناك وجهاً آخر للوحيد قلّما يستوقف، هو وجه المستبدّ. تُصوّر السينما الأميركية شخصيّة زعيم العصابات في الغالب «اندلاقيّاً» مزدهراً على صخب الهرج والأزلام. قد يكون المافيوزو بهذه الصورة الانفلاشيّة، لكن مافيوزو الجريمة العاديّة ليس هو رمز القاتل المستوحد. رمزه هو رجل السلطة السياسيّة. ستالين، مثلاً، أو هتلر. أو أيّ ستالين أو هتلر صيني أو يوغوسلافي أو إسرائيلي أو عربي أو أميركي لاتيني. عند رجل كهذا، الوحدة شرط من شروط القوّة. عزلته هي تماسُكُه. ليس في العزلة المغلقة دخيل ولا جاسوس. إنها الحصن الحصين البعيد الهادئ حيث تسرح سيناريوهات التقتيل على هوى هذيانها، وما على «الأجهزة» في ما بعد إلّا التنفيذ.
لكن الطاغية ليس دوماً فرداً، هناك النظام الطاغية أو الدولة الطاغية، فضلاً عن مؤسسات أخرى. هنا تصبح الوحدة على مستوى أشدّ رعباً لأنّها بلا وجه، يُسْحَق فيها الإنسان ولا يستطيع أن يشتكي على أحد، فخصمه بلا اسم، وهو في كلّ مكان ولا عنوان له. عُرف هذا النَسَق في بلدان الستار الحديدي، لكن الغرب «الحرّ»، إذا أنعمنا النظر، لا يخلو حريره من قبضة بوليسيّة حديديّة خفيّة، ومن بيروقراطية مميتة، وإن تكن ملطّفة بالديموقراطية وبالحقوق التي يتمتّع بها المواطن في محاسبة الدولة ومقاضاتها. ويلعب بريق التعبير الحرّ عن الرأي دوره الكبير في تظهير الفرق بين الأنظمة الديكتاتوريّة والأنظمة الديموقراطيّة. وتبدو أعراض الوحدة في المجتمعات الديموقراطيّة على الطراز الغربي أقرب إلى النزق والتَرَف أو ضرائب العنوسة والشيخوخة منها إلى الضياع النفسي أو الميتافيزيكي أو الانسحاق تحت عجلات القمع كما يحصل في ظلّ أنظمة الحديد والنار. الفريسة في المجتمعات الأولى تستطيع أن تفجّر نفسها في كتاب أو لوحة أو نمط عيش أخرق. الفريسة في المجتمعات الثانية لا تستطيع أن تفجّر نفسها إلّا إذا وظّفتها أجهزة الاستخبارات لهذه المهمّة.
قمّة السلطة الاستبداديّة هي قمّة العَبَث لا قمّة التوازن. السقف يصبح هنا في الحَلْق. يتحسّس الطاغية حقل خياله العَدَمي كما يتحسّس الفنّان حقل خياله الإبداعي.
إرهاب السلطة ليس جديداً، هو سابق للتاريخ. الجديد إرهاب سلطات مفترض أنها صغرى في وجه سلطات مفترض أنها كبرى، وعجز الكبرى حيال الصغرى عجزاً متمادياً أصبح فضيحة تاريخيّة. وإلّا كان تواطؤاً شيطانياً في أخبث عملية إجرامية عموميّة شهدها البشر. لا أحد يعرف. لوحة فوضويّة تختلط فيها الجيوش النظاميّة بالعصابات بعملاء الاستخبارات بشعارات سماوية وبقايا ماركسية لينينية وطلائع عشوائية عديدة ربّما ستُسمّى بعد حين اسماً أيديولوجيّاً لمّاعاً يصنعه لها هانتنغتون ما أو فوكوياما ما. شيء واحد أكيد وسط هذا الجنون غير العفويّ، هو أن لا الماضي متمثّل في هذه اللوحة ولا المستقبل.
استبداد الحاضر. حاضر مذعور من ضحاياه، يمعن فيهم ترويعاً كلّما ازداد إحساسه بخطر. الحاضر العادي محكوم بالعبور، لكنّ حاضر السلطة يريد تأبيد نفسه. لا يعترف بزواليّة الوقت إلّا للآخرين. هو خالد. خالد فوق عبيد. وما كان البشر حيال أسيادهم يوماً إلّا هكذا. الفرق بين العبّاد والعبيد أن العبّاد لا يحتاجون إلى شرطة تراقبهم وجلّادين يرعون فيهم الانضباط، فالخوف مقيمٌ فيهم طوعاً.
الطاغية أشدّ وحدة من الشاعر. في وحشة العزلة يجلس الشاعر على دموعه، وقد تكون طيّبة. في وحشة العزلة يبحث الطاغية عن كثافة ألوهته فلا يجد غير عنق يتوجّس من المجهول.
المجتمعات تَصْنَع أذلّاءها كما تصنع مذلّيها. لا تَطْلَع نبتة إلّا في أرضها.
قد «يساعدنا» الآخرون على إيذاء أنفسنا إذا وجدوا في الأمر مصلحة لهم، لكنّهم لا يستطيعون أن يفتعلوا لنا حالات هجينة مئة في المئة. الذين يعملون فينا ترويعاً هم صناعتنا. هم آباؤنا وأبناؤنا. هم ضحايانا قبل أن يصبحوا جلّادينا. فلنعد بالذاكرة إلى الوراء. نحن في لبنان ونحن في باقي أنحاء العالم العربي. مَن الذين يرعبوننا اليوم؟ أليسوا ضحايانا بالأمس؟ إنهم صناعتنا. إذا كان للمرء أن يَعْقد رجاء فربّما يكون أن لا نَصْنَع للمستقبل باقات أخرى من المرعبين.
أن تصبح الحياة على أرضنا أكثر انتاجاً للحياة.
خـواتــــــــــــــم
اصغِ إلى كلمة لمشرّدٍ قليل الكلام، اصغِ إلى مَن لا يُفصحون: كلام هؤلاء «البسطاء» هو أكثر الكائنات حياةً في بحيرات الفراغ التي يتكوّن منها وجودنا.
***
أصعب ما في العطاء هو لَجْمُهُ في حدود. وكلمة عطاء نفسها غير صحيحة. لا أحد يملك لكي يُعطي. المعطي هو راغب في الخلاص من شيء. وآخِذُ العطاء هو أحياناً أكثر عطاءً من واهبه.
***
أشدُّ ما يوجع في الوحدة هو أنّها لا تفيد أحداً.
***
لا أقْبَل أن تحاكمني ذات يوم محكمة مؤلّفة من قضاةٍ أطفال: براءتهم لا تعرف الرحمة.
***
«الله هو الموضع النضير على المخدّة». (جان كوكتو).
***
أغرب اعترافاتنا أفضينا بها إلى أشخاص تعرّفنا بهم للتوّ. لا نُسِرُّ إلى القريب. الحميميّة تتمّ مع الغريب لأنّه بئر راحلة.
***
هناك شخصيّة جنسيّة للروح أيضاً. للعقل والنفس. لعلّها هي ما يقود حسّ النقد الجمالي. الجنس الجسدي المألوف مجرّد وجه ظاهر فظّ لجوهر جنسي متغلغل في كلّ ما يتّصل بالمدارك العقليّة وانعطافات الذّوق. الجنس الظاهر هو نهارُ جنسٍ ليليّ لا نعرف عنه شيئاً.
***
عندما كنت طفلاً، كنت أستصعب التواصل مع الآخرين، لكنّي أذكر أنّي كنت، إذا جاءنا ضيفٌ راشد، أتلهّف في داخلي أن أسمعه يقول لي: «معليش! لا تَخَفْ كثيراً…»، وكنت سأفهمها اعتذاراً تُقَدّمه لي الحياة بلسانه.
أنسي الحاج
عن صحيفة الأخبار اللبنانية
عدد السبت ٢٣ حزيران2007