جاسم الصحيح – فهرسةٌ للجراح

يُطلُّ الصبحُ شيخاً مُشْرَعَ الكفَّينِ
يحتلبُ الندَى الريَّانَ من ثديِ الطبيعةِ في إناءِ الكونِ…
جَلَّ اللهُ ما أبهاهُ!!
يستجلي مواهبَهُ على الدنيا
فأصحوَ صحوَ رجل قديمٍ
كلَّما نَزَلَ الجمالُ بأرضيَ انبثقَتْ حكاياتُ
وأُسْلِمُ للمدَى جسدي
فإنْ طَرَقَتْ عليَّ الريحُ تنفرجُ المساماتُ
ووجهيَ حنطةٌ في الدربِ تأكلُهُ المسافاتُ
وما زالَتْ ملامحُهُ تناضلُ للظهورِ بِصورةِ الأحياءْ
أخافُ..أخافُ من زمنٍ:
مُسَدَّسُهُ وَلِيُّ الأمرِ في وطني
وصاحبةُ البهاء رصاصةٌ بلهاءْ

ولكنّي أعضُّ بِكُلِّ ما أوتيتُ من أملٍ على جرحي
كأنّيَ ممسكٌ بِوِسَامْ!
وأحملُ قيدَ آثامي
أطوف الأولياءَ بها فقد تتفصَّمُ الآثامْ
وليس لديَّ في النجوَى سؤالٌ في مقام الحق..
ليس لديَّ ما يكفي من الأسرارِ كي أُحْيِي كَذَاكَ مقامْ!

وذاتَ ضحيً
مررتُ بِحقلِ أحلامي..
وكانَ الحقلُ طفلاً في مهادِ النُّضْجِ..
كانَ مقمَّطاً بِسِيَاجْ
فَمَدَّ يديهِ عنقودَيْنِ خارجَ مَهْدِهِ الوَهَّاجْ
ولم أحلمْ بغير محبَّةِ امرأةٍ
تُشَكِّلُ (نونَ) ها حوضاً
أُرَبِّي فيه كالأسماكِ أشعاري
بِوِسْعِ قصيدةٍ في الحبِّ
أنْ تبني لنا دَرَجاً إلى الفردوسِ
أوْ دَرَكاً إلى النارِ
لَبسْتُ من الهوَى عُمُراً…
إذا ماشَقَّهُ وَطَرٌ أُرَقِّعُهُ بِأوطارِ
وكان الليلُ من حولي
يذوبُ كقطرةِ الليمونِ
فيما كنت ُ أقرأُ ما رَوَاهُ (المؤرخ) عن أحاديثِ العيونِ
وطالما كانَتْ تجيدُ يدايَ
كيف (ترنو) خاشعةً إلي الرقبَهْ!
وكيف (تطوفُ) حولَ الخصرِ..
كيف (تُفيض) من سفحٍ حواليهِ إلى هضبَهْ !
وما أمسكتُهُ بِيَدَيَّ..
ذلكَ لم يكنْ جَسَداً
ولكنْ قلبَ درويشٍ يرقرقُ في دمي عِنَبَه!
دعاني (النيلُ) للنجوَى..
دعاني للهوَى (بردى) ..
وأُقْسِمُ ماكسرتُ خواطرَ الأنهارْ
فألهمَني هناكَ الماءُ
كيف أُهَرِّبُ الأزهارَ في الأفكارْ
وها أنا ذا..
إذا ما هزَّني بيتٌ من الشعرِ
غدا رأسي أميراً مائلَ الأعطافِ في أرجوحة السُّكْرِ
وإنْ بيتانِ شعريَّانِ مالا بي من الطرب
غدوتُ بِنشوتي بَهياً يسوسُ قبائلَ العِنَبِ
كفاني من عطايا الشعرِ
مُلْكٌ باتّساعِ الرأسِ أبلغُهُ بِبيتينِ!
وأحكمُهُ بِقافيةٍ وشطرينِ!!
ترنُّ خُطى الأحبّةِ ملءَ ذاكرتي
إذا خَطَروا..
إذا دقُّوا
على باب الخيالِ هناكَ وانفتحَتْ لهم صُوَرُ:
هنا ضحكوا…هنا ناحوا
هنا اختاروا لهم وَطَناً بقلبِ الموتِ وارتاحوا

وعُدْتُ أنا…
أجرُّ (الأربعين) معي
جنائزَ …
والخطى عرباتْ
أحاول جمعَ أحبابي بأغنيةٍ ..
فينتثرونَ في الآهاتْ
وأرجع للخيال أَلُمُّ
ما أهرقتُ من نجوَى على أعتابِ عودتهِمْ..
و ما أهدرتُ من صلواتْ
مسيرةُ خمسِ آهاتٍ ..
وأبلغ موطن الذكرى..
أذودُ الموتَ عن ماضٍ
تَأَرْجَحَتِ (الأنا) فيهِ على حبلٍ من الصَبَوَاتْ
تُفيق الدارُ..
تلمحُني..
فتلمحُ في المدى كأساً بهِ تتكثَّفُ الغُرُبَاتْ
وتلمحُ في المدى أَلَماً
مقفّى في قصيدتهِ تُمَهَّد كامل الأبياتْ
هنا داري..
على عتَبَاتِها وَلَهٌ لِأقدامي
وملءُ ترابِها وَحْشَه
هنا سَيَّلْتُ أعوامي..
ويومَ صَحَتْ تُوَدِّعُني اخْتَصَرْناَ السيلَ في رعْشَه
أُطِلُّ على النهايةِ تنزفُ الآلامَ من حولي
فَأُدمي جبهتي أسفاً على جدرانِ خَيْبَاتي
وأُصغي للمدَى ..لاصوتَ .. إلا صوتُ مأساتي
وصمتيَ في سكينتِهِ
يُهَيِّئُ شكلَ معركتي مع الآتي
وها أنا ذا ..
أُجَدْوِلُ نَزْفَ أعضائي بِفَهْرَسَةِ الجراحاتِ
وأسكنُ ذاتَ أمنيتي إلى أنْ ألتقي ذاتي!

جاسم محمد الصحيّح
عن جريدة (الزمان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى