كمن فقَد ضالّتهْ التي ضاعتْ منذ الأزل – سيف الرحبي

تلزمنا طيورٌ كثيرةٌ
طيور أسطوريةٌ
تعمل كجرّافاتٍ
كي تكنسَ السماءَ من روث الطائرات الحربيّة


* * *


القممُ المنتشرةُ في أرجاء الأرض
القممُ التي لا تفتأ تتبادل رسائلَ حبٍ وسخريةٍ
لا يستطيع البشرُ فك شفرتها الغامضة.


* * *


يستحمّ النورسُ في النهر وينتفضُ
كقريةٍ تصحو بتضرّعاتها المتصاعدةِ
نحو الله.


* * *


بحنانٍ أكبرَ
أيها الخطّاف تحمل الماء بمنقاركَ
إلى تلك المحلّقة في الأثير.
وأنتِ أيتها الغيوم، لنباركْ زحفكِ المقدّس،
من أعالي النهر..
وبالحنان نفسه كنا نحدّق فيك من شرُفات
الأودية، تتشكّلين في خيال الطفل، قبل أن تكوني
مشروعَ ديمةٍ ونماء، قادمةً كلآلئ
السراب من البعيد، البعيد حيث تسكن الملائكة الخضْر


* * *


امرأة تتنزّه مع كلبها
على حافّة النهر
وجهها الناضح بالطمأنينة والسلام
أحمله كزادٍ لهذا اليوم الغائِم،
مندفعاً نحو المجهول.


* * *


نائمة تحتَ الرذاذ المشمسِ
النجوم الحنونة تداعب أناملكِ
والشجرةُ تسّاقط ثمارُها في الأحلام الورديّةِ
لأول فجرِ يبزغ في سماء الجنّة..
سحرُ امرأة نائمة
سحرُ آلهة عاشقة.


* * *


تتأوهين
كأنّ بكِ مساً من برْقٍ وجنون
حين لامسكِ الهُدْهد،
وقبل أن يتيه في غوْركِ العميق
أشرقتِ بالبكاء
كما الأرض العطشى
الموغلة في الجدْبِ
حين يراودها المطرُ
ينشق من رَحمِها خيطُ بركان.


* * *
حين يصحو من نومه
وحين يغفو
في الصباح القاتم والمساء البهيج،
يردّد، يهذي:
لا، لم يبق وقتْ
ليس ثمّة وقت
الموت يشمشم الأثرَ على العتَبَة
كما يشمشم الذئبُ بولَه لحظةَ هياجٍ
في الدائرة التي رسَمَها للرحيل.
ليس ثمة وقتٌ
ترتجف العبارةُ من جرف كيانه
تتساقط من شجر اللاوعي العميق
تسدّ عليه الأفق والطُرقات
وأحياناً تهمي مطراً
على جسدِ امرأةٍ تضيء طرفَ الأنفاقِ
المظلمة.


* * *


هكذا عانق الشبحُ توأمَه
وسط الظِلال المحتدمةِ لصليل المجزرة.


* * *
في النهر المتلوّي أمامه
حيث المتنزّهون بكلابهم الكثيرة
والعجائز يجرجرون السنوات؛
يحدّق في المياه
يستنطق مخلوقاتها الدفينة
كمن يبحث عن ضالته التي ضاعتْ
منذ الأزل.


* * *


الكلبُ يقعي على برازِه
الغمام يَحوم
والسنونو يتماوج في الفضاء الجَهْمِ
حاملاً في مناقيره ربيعَ القارّات.


* * *


في الحديقة العامة
التي تشبه غابة،
تتشكّل السُحُب في هيئة كثبانٍ، على صفحتها
توشك القطعانُ أن تغرق في مغيبِ
البحيرةِ التي يطير البط فوقها بأجنحةٍ من ذَهَبْ.
نخلةٌ غريبةٌ
على ذوائبها فراشاتٌ وعصافير.
الحارس يطلق صفّارة الإغلاق
البشر يخرجون، أفراداً وجماعات
تاركين شعوبَ الحديقة تنعم بالأحلام،
عدا السيد (شوبنهور)
الذي بادره الحارس:
من أنت أيها السيّد؟
أجاب الفيلسوف المُثْقل بالوجود الجريح والأسئلة
“ليتك تجيبني على السؤال كي أكون مديناً لك طوال العمر”.


 


*نص: سيف الرحبي
*من ديوان: على حد الصيف عن البراكين والموتى والحيوانات – (الأعمال الشعرية الكاملة، ج2، رياض الريس).

زر الذهاب إلى الأعلى