رسائل العتمة والضوء، بين فاطمة رحيم ودعاء سويلم

أشخاص:
بلدان:

من دعاء سويلم إلى فاطمة رحيم

إلى فاطمة رحيم..

كنتُ أعمل في حانة، لستُ نادلة ولا مغنية، بل أكتب القصائد الإيروتيكية الإباحية، وأقرأها على الموجودين، أنا كنتُ أمتعهم بلساني، وهناك نساء متخصصات في التطبيق.

كثيراً ما كنتُ أتذمر من هذا الحال، لكنني كنتُ مضطرة للنهاية، في رقبتي عائلة، وأنتِ تعلمين ماذا تعني العائلة. في إحدى الأيام كتبتُ قصيدة عن رب الفقراء والبؤساء، تجرأتُ وبعثتها لدار النشر، رفضوها، وطلب مني صاحب الدّار أن أبعثها للكنسية. السّافل، لا يفرّق بين إله الفقراء وإله العالم!

أردتُ أن يسمعني شخصٌ واحدٌ فقط، اتفقتُ مع صاحب الحانة في ليلة ممتلئة بالوحدة والحزن، أن ألقي قصيدة عن امرأة وحيدة فقيرة تعمل لأجل عائلتها، بالتأكيد رفض ذلك، وطلب مني أن ألقي القصيدة المعتادة وإلا سيضطر لطردي من العمل. في وقتٍ ما يجب أن تتخلى عن كل شيء مقابل أن نقول: “لا”. أوهمته بأنني سألقي تلك القصيدة، حتّى بدأت أقرأ قصيدتي التي حلمت بأن يسمعها الجميع. ظننتُ بأنّهم سيرمون عليّ البيض والبندورة، ويصرخون: هذه العاهرة لا نريدها. انتهيت من قراءة القصيدة، كان داخل أولئك الرجال والنّساء هزيمة، لأوّل مرّة أشاهد وجهاً حقيقياً، وجهاً من لحمٍ ودم. على الهامش: لم أستطع أن أتوقف عن الخيال، كان يجب أن أحدّثك من داخل السّجن، لكنني قفزت، أو بالأحرى كتبتُ لكِ من بوابة الذّكريات، مثلما كتبتِ من داخل نفسك! سعيدة بوجودك دائماً!

من فاطمة رحيم إلى دعاء سويلم …

أحببت قفزك من بلاط السجن إلى أرضية الحانة، بالعادة أرضيات المسارح خشبية يعجبني هذا الملمس، تخيلتك وأنتِ تقرأين قصائدك الإباحية تحت الأضواء الخافتة بصوتٍ ناعم يحوم حوله الدخان، وروائح الخمور، ترافقه موسيقى الچاز، تلك القصائد التي لا تخلو من الفن برغم صراحتها، البعض يكتبها لكنها مبتذلة لا يوجد فيها أدنى إبداع، كل ما يفعلونه هو دس أسماء الأعضاء التناسلية في كل سطر والحصيلة :

( خراء مكون من قضيب وفرج) أو أخرى تكتب مشهدًا جنسيًا لا تفرقي بينه وبين أفلام البورنو، نصوص رديئة لا تثير إلا عديمي الذائقة ويسمون هذا أدبًا ..

أما أنتِ فلا ريب في موهبتك. أؤمن بما تكتبينه. أتمنى في رسالة قادمة أن أكون جمهورك. اكتبي قصيدة ملغمة بالفضائح اللغوية بحبرٍ سريّ !

توقفت في رسالتك عند “أمتعهم بلساني” برأيك أيهما أكثر إثارة المتعة بالصوت أم بالجسد، قلتُ الصوت لأنني أعرف ما الذي تقصدينه بلسانك ! هناك قارئ غيري سيفهمها بطريقة أخرى لطالما الحديث عن عملك داخل “حانة”.

بمناسبة قول ” لا ” أود أن أخبرك بأن هذه الكلمة الصغيرة بمثابة تذكرة للدخول إلى السجن أو إلى الجحيم أيهما أقرب للوحل.

أحببت شعورك بهزائم الزبائن، بالعادة خُصصت الحانات للهروب، الرجال فيها يدفعون من أجل المتعة والنساء يقبضن الثمن من أجل اطعام العائلة وشراء الأحذية والملابس .. منفعة متبادلة إلا أن هناك الكثير من النساء اللواتي يبعن أجسادهن ولا يقبضن الثمن.

على الهامش : كنت قد تعرفت على رجل بمحطة المترو، وقتها كنت أبكي عشقًا زائفًا، فجأة وجدت أمامي يدًا ممدودة بمنديلٍ ورقيّ وبصوتٍ أخشن من اللازم قال: لا أحد يستحق. لم أنظر إلى ملامحه حتى، خطفت المنديل من يده وتمخطُ دمًا كانت حالتي مأساوية. حينذاك وعن عمد كنت أجلس في الجهة المعاكسة لطريقي الصحيح، أي أنني قبلها ركبت المترو الخطأ الذي بسببه قابلت هذا الرجل على رصيف المحطة التي لا أعرفها أصلًا .. حين رفعت رأسي وجدت ملامح لرجل أربعينيّ ليس وسيمًا ولا قبيحًا، عاديّ .. تنتظره على بُعد خطوات امرأة تبدو ملامحها أكبر منه سنًا، أكبر من أن تكون عشيقته وأصغر من أن تكون أمهِ .. تخيلي أنني نسيت علام كنت أبكي وجلست لعدة لحظات أفكر ما شكل العلاقة التي تربطهما أو ما إذا كانت هناك بينهما مضاجعة أو ما شابه، إلى الآن لم أتخلص من هذه العادة أن أرسم بخيالاتي علاقات العابرين من أمامي وطريقة معيشتهم من خلال ملابسهم وأحذيتهم. وعن هذه السيدة التي تقف على بُعد خطوات لم يمنحني خيالي أكثر من أنها قوادة. وجدتني أتبادل الحديث مع الرجل كأنني ولدتُ في حجره، تقيأت في أذنه كل الكلام المحبوس بداخلي كما أتقيء داخل المرحاض بعد أي أكلة دسمة تخنق أنفاسي، والحق يقال هذا الرجل مستمع جيد، لم تتعب المرأة من الوقوف على ما يبدو اعتادت انتظاره، وجدتني أيضًا أذهب للسهر معهم دون أدنى تفكير، هكذا سحبني بمنديل ورقي وبصوتٍ خشن ولأول مرة يبهرني الضوء، أضواء صاخبة وضحكات عالية تحوم في الهواء وأصوات كؤوس وراقصة لها خصر منحوت بعناية إلهية، ونساء، السمراء والشقراء والحنطية، عالم داخل العالم لا شيء يشبه الخارج لا الناس ولا الضوء كل شيء يلمع إلا قلبي كان باهتًا. ماذا أقول؟ ما أجمل الغرباء قضيت سهرة غريبة على أمثالي، مليئة بالصخب المخيف، والأضواء التي من كثرتها تُعمي العين، عرفت حينها أن للظلام ألوان ! سهرتُ كمن يقضي آخر ليلٍ له، وخرجت من المكان هربًا ! إن هذه الأماكن تتغذى على الليل ويخرج منها أصحابها ليسلموا الشمس لأهلها من البائعين الجائلين، والموظفين وطلبة المدارس فحين خرجت منها ركضًا كانت عقارب الساعة قد تجاوزت السابعة صباحًا.

محبتي وريحان وإلى أن نلتقي في عتمة أخرى.

زر الذهاب إلى الأعلى