ألفونسينا ستورني
كتبت ألفونسينا ستورني ذات يوم: “أنا روحٌ عارية في قصيدتي، روح عارية تمشي وتترك بتلاتها وراءها، كقصة ذلك الطفل الذي يفتّت الخبز خلفه ليجده والداه. لكن أنا لم يجدني أحد. لم يجدني أحد”.
ولدت عام 1892 لعائلة سويسرية ايطالية فقيرة هاجرت إلى الأرجنتين، بين والد غريب وسوداوي، وأم تفتقر إلى الحنان. كانت طفلة انفعالية حساسة سريعة الدموع، تعتقد أنها بشعة. عملت كنادلة في العاشرة من العمر، وفي الثالثة عشرة انخرطت في فرقة مسرحية وجابت أنحاء البلاد، حيث احتكت بالأدب الحديث، وحيث كتبت مسرحيتها الأولى، “قلب شجاع”.
بعد المرحلة المسرحية تابعت الفونسينا دراسات في دار المعلمين وقرّرت أن تكرس وقتها لتعليم المعوقين عقليا، كما بدأت تكتب في مجلات أدبية، ناشرةً أولى قصائدها عندما كانت في الثامنة عشرة. ثم انتقلت إلى بوينس ايرس، لا تحمل في حقيبتها المخلّعة سوى قصائدها وبعض الثياب الرثة. هناك ولد ابنها الأول أليخاندرو وهي في العشرين، ثمرة مغامرة مع مجهول لم يكن له أي حضور في حياتهما. واجهت قدرها بعزم وربّت ابنها بمفردها. في تلك العاصمة المشرّعة على العالم عملت كأمينة للصندوق في محلات تجارية قبل أن تجد منصبا تعليميا، وتابعت كتابتها في المجلات.
صدر كتابها الأول، “قلق شجرة الورد”، عام 1916 بعد صعوبات كبيرة في العثور على ناشر. آنذاك شرعت ستورني في حضور اجتماعات لمجموعات أدبية طليعية يديرها زعماء الفكر الجديد في أميركا اللاتينية، من أمثال خوسيه انريكي رودو وخوليو ايريرا ومانويل اوغارتي. هناك تعرفت إلى حاميها ومشجعها الأكبر خوسيه انخينييروس، وهناك أيضا التقت بالشاعر المكسيكي الرائد في تيار الحداثة امادو نرفو. أهدته نسخة من كتابها فنشر بعض قصائدها في صحيفة “الموندو” الأرجنتينية، بعدما لفتته موهبتها رغم كون نصوصها الأولى عفوية وذات نبرة طفولية مفرطة الحلاوة. الفتاة المجهولة القادمة من الريف، التي لطالما اعتبرت ان الحياة لا تطاق، كادت لا تصدق انها وصلت إلى صفحات “الموندو”.
نشرت ستورني “الأذى الرقيق” عام 1918 وصارت عضوا فاعلا في مجوعة “نوسوتروس” (نحن) التي كانت تجتمع في مطعم جينوفا شهريا لتناقش الأدب الراهن. في الوقت نفسه بدأت زياراتها لمدينة مونتي فيديو، وهي زيارات استمرت إلى آخر حياتها، حيث سيكون لها خلية كبيرة من الأصدقاء والمعجبين الاوروغوايانيين هناك، حد انها كانت تشعر انها نجمتهم وملكتهم. في تلك المرحلة عاشت انهيارها العصبي الأول الذي اجبرها على ترك عملها كمدرّسة. رغم كل حزنها كانت تبدو دائما فرحة، الفونسينا.
نشرت “إحباط” عام 1920، الذي اختزن موهبتها وخطابها الشعريين، ونال نجاحا واسعا في أوساط النقاد. عام 1922، تعرفت في منزل الرسام ايميليو ثنتوريون إلى الكاتب الاوروغواياني اوراثيو كيروغا، الذي سحرها بشخصيته القدرية وطبعه الشغوف. عاشا قصة حب عاصفة، فاكتشفت الفونسينا الحب الحقيقي للمرة الأولى وهي في الثلاثين من عمرها. لكن اوراثيو قرر الرحيل إلى مدينة أخرى عام 1925. طلب منها مرافقته، فترددت وسألت أصدقاءها. قالوا لها: “مع هذا المجنون؟ إياك!”. فانفصل الدربان.
في ذلك العام مات صديقها خوسيه انخينييروس، مما زاد من وحدتها. في العام نفسه أيضا نظّمت مجلة “نوسوتروس” استفتاء سألت فيه قراءها: “من الشعراء الثلاثة أو الأربعة الشباب الذين تحترمون تجربتهم أكثر من سواهم؟”، فكان اسم الفونسينا الأكثر تردداً في الإجابات. كانت الشاعرة آنذاك في الثالثة والثلاثين، وفي رصيدها ثلاث مجموعات شعرية، عندما تُوجّت زعيمة الجيل الشعري الجديد في الأرجنتين.
عندما غزا الشيب رأس ألفونسينا، كانت بالكاد تبلغ الأربعين. خصلات فضية كانت تتموج في رأسها عندما التقت الشاعر غارثيا لوركا، الذي أقام في بوينس ايرس بين تشرين الأول 1933 وشباط 1934. تعرفت إليه في مقهى “تورتوني”، فأهدته قصيدتها الشهيرة “بورتريه لغارثيا لوركا”. في المقهى نفسه حاذت بورخيس ومارينيتي وبيرانديللو، وفي المقهى نفسه أيضا يقال إنها كانت أحيانا تغنّي التانغو.
بدأت كتابة الفونسينا ستورني كلاسيكية في الشكل ثم تحررت مع الوقت. وتخلت الشاعرة سريعا عن عسلها الرومنطيقي لتغوص في السواد، فتحولت فراشاتها أسنانا. في شعرها حضور ساطع للمرأة، لحياتها وأحاسيسها ونضالاتها ومشكلاتها. إنه شعر – سيرة بامتياز، شعر ضد تحويل المرأة محض زينة، شعر يطالب بالمرأة كندّ لا كخاضعة، كفاعلة لا كمتلقية، شعر الحرية في الحياة وفي الكتابة وفي الحب خصوصا، يهدم التصور البطريركي للعلاقة بين المرأة والرجل.
عام 1935 زار السرطان الخبيث صدر الفونسينا، وعام 1936 انتحر حبيبها الأول اوراثيو كيروغا، فكتبت تناجيه: “أن أموت مثلك، اوراثيو… لن يكون ذلك بالأمر السيئ”. هكذا، فجر الثلثاء الواقع فيه 25 تشرين الأول من عام 1938، أي في السادسة والأربعين من عمرها، فتحت الفونسينا باب غرفتها في أحد فنادق “مار ديل بلاتا” وتوجهت إلى البحر. وجد عاملان جثتها على الشاطئ بعدما لفظتها الأمواج في اليوم التالي. يقال انها كانت تنتظر عشيقا لم يأت. كانت كتبت في الليلة السابقة قصيدتها الأخيرة “سوف أنام”: “إذا اتصل بي ثانيةً/ ذاك الذي عبثا أنتظر/ قولي له ألا يصرّ/ قولي إني خرجت”…
ألفونسينا والبحر. البحر وألفونسينا. كتبت عنه وعنها فيه حتى الثمالة، لازمة زرقاء مالحة تتكرر وتتشابك مع صورة الموت، حتى عادت كل نهاية أخرى سواه غير ممكنة. ترى أين ذهبتِ يا الفونسينا بوحدتك، بأي طحالب خنقتِها أيتها الشجاعة الجريحة، وأي قصائد كتبتِ في القاع، هناك، حيث تنامين مرتديةً البحر؟
جمانة حداد، لبنان – عن جريدة النهار اللبنانية