الدين بين السماء والأرض – مؤمن سلام

للدين “أى دين” محورين يعمل عليهما، محور لاهوتي فلسفي عقائدي، يرتبط بالإلهيات وبالغيبيات وما وراء الطبيعة المتعلقة بالإله وطبيعته وقدراته وأسماءه وصفاته، والكائنات الغيبية مثل الجن والملائكة وجودها من عدمه، وإذا وجدت فيبحث في طبيعتها ووظيفتها وعلاقتها بالإله والإنسان. كذلك يتناول هذا المحور طبيعة الثواب مقابل العمل الصالح والعقاب مقابل الخطيئة أو الذنب، ويتناول أيضا النبوة وما يتعلق بها من إمكانية حدوثها ومدى ضرورتها وما يتعلق بالأنبياء مثل هل هم معصومون أم لا، فهو باختصار يتناول كل ما يعتمد على الايمان القلبي وليس البحث العلمي فهو يرتبط أكثر بالمنطق الفلسفي منه بالمنهج العلمي. أى هو محور يرتبط بالسماء أكثر من ارتباطه بالأرض.

المحور الثاني، هو المحور العملي أو الفقهي أو التشريعي، أو المحور المرتبط بسلوك الإنسان ومدى توافقه مع العقيدة التي يعتنقها، فكل دين يضع لأتباعه مجموعة من القواعد التي يجب أن تحكم سلوكياتهم في الحياة، وتختلف العقائد هنا اختلافا كبيرا، فبعض العقائد تتوسع في هذه القواعد فتضع لأتباعها قواعد سلوك سياسية واقتصادية واجتماعية وشخصية، والبعض الأخر تضيق هذه القواعد لتكون قواعد أخلاقية عامة تحكم علاقة الإنسان بربه وبنفسه وبالمجتمع، أما ممارساته السياسية والاقتصادية فتظل خارج إطار الدين اللهم إلا ما يتعلق بقواعد أخلاقية تمنع الكذب والغش والإضرار بالأخرين. وبهذا يصبح هذا الجزء من الدين هو الأكثر ارتباطا بالأرض، فهو جزء من ثقافة الإنسان ويساهم في تحديد سلوك الفرد الشخصي والمجتمعي، ويساهم في تحديد خياراته السياسية والاقتصادية وعلاقته بالعلم والفنون والآداب.

ومن هنا تأتي أهمية هذا المحور الأرضي من الدين، فهذا المحور هو الذي قد يجعل من الدين عائق أمام تقدم الإنسان السياسي والاقتصادي والعلمي والقيّمي أو يجعل من الدين محفز لتطور الإنسانية العلمي والتكنولوجي والثقافي وترسيخ القيم الإنسانية المتعلقة بالحرية والتعايش وقبول الأخر والتعددية والسلام. على عكس المحور السماوي الذي يرتبط بإيمان الإنسان الشخصي ولا يتعداه إلى الآخرين أفراد أو جماعات. وهو ما تعبر عنه المقولة “اعبد حجراً لو شئت لكن لا ترمني به”.

فأنت تستطيع أن تؤمن بما تشاء من العقائد وتتصور ما تشاء عن معبودك، وعن ثوابه وعقابه، وعن مخلوقاته غير المرئية، وعن الأنبياء وما يتعلق بهم، فكل هذا لن يؤثر على الأخر. ولكن، ما يؤثر على الإنسان هو المحور الأرضي الذي قد يأمر المؤمن بهذه العقيدة أو تلك أن ينشرها في العالم حتى ولو بالإكراه وحد السيف، أو أن يفرض طقوسها وتعاليمها على الأخر، أو أن يأمره بالاستعلاء على الأخر وأن يعتبر نفسه فوق البشر والأفضل منهم جميعا، فقط لأنه من أتباع هذا الدين، أو يأمره بتعطيل عقله لأن عقله ينتهي إلى نتائج تخالف ما جاء في المحور السمائي الغيبي، أى أن يجعل من السمائي قيد على العقل. هنا تحدث الكارثة، بتولد الارهاب، وإندلاع الحروب، وإنهيار العلم وما يتبعه من إنهيار الرعاية الصحية والتعليمية ورفاهية الانسان بشكل عام.

ولذلك فالموقف من أى عقيدة لا يجب أن يرتبط بمعتقداتها ومدى ما تحمله من خرافات أو أساطير، فلا يوجد عقيدة تخلوا من الخرافات ولا تمثل الأساطير فيها ركن هام، ولكن يجب أن يكون موقفنا من أى عقيدة مرتبط بتأثير محورها الأرضي على حياتنا، فإذا كان المحور الأرضي متغير ومتجدد ومتفاعل مع الواقع يؤثر ويتأثر به، ولا يحاول أن يصب هذا الواقع في قوالب تشريعية أكل عليها الدهر وشرب، ولا يحاول أن يحبس العقل ويقيده بقيود الحلال والحرام، ولا يحاول أن يجمد الأخلاق داخل منظومة أخلاقية لم تعد تتوافق مع نمط الحياة الجديد والمختلف بشكل جذري مع نمط الحياة وقت ميلاد هذه العقيدة، ما يؤدي إلى تقييد حركة المجتمع وانتهاك خصوصية الإنسان وممارسة الإستبداد المجتمعي على الفرد، وهو ما يمهد لاستبداد السلطة السياسية، فالاستبداد كما الديمقراطية ينطلق من ثقافة المجتمع قبل أن يكون نمط حكم.

أما الجانب السماوي وما يرتبط به من روحانيات وطقوس فهو أمر لا يجب أن ننشغل به، فهناك من بني الانسان من يحتاجون هذه المعتقدات والطقوس والروحانيات فبدونها قد ينهاروا نفسيا ولا يستطيعوا مواجهة ضغوط الحياة، وهذا لا يعني أن لا يتم دراسة هذا المحور من الدين في الجامعات والكليات والأقسام المتخصصة، ولكن يجب أن لا ينشغل بها دعاة التنوير والحداثة لأن معركتنا ليست مع السماء ولكن مع الأرض، لصالح الإنسان ورفاهته.

مؤمن سلام

26/6/2017

زر الذهاب إلى الأعلى