منذ أول أشكال الجدران، وقد اهتدت إليها مخاوف الإنسان ليحدّ من سعة العالم من حوله، يوم كانت السعة مثاراً لما لا ينتهي من الظنون، والجدار يقترح نوعاً من العلاقة مع العالم يكون بمقدوره التعبير عن المتناقضات عبر ممارسة جدل لم ينقطع، وهو يمثل صورة أولى لإحلال التنظيم الإنساني، بحسب قول هنري برغسون، محل قوانين الطبيعة..
قبل أن يغمض الإنسان عينيه ويفتحهما وقد قامت حوله ملايين الجدران، تُجرّد، في فعل متصل، قوانينَ الطبيعة، وتسعى لإقامة عالمها الآمن داخل صرامتها وقسوة أفعالها… جدران لا تحدد نوعيتها غير حاجات الإنسان المتجددة في كل زمان، تعالج المكان، وتُطوّعه لتؤآخيه وتحد من أهواله، فيقف الجدار حجاباً بين الذات والأخر حيث تصنع الذات، في مربع جدرانها، عالمها وينصت الفرد إلى طبائع فرديته وقت يعزلها عن العالم. سيبدو الصمت من أول جدران الإنسان وأكثرها قدماً، لحظة ينقطع عما حوله لينصت لصوته الخاص، يستمع ولا يقول، مثلما ستبدو الظلمة جداراً تقيمه كائنات الليل لتفصل العالم عن مياه النهار بأمواجها الغامرة.. الجدار، في هذا الجانب من الصورة، غيب، غروب، غربة، فهل يكون، من جانبها الآخر، علناً لفكرة، وامتداداً لخطوة، واقتراح وطن؟. ليس من المصادفة ان يكون للجدار وجهان، وجه للعالم وآخر للفرد في صمته وعزلته وانقطاعه، كأنه لا ينفصل، إذ يَفصل، عن مهمته الأساسية: إقصاء العام عن الخاص، وعزل الذات عن الموضوع، إنه يوثق هذه العلاقة، ويقف شاهداً عليها، فلا ينأى الفرد عن العالم بغير أن يجسد صلته معه ولو عبر جدار.. من هنا كان للجدار وجهان: وجه تحياه وتمارس وجودك على مساحته صوراً وخرائط وأرقاماً وذكريات، وآخر مرآة للعالم وحقل تحرثه الفصول.. في الوقت الذي تقرأ حياتك على الوجه الداخلي لجدار بيتك يُشاع الوجه الخارجي فتحتك به أيدٍ غريبة، وتلوثه رياح، وتأوي إليه حيوانات الليل والنهار، انه يوحد بين كائني الخوف، الإنسان والحيوان، لحظة يفصل بينهما وهو يمتد ويؤي، ويُكتم الوجه الداخلي، مقفلاً على أسراره، مانحاً إنسانه بانكتامه ما يستطيع من حرية.. تبني جداراً لتنام، تأوي إلى ذاتك، تتعرى، تحس بكيانك العضوي مثل سحلية في جحر…
ستوحد الجدران، بذلك، العالم وتحرس طبيعته، فلا تبدو الحرية، عندئذ، إلا إنشاء لعالم ينهض مواجهاً عالماً أشد سعة وامتداداً، وأكثر مفاجأةً ووحشيةً، إنها مواجهة يصوغها فعل تنظيم قديم في حوار عوالم، ومواجهة رؤى، لا جدار بلا حرية تظلله، وتترصد وجوده إلا جدار السجن حيث تنأى الحرية، وتُزال النوافذ، وتُغيّب القيم الذاتية، يصبح الإنسان مُستلَباً بلا جدار من حميمية يستند إليه. وتندفع الجدران في لجاجة هندسية لتقيم معابد، وتؤسس مدناً، وتنشئ أنفاقاً وسراديب.. تخطو مع الإنسان، تدرج على مدارج حضارته، تقيمها وتقام بها، تحاكيها وتحكي عنها، تحدها وتفتحها، متحدثة عن ذلك بالحك، والخدش، والحرف، والحز، والنتوء، بالنقر، والزخرف، والرسم، والشطب، والتلوين، بأفعال الطبيعة وأفعال البدن، بأعين الصُلب المفتوحة وآذانه المتنصتة، فيملك الجدار، عندئذ، فتنة ما ينشئ وما يُقيم، فيُقدَّس جدار المعبد، ويُحَنّ إلى جدار البيت، ويُهاب ويُخشَى جدار مظلم في سجن، إنها جميعاً تنفتح، بما تؤسس وما تقيم، على ماضٍ ملتفٍ، وحاضر صادم، وقادم لا يبين، وفي دفق الزمان يقول الجدار كلمته، ويتنصت أعماراً لأصدائها، ومثلما تغدو الآلة بعضاً من جسد الإنسان، يتشكل الجدار بعضاً منه إذ يُجبَل على نحو آخر من صلصال الحنين، وطين الذكرى. سيغدو لكلمة بول ايلوار ( بين المدينة والإنسان لم يكن يوجد حتى سمك جدار) معنى آخر يتماها فيه الجدار ويشف ليقيم نظاماً من العلاقات، فلا مدينة بلا جدار، ولا جدار بين الإنسان ومدينته.. يغيب الجدار في ظل الفكرة هذا لتنهض علاقة طرفها الأول وميدانها حياة الإنسان وتجاربه، وطرفها الثاني وميدانها حياة المدينة وهي تقترب شيئاً فشيئاً من الإنسان، تتماها معه لتغدو في الأخير إنساناً من أبواب ونوافذ وطيور وطرقات.. تؤسس الجدران المدينة كما تبني حلماً من ضوء ثم تطلقها في فلاة العاطفة تركض مثل غزال، كلما ثقلت موازين جدرانها خفت خطواتها وتقافزت من أعلى جدار إلى أعلى جدار.. إنها مؤن العذوبة تُشاغل حياتنا، وتخفف عن كياناتنا الطينية ما يركد من عناء السنين، سننصت لانطوان سانت اكزوبري وهو يهمس في أرض البشر (إن أعجب ما في منزل ليس في أنه يؤويك أو يدفئك، أو في أنك تملك منه الجدران، ولكن في هذا الذي يضعه فينا، هوناً ما، من مؤن العذوبة).
تغيب المدينة، في آخر الحلم، ويغيب الجدار، وتظل الذكرى وحدها بئراً للتفاصيل الدقيقة، وهي تطرز، على مهل، أعمارنا. تتوجه للحديث عن الجدار فإذا بك تستمع إلى صوتك، وقد تشبّع بنبرة رثاء قديم، ربما لما يجمع الجدار من رباط بأنفسنا، وهو الرباط الذي يختلف على نحو كلي مع ما نجده من شعور تلتقطه قصيدة لـ كافافي وتعبر عنه، إن قدراً من الحزن يراودنا إلى زمن بعد انتهاء قراءة القصيدة ووقوعها في البياض، ثمة جدران عالية تحيط بنا كأنما يُنتبَه إليها فجأة، إنها القدر الذي يزرعنا هنا ويبعدنا عن الهناك، عزلة قاطعة ينجزها بناؤون غير مرئيين، فلا يظل لدينا غير أن نفكر فيما تبقى من أعمارنا وقد كبلتها الجدران:
(وما دامت لدي أشياء كثيرة أقوم بها في الخارج،
فلمَ لم أحاذر حين أخذوا يبنون حولي الجدران؟).
ذلك الشعور الذي يتكثف ليضعنا، من جديد، بمواجهة أنفسنا، وقد ارتفعت من حولنا جدران شاهقة مثل مرايا تتكشف على مياه فضتها دواخلنا، نحن المعزولين بجدران ذواتنا عن العالم، من هنا نلتقط معنى تضيفه القصيدة لفكرة الجدار: لا يتشكل الوجه الخارجي للجدار وحده مرآة للعالم، الوجه الداخلي أيضا يشكّل مرآته لمكاشفة الفرد وكشف دخيلته. هل يكون الجدار، بذلك، مرآة صامتة، أو مترقبة على نحو أدق؟ وهل يخطو من فكرة المكاشفة، وهو يؤدي دوره في وظائف حبس أبدية، إلى فكرة المتاهة؟ فلا متاهة من دون جدار، حتى لو لم يكن من جدار، فثمة، أبداً، جدار، في قلب الفكرة وهي تنقلنا من هوة إلى هوة، ومن قبو إلى قبو، ومن طريق موحش إلى طريق، المتاهة واحدة في بحر أو صحراء أو داخل قلعة أو بين دفتي كتاب، إنها تقيم، على نحو متشابه، رعبها الغامض الذي يفجّر فتنةً غريبةً في أعماقنا أكثر مما يعزلنا عما حولنا، وهي تعيد ترتيب صلتنا بالعالم ليبدد كل ما هو مألوف أخلاقياً في العمارة ويسن سلوكاً من صمت مطبق.. حيث تغيب النافذة يحضر الصمت، يقوم جدار كونكريتي ذو طبقات، يعزل ما يحدث خلفه عن حياة الناس ولمس أنظارهم، قبل أن يلتف التفافته العظيمة ليفصل العامة عن العالم، ليدور الناس دورتهم الأبدية، بإرادة جدار صامت، في فلك السلطة ومقدساتها… إن جدراناً متشابهة لا تنشئ وطناً، إنها لا تنشئ غرفة حتى، في شعرية العمارة يكتب الدكتور أسعد الأسدي (إن الغرفة تنشأ بجدران متمايزة عن بعضها، ففي أحدها نافذة وفي الآخر باب، وثالث يظلل الفناء وآخر يشكل أرضية الغرفة، كذلك البيت ينشأ بغرف غير متشابهة تختلف مع بعضها بسبب تداخلاتها المعمارية والإنشائية، وهذه التداخلات انعكاس لضرورات خفية غير ظاهرة).. فهل تعي أنظمة من جدران مسلحة معنى الضرورات الخفية للاختلاف، وهل تفكر بالاختلافات والتمايزات وهي تصنع بائتلافها وطناً، وهل تنصت، في أعماق هوسها بسلطان العمارة، لقوة حقائقها؟. كلما ارتفع جدار وتضخم تكشّف ما وراءه من سر وأُبيح ما يُغيّب من ألغاز، للجدار، وحده، أن يمنحنا فكرة عما خلفه، يفضح في الوقت الذي يُشيَّد بحرص ليخفي ويخبئ مواصلاً لعبة تناقضاته.. يقتضي ذلك وجود أنواع من الجدران تكفي لمتوالية ألغاز السلطة ودوائر أسرارها، وتقيم، بصرامة كونكريتية، متاهاتها.. جدران تحيط عالم الخوف وتسوّر ممالكه… ستسهم نقاط الحراسة المحصنة وقد رُفعت فوق كل ركن بأن تمنح الجدران، بقصدية عمرانية مسرفة، شكل القلاع الأسطورية والحصون لعلها تفلح في مطابقة نسختي الواقع والخيال، حيث يُخلي الواقع الساحات الفسيحة بجانب الجدران كما يُخلي دواخلها لصالح الخيال، وربما كان ذلك واحداً من أهدافٍ تحققها السلطة وهي تُنجز هيمنتها بما تبني وتخبئ خلف أسوارها وإن بقيت بناياتها، بعد زوالها، كما بقي الكثير من قصور الرئاسة العراقية، خالياً يصفر فيه الهواء.. ثمة، أبداً، سلطة تُحصّنها جدران حصينة، وتحرسها سرايا مسلحة لا دور لها غير أن تملأ المشاهد الشاغرة لسلطتها.
ستُسجَن الجدران، بهذا المعنى، في غيب بطولةٍ قامعة، وتتهاوى على الرغم من صلابتها وسرايا حراساتها، في لحظة، مثل قلاع من ورق.
عن المساحات الفسيحة التي أرعبت الإنسان لحظة وضع قدمه على الأرض فقام في ذهنه أول الجدران…
عن جدران دواخلنا نعود فنتحدث…
عن جدار يقيم بيتاً، وينشئ مدينة، ويقترح متاهة..
عن أناس يقيمون، خلف جدار، وآخرين يمرون من أمامه بلا ظل ولا ذكرى..
من يفكر بجدران الحوادث والحروب؟ حيث تُهزّ جدران فتتخلى عن مواثيق ألفتها فيقتل جدار الصف طلابه، وجدار المنزل عائلته، ويُبقي، كأنما بانتقاء عاقل، واحداً من طلاب الصف، واحداً من أفراد الأسرة، ليتذكر نقض المواثيق من دون أن يحكي أو يُشير.. سيلتقط مارسيل ايميه آخر الخيط فيحدثنا في قصته (عابر الجدران) عن رجل يملك بفعل حبّة نادرة أن يعبر الجدران ماراً دونما حاجز من مكان إلى مكان، تشهد المدينة بعبوره حوادث غريبة حتى يُشك بأمره ويُلقَى القبض عليه، لكن الحوادث تستمر والسرقات تتوالى على الرغم من وجوده في السجن، يُحيّر الأمر المدينة ويبلبل مسؤولي الأمن فيها، حتى تنقطع الحوادث فجأة وتكف السرقات، فقد خاض صاحبنا آخر مغامرات عبوره ناسياً أن يبتلع حبته، نعلم ذلك، نحن القراء، قبل أن يكتشفه هو متحسساً ضمور قواه وصعوبة حركته بعد أن يدخل أحد الجدران.. سيظل بطل مارسيل ايميه في غيب جدار ما، خلفي أو خلفك، يتنصت في عمق حسرته إلى ما يتسلل للدواخل المعتمة من أصوات…
*عن مجلة ألواح
**عن لؤي حمزة عباس:
أديب وقاص عراقي، يعمل أستاذ الأدب الحديث في كلية الآداب بجامعة البصرة. أنجز أولى أعماله القصصية في تسعينيات القرن العشرين، واستطاع أن يحقق حضورًا مميزًا في المشهدين الأدبي والثقافي في العراق والوطن العربي.