رسائل غسَّان كنفاني إلى غادة السَََّمان

‏24/1/1967‏
غادة…يا حياتي!‏
كيف تقولين لي: ((لاألومكَ، لك الحق…في الدفاع عن توقيتك لرحلة صيد انتهت؟)) كيف تفكرين لحظةً ‏واحدة بأن هذا التعيس الذي ينتظرك كما ينتظر وطناً ضائعاً يفعل ذلك؟كيف تعتقدين أن ذلك الرجل الذي ‏سلخت الشوارع قدميه، كالمجنون الطريد، ينسى أو يوقِّت أو يدافع عن نفسه أو يهاجم؟ولكنني أغفر لك، مثلما ‏فعلت وسأفعل وسأظلّ أفعل.
أغفر لك لأنك عندي أكثر من أنا وأكثر من أي شيء آخر، لأنني ببساطة ((أريدك ‏و أحبك ولا أستطيع تعويضك‎ ((‎‏* ‏
لأنني أبكي كطفل حين تقولين ذلك، وأحس بدموعي تمطر في أحشائي، وأعرف أنني أخيراًمطوق بك، بالدفء ‏والشوق وأنني بدونك لا أستحق نفسي!.
أنت، بعد، لا تريدين أخذي، تخافين مني أو من الناس أو من المستقبل ‏لست أدري ولا يعنيني.
ما يعنيني أنك لا تريدين أخذي، وأن أصابعك قريبة مني، تحوطني من كل جانب، كأصابع ‏طفل صغير حول نحلة ملونة: تريدها وتخشاها ولا تطلقها ولا تمسكها ولكنها تنبض معها..
أعرف أعرف حتى ‏الجنون قيمتك عندي، أعرفهاأكثر وأنت غائبة وأمس رأيت عمارات الروشة، صدقيني، عارية مثل أشجار سلخها ‏الصقيع في البراري، تطن عروقها الرفيعة في وجه السماء كأنها السياط..
بدونك لا شيء.وهذا يحدث معي لأول ‏مرة في عمري التعيس كله.لماذا أنت معي هكذا.إنني أفكر بك ليل نهار، أحياناً أقول إنني سأخلصك مني ويكون ‏قراري مثل قرار الذي يريد أن يقذف نفسه في الهواء، أحياناً أقول أنني سأتجلد، إنني، كما توحين لي أحياناً، أريد أن ‏أدافع وأهاجم وأغير أسلوبي، أحياناً أراك: أدخل إلى بيتك فوق حطام الباب وأضمك إلى الأبد بين ذراعي حتى ‏تتكونا من جديد، عظماً ولحماًودماً، بحجم خاصرتك..ولكنني في أعماقي أعرف أن هذا لن يحدث وأنني حين ‏أراك سأتكوم أمامك مثل قط أليف يرتعش من الخوف…فلماذا أنت معي هكذا؟
أنت تعرفين أنني أتعذب وإنني ‏لا أعرف ماذا أريد.تعرفين إنني أغار، وأحترق وأشتهي وأتعذب.تعرفين أنني حائر وإنني غارق في ألف شوكة ‏برية..تعرفين..ورغم ذلك فأنت، فوق ذلك كله، تحولينني أحياناً إلى مجرد تافه آخر، تُصَّغرين ذلك النبض القاتل ‏الذي يهزني كالقصبة، معك وبدونك.
أحياناً تأخذينني على محمل أقل ذكاء مما ينبغي.
من الذي رأيتُه، أيتها ‏الغالية، في الثامنة والنصف من آخر ليلة كنتِ فيها في بيروت؟إنه شيء تافه وصغير ولكن يبدو أنني أحياناً ‏أتوقف لأقتلع من راحة يدي شوكة في حجم نصف دبوس..ألا تفهمين أن هذا الذي ينبض داخل قميصي هو ‏رجل شرقي خارج من علبة الظلام؟حتماً تعرفين. أنت هائلة في اكتشاف مقتلي لذلك تهربين مني ‏أحياناً، لذلك((لا تقولين)) ولذلك بالذات تقولين!
لنجعل من نفسينا معاً شيئاً أكثر بساطة ويسراً، لنضع ذراعينا ‏معاًونصنع منهما قوساً بسيطاً فوق التعقيدات التي نعيشها وتستنزفنا..لنحاول ذلك على الأقل.أنت عندي ‏أروع من غضبك وحزنك وقطيعتك أنت عندي شيء يستعصي على النسيان، أنت نبيَّة هذا الظلام الذي ‏أغرقتني أغواره الباردة الموحشة وأنا لا أحبك فقط ولكنني أؤمن بك مثلما كان الفارس الجاهلي يؤمن بكأس ‏النهاية يشربه وهو ينزف حياته، بل لأضعه لك كما يلي: أؤمن بك كما يؤمن الأصيل بالوطن والتقي بالله ‏والصوفي بالغيب.لا.كما يؤمن الرجل بالمرأة!
كتبت لك منذ أربعة أيام أو أكثر رسالة، لم أكن أعرف عنوانك ‏قبل ذلك، وكتبتها يوم وصلت رسالتك إلىَّ، بعد خمسة أيام من وصول رسالتك لعاطف*..وأرسلت لك فيها ‏قصاصات(يقولون هذه الأيام في بيروت،وربما في أماكن أخرى،أن علاقتنا هي علاقة من طرف واحد، وأنني ‏ساقطٌ في الخيبة، قيل في الهورس شو* إنني سأتعب ذات يوم من لعق حذائك البعيد.يقال أنك لا تكترثين بي ‏وأنك حاولت أن تتخلصي مني ولكنني كنت ملحاحاً كالعلق.
يشفقون علي أمامي ويسخرون مني ‏ورائي، ويقرأون لي كما يقرأون نماذج للشاعر المجنون*…ولكن ذلك كله يظل تحت ما أشعره حقاً، فأنا أحبك ‏بهذه البساطة والمواصلة التي لا يمكن فهمها في شارع الحمراء، ولا على شفاه التافهين).
أرى عاطف أحياناً: يمر ‏على مكتبي ونتحدث عنك ولكنه يشعر بالبرد فيذهب إلى بيته، أما أنا فالبيت أكثر برداً من أن أذهب ‏إليه..يسألني عن شخص مسافر إلى لندن، أعتقد أنك طلبت منه أن يرسل شيئاً لك..إنه في صحة جيدة ‏ويضحك دائماً وموجود في كل مكان، كما تعرفينه، ومنذ أسبوع تقريباً ذهبنا وشربنا معاً كاساً صامتاً حوالي ‏ساعتين.وأمس ليلاً كان هنا وقال لي إنه سيكتب لك، فقلت له أما أنا فقد فعلت.ضحك وقال: 12 صفحة؟
‏منذ ذهبتِ سافرت آني إلى دمشق، وحتى الآن لم تعد فالطريق مغلق بالثلوج والجو بارد ولكن سيارتي تتقد دائماً ‏وعجلاتها لا تكف عن سلخ الإسفلت، دونما هدف.
الراديو أخرس ما يزال، والشوفاج فوضى، والزمور لا يصرخ ‏إلا إذا انعطفت لليسار والسائقون الآخرون مستعجلون كما كنا نراهم دائماً لا أفتح لهم الطريق إلا مع شتيمة ‏وليلة أمس غيرت عجلاً تحت المطر قرب المكان الذي غيرت فيه ذات يوم عجلاً صعباً معكِ، وحين انتهيت خُيِّل ‏إلي أن وجهي كان مغسولاً بالدموع لا بالمطر: فقد فتحت باب السيارة وتوقعت أن يسقط رأسك المتكيء على ‏الباب، كما حدث ذلك اليوم.تعالي، يا أجمل وأذكى وأروع قطة في هذا العالم كله.ألم تشتاقي لماكس والقرد ‏المدهوش والحطاب الغاضب والعجَّانة*؟ألم تشتاقي لغسَّان؟كنت آسفاً جداً حين كتبت لك عن تلك الألمانية* ‏التي نسيت اسمها الآن.خشيت أن تتصوري أنني أمتع نفسي بطريقة أو بأخرى.لا.لقد كانت كاساً باردة ‏لكحول عمياء أمام طاولة رجل طريد.إن الحرية لا يمكن أن تكون شيئاً يأتي من الخارج، وأنا الآن رجل طليق ‏إلى أبعد حد، ولكنني حين التفت أسمع أصوات السلاسل الغليظة تخش وترن في صدري..أريد أن أكتب لك،أن ‏أكتب لك كل لحظة،ليل نهار: في الشمس التي بدأت تشرق بحياء، تحت سياط الصقيع، في الصباح البارد والمساء ‏والعتمة، في ضياعي وجنوني وموتي..(اطمئني: إن صحتي جيدة، وآخر ثلاثة أيام كنت مريضاً جداً ولكنني لم ‏أنم، واليوم أتحسن)لم أكتب شيئاً في روايتي، أعمل كمحرر كما كان يعمل العبيد العرايا في التجديف، لدي فكرة ‏لمسرحية سترينها في الأوراق الخاصة* لا أعرف متى سأكتبها..أعرف فقط أنني أنتظرك.‏
أنتظرك.أنتظرك. أنتظرك.وأفتقدك أكثر مما في توق رجل واحد أن يفتقد امرأة واحدة، وأحبك، ولن أترك أبداً ‏سمائي التي تحدثت عنها((تفجر الثلج))، إنني فخور بآثار خطواتنا ولا أريد لشيء، حتى السماء، أن تكنسها.‏
‏ غسان كنفاني‏
بيروت(الآن وغداً وإلى الأبد)‏
ولكن صادف أن كتب في 24/1/1967‏

‏*استشهاد من زاويته ((أوراق خاصة))في جريدة المحرر.‏
*عاطف السمرا.‏
‏*أحد مقاهي الأدباء في الستينات في بيروت.‏
‏*كان غسان يكتب نصوصاً وجدانية في زاويته الخاصة بجريدة المحرر ولعلها لم تجمع بعد في كتاب.‏
‏*تماثيل في بيتي كان يطلق غسان عليها الأسماء ويحاورها وعلى رأاسها بومة أسماها ماكس!.‏
‏*نسي أن يكتب لي عنهاو نسي أنه نسي!.‏
‏*اسم زاوية في جريدة المحرر يومئذٍ.‏

صدرت عن دار الطليعة -بيروت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى