سهير رجب الشرقاوي – أن تكون إنسانا

369f2070da0ad8fb6a6e47f49003055c سهير رجب الشرقاوي - أن تكون إنسانا
بشكل ما, بوضوح. او بغير وضوح تام. و في اغلب الاحيان, و مع غالبية من التقيت, كان هناك ذلك النموذج و الاب الروحي, و هذا مفهوم تماما بالطبع,لكن ما لم يكن مفهوم بالنسبة لي يوما هو أن بعضهم وجده داخل عائلته, أخ, أب, أو حتي ام و خالة أو خال, فمنذ كنت طفلة, لم يخطر لي قط علي بال أن ابحث داخل عائلتي عن نموذجي المنشود, بل تركت الأمر للصدفة التي غالبا لم تاتي, فخرجت خاوية اليدين من أي نموذج خاص, قد يلهمني أو يصحبني في طريق أنا فيه بأمس الحاجة لصورة عما هو صالح, أو بالأحري بصورة عما يربطني بالصلاح.
أتذكر يوما بالتحديد. كنت في الثانوية العامة تقريبا, يومها كنت ساهرة للمذاكرة, و تقريبا في الساعة الثالثة بعد منتصف الليل, دخلت أمي حجرتي و جلست فوق سريري, الذي صنعوه من سرير جدي القديم, و الذي كان في الأصل مغسلة للموتي, يمددون الميت فوقه لتغسيله قبل الدفن, هذا ما أعرفه أو ربما أمي من كانت تدعوه بذلك, تلك الليلة كان يظهر علي وجه أمي البؤوس و الحنان في الآن نفسه, آتية لتحدثني في شأن يخصني أنا لا يخصها هي, بكل هذا الحنان و البؤوس المغري, الأمر الذي جعلني أشعر أنني إنسانة كاملة للمرة الأولي و أن لي كيان و رأي و ربما فعل و تأثير, قالت و هي تبكي بعد أن جلست, “ربما ستكون هذه صدمتك الأولي في الحياة”, و أن الحياة كذلك ستكون مليئة بالصدمات التي ستتلقيها يوما بعد آخر, و أنني مؤكد قوية بما يكفي للسير قدما دون أي تخلخل, أفزعني الحديث و أخذ عقلي ينقل سير الأحداث الطبيعي, في الغالب سيطلقها أبي, و سيتزوج من أخري, أو أنه في أبسط الأحيان سيطلقها و فقط.
لم تدمع عيناي و لم يتحرك لي جفن, فقط إنتظرت بصبر لا أعلم من أين أتيت به, قالتها أخيرا, “عمك يحيي إتوفي”, لا أعلم. حاولت أن أجلب الدموع, أن أشعر بالحزن, أن يحدث أي شيء يدل علي تعاستي و سوء حظي و نكبتي, و لكنه لم يأتي أبدا, و أخيرا, إضطررت لإدعاءه, لأعطي لأمي ما تتوقعه, بأعين تحاول أن تُسقط بضع قطرات, سألتها, أسئلة منطقية للغاية, هي كل ما جاد به عقلي, متي و كيف و ما العمل الأن؟, و لا أعلم لماذا شعرت أنني أدينهم, أنني أكن كره دفين تجاههم, و أن هذا الشأن هو ذنبهم في الأول و في الأخير, و كأنها جريمة قتل حضرها عقلي و صاغها في صورة كاملة.
طوال الطريق لم يحركني شيء سوي شغفي بالسفر, تجولت عيني هنا و هناك و أنا أراقبهم يأكلون و يشربون, و أقول في نفسي رغم جوعي و عطشي, أن هذا إكمال لجريمة, و أن عليهم أن يتوقفوا عن فعل دنيئ كهذا, إختروني للذهاب معهم دونا عن الجميع, و كانت أمي تقول بفخر, أنني أحبه بشدة لذا وجب أن آتي لأحضر العزاء بنفسي.
الطريق كانت عملة جيدة أشتري بها الذكريات و يفيض منها, تذكرت خلاله لحظاتي معه, في مرات, كنت أنام علي كتفه, و في مرات كنت أستمع لحديث أمي عنه و عن كيف أنه يختلف عن بقية العائلة, و في مرات عن قصة حبه لزوجته التي أبعدته عنا كيلومترات يلزم لها ساعات و عمر لقطعها, و مرات أخري أشاهد نقاشه الهادئ أمام أبي و عمي, و أمام غطرسة الجميع و تكبرهم, و مرات أخري و هي الأهم, شاهدته ككائن آخر, مخلوق لم نسميه بعد في بلدتنا, هو أسمي من الأنسان الذي أعرفه مخلوق علي شاكلتي و شاكلة البقية ممن هم حولي, كائن يحافظ علي إنسانيته كل يوم, كل يوم يصحو و يأخذ مهمة الحفاظ علي كونه إنسان كمهمة كونية_ كما يحب صديقي أن يصف أحد المقربين_, مهمة يتوقف عليها سير الكواكب و ظهور الشمس و القمر و غناء الطيور.
رأيته مرة, مرة وحيدة يطلب شيء واحد لنفسه, يطلب عائلة, هذا ما قاله, طلب منهم أن يكونوا بجواره خلال حدث ما, و رفضوا!, وقتها تماما, عرفت أن هذا الكيان الذي يصعب علي فهمه, هو هدف صعب لمن هي مثلي, صعب أن تقترب منه لأنها مؤكدا ستصيبه بالخيبة كعادتها.
في الجنازة التي كانت تشبه إحتفال غربي ما, أؤلفه أنا الأن, و أصيغ أركانه, (حيث يصمت الجميع و يتناولون الطعام طوال الوقت, و بين حين و أخر يصرخ أحدهم علي خلفية صراخ مستمر من بطل الحفل وهو العائلة القريبة), شاهدت ما يعنيه الزيف, كنت حينها أُعُرف المصطلحات بأشخاص و كيانات, فالرضا مثلا يمكنني أن أقول أنه كان فيل وردي اللون, بينما الزيف, كان في أغلب الحضور و ربما في أنا نفسي.
رحلت و ليس لدي ما أسرده أنا فقط تقمصت الدور كما كان ينبغي أن يكون, و ربما بين لحظة و أخري صحبني الصدق, عندما سرد لنا شخص ما سبب موته, شعرت كم أنا غريبة عنه, أو أنهم في الأساس كانوا يتحدثون عن شخص ما غيره, شخص ما كان لأحد أن يعرفه, ما كان لأحد أن يمسك بخياله, و ما كان بخياله أن يستجيب لأحد, لقد كان مريض قلب, و قد فسر هذا لي كيف أنه حرك رأسي بعض الشيء عن صدره خلال مراته الأخيرة في المنزل, و عندما رفعتها تماما أصر علي أن أعيدها و أن كل شيء بخير, سقط في السوق و لم يرفع ظهره مرة أخري, و كتب له ألا يكمل رحلة ربما خلق لأجلها في الأساس,لماذا؟ حقا لا أعرف.
يصعب علي أمثالي فهم ذلك, كل ما حدث منذ ذاك الحين و في هذا الشأن تحديدا كان بعيد كل بعد عما كانت ستفعله أناي التي أنا عليها, فأنا لم أتخذ منه مادة خام للحزن أبدا, فكرت بضعة مرات أنه علمني بعض أشياء فقط, مثل أن البشر يجب أن يتلامسوا من حين لآخر, و مثل أن هناك معني و مصطلح جديد, يفسر به الإنسان, إنسان غير كل ما أعرفه عنهم, و حتي و خلال رؤيتي المطولة لأفراد يتخذون أعمام و خيلان و أباء كنماذج, فأنا لم أفكر فيه علي هذا النحو قط, فقط فكرت أن لماذا ظهرت أنا كفرع شيطاني في أرض تلك العائلة, و ما الذي يجعلني مختلفة كل هذا الإختلاف عنهم, و لماذا أكون في غرابة الأطوار تلك و أبي و أمي من طين أرض بلدتنا و من مآئها؟!, و ربما في بضعة مرات بحثت لي عن جذر كأي أنسان, خاصة إن كان يؤمن بالجذور و الصلابة ككل أهل الريف, و قط لم أجد, فقط أديت شعور يخلصني من البحث, كأن أتوهم أن هناك في البعض من أسرتي بعض الأمور غير المألوفة, و ربما أنا تشكيلة من هذا كله.
في مرتي الأخيرة في منزل عمي يحيي, تماما قبل إلتحاقي بسيلاس بأيام, تذكرت إبنته ألبومات صورهم معه, الصور التي جمعتهم به, أو جمعت فيها فترة كان يؤنس هو فيها وحدتهم, جلس الجميع لمشاهدة الألبومات بينما لم أفعل أنا و بررت هذا لنفسي بأنني بالفعل لا أفهم مغزي الناس من إلتقاط الصور أو من إعادة مشاهدتها من جديدة, و أنه أمر ممل كأقصي ما يكون الملل, حتي سمعت أحد الحضور يتساءل عن صورة فتاة صغيرة غير مألوفة, تمسك بمخروط من البسكويت ممتلئ بالجيلاتي, و تضحك و كل براءة تجمعت في ضحكتها, كأن الله كشف لها الغيب و علمت أنها لن تشقي يوما خلال حياتها القادمة,أجابت زوجة عمي عن التساؤل و قالت أنها طفلة ما رأها عمي أثناء تواجدهم بالمكان و كانت جميلة, ممتلئة الجسم تأكل الأيس كريم و تبتسم فسألها أن يلتقط لها صورة و وافقت و ها هي, تحي بعد مماته كأول أهمية للصور و التصوير الذي لم أدرك له ميزة واحدة مذ عرفته.
مرت دقائق و أتت إبنة عمي بمجموعة من العملات المعدنية و الورقية, مجموعة مميزة للغاية في الحقيقة و بالطبع كان عمي هو من ينفذ هوايته تلك بكل حب و بكل إصرار, وقتها و حينها فقط, شعرت أنه مات, أنه رحل عن الكون قبل أن يتسني لي معرفته بحق, أنني فقدته, و أنني الأن سأعاني جراء فقده هذا, سأعاني كل صدمات عمري بنفسي و بلا ساند أو مساعدة, و أنني و لأول مرة قد أبكيه أمام الجميع و أنطق بإسمه و صفته كنموذجي الوحيد, نموذج لم يتثني له أن يعلمني تفاصيل الحياة, و إكتفي بإهدائي إنتماء تجاه شخصه, و جملة, جملة تقول أن الحرب الوحيدة التي تستحق, هي محاربتك للعالم الذي ينتزع منك كل ما تملك, ينتزع منك كيف تكون إنسان كل يوم, كل دقيقة و خلال عمر بأكمله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى