فروغ فرخزاد – تلك الأيام

ذهبت تلك الأيام‏

تلك الأيام الجيدة، ‏

الأيام الممتلئة والنزيهة، ‏

تلك السماوات المغطاة بالـبلك * .‏

تلك الأغصان المثقلة بالكرز، ‏

تلك البيوت المتكئة معاً على غلاف‏

اللبلاب الأخضر، ‏

سطوح البالونات اللعوبة تلك، ‏

تلك الأزقة السكرى من عطر الأكاسيا.‏

ذهبت تلك الأيام‏

حيث من بين شقوق أجفاني‏

يتصاعد غنائي مثلما فقاعة تغلي‏

مترعة بالهواء، ‏

وحيث تنعكس عيني على كل الأشياء‏

وتشربها كحليب طازج، ‏

كأنما في بؤبؤيَّ أرنب قلق وسعيد‏

يسافر كل صباح مع الشمس العجوز‏

إلى حقول مجهولة، ‏

وفي الليالي‏

يغوص في غابات العتمة.‏

ذهبت تلك الأيام‏

الأيام الثلجية الآفلة‏

عندما من وراء الزجاج، في الغرفة الدافئة، ‏

دائماً‏

أتأمل في الخارج، ثلجي الطاهرَ‏

كيف يتساقط مثل زغب ناعم‏

بهدوء‏

على السلم الخشبي القديم‏

على حبال الغسيل المرتخية‏

على ضفائر الصنو برات العجائز‏

وأفكر بالغد…، ‏

آه‏

الغد: حجم أبيض صقيل‏

يبدأ مع حفيف عباءة جدتي؟،‏

مع بزوغ ظلّها الشبحي في إطار الباب‏

وهو يطلق نفسه في إحساس النور البارد،‏

وفكرة التحليق الحائر للطيور، ‏

في كؤوس الزجاج الملونة.‏

الغد…‏

دفء الكرسي يجلب لي النوم.‏

عجولة أنا وغير خائفة أبتعد عن‏

أنظار أمي لأمسح خطوط الباطل من‏

مسوداتي العتيقة.‏

عندما ينام الثلج.‏

أتجول قلقة في الحديقة، ‏

وتحت أصّ شجرة الآس اليابسة‏

أدفن عصافيري الميتة.‏

ذهبت تلك الأيام‏

أيام الانجذاب والحيرة‏

أيام النوم والصحو،‏

أيامَ كل ظل له سر، ‏

وكل علبة مغلقة تخفي كنزاً‏

وكل زاوية من الصندوق، في سكوت‏

الظهيرة، كأنها العالم، ‏

وكل من لا يخاف من الظلمة‏

كان في عيني هو البطل.‏

ذهبت تلك الأيام‏

أيام العيد‏

انتظار الشمس والوردة، ‏

ارتعاشات العطر في اجتماع صامت، ‏

وعفّة النرجس الصحراوي‏

الذي يزور المدينة آخر صباحات‏

الشتاء، ‏

أغاني البائع المتجول في الشارع‏

الطويل المبقع بالأخضر، ‏

السوق وهي تطوف في روائح هائمة‏

ـ الرائحة القوية للقهوة والسمك ـ، ‏

السوق تمتد تحت الأقدام‏

تمتزج بكل لحظات الطريق‏

وتدور في قعر أعماق عيون الدمى، ‏

السوق كانت أمّاً‏

تذهب مسرعة إلى أحجام ملوّنة وسيالة‏

ثم تأتي‏

مع علب الهدايا في الزنابيل الملأى.‏

السوق كانت مطراً‏

ينهمر‏

ينهمر‏

ينهمر‏

ذهبت تلك الأيام‏

أيام التأمل في أسرار الجسد‏

أيام التعارف الحذر‏

مع جمال الشرايين الزرق:‏

ـ يد من وراء الحائط تناديني بوردة، ‏

ـ واليد الأخرى‏

بقعُ حبرٍ على تلك اليد المرتبكة‏

المضطربة الخائفة.‏

والحب‏

يكرّر نفسه بتحية خجلى.‏

في الظهيرات الحارة الملوثة بالدخان‏

نادينا حبنا في غبار الزقاق‏

وعرفنا اللغة البسيطة لأزهار الـقاصد)، ‏

نحن أخذنا قلوبنا إلى بستان الرحمات المعصومة‏

وأقرضنا الأشجار، ‏

والمدفع، مع رسائل القبلات، كان يدور‏

في أيدينا، ‏

وكان الحب‏

ذلك الحس الشبحي في الظلمة الثامنة‏

حاصرنا فجأة‏

وجذبنا في زحام الأنفاس الملتهبة الحرى‏

والابتسامات المسروقة.‏

ذهبت تلك الأيام‏

تلك الأيام مثلما نباتات تفسخت في الشمس، ‏

من أشعة الشمس تفسخت‏

وضاعت تلك الأزقة التي‏

كانت سكرى من عطر الأكاسيا، ‏

ضاعت في شوارع اللا عودة المليئة بالصخب.‏

والبنت التي لونت خديها يوماً‏

بأوراق الشمعدان، ‏

الآن امرأة وحيدة‏

الآن امرأة وحيدة‏

__________

* البلك: نوع من الشذر الصغير الملون تزين به الثياب

*

ترجمة: ناطق عزيز – أحمد عبد الحسين

مخـتارات من كتاب: (عمدني بنبيذ الأمواج)

الناشر: (اتحاد الكتاب العرب)2000

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى