مَدرسَةُ الزَّوْجاتِ

صديقي
يخيل إلي أنني إليك أنت أكتب، فأنني لم أسطر يوميات من قبل، ولم أفلح إلا في كتابة بعض الخطابات، ولولا أنني أراك كل يوم لكنت ولا ريب قد كتبت إليك.
على أنه إذا قدر لي الموت قبلك، وهذا ما أرجوه لأن الحياة دونك لا تبدو لي إلا جرداء، فسوف تقرأ هذه السطور.
وسوف يخيل إلي أنني إذ أتركها لك لا أفارقك الفراق كله.
ولكن كيف نفكر في الموت، والحياة كلها أمامنا؟ مذ عرفتك، أعني مذ أحببتك، تتراءى لي الحياة جميلة نافعة وقيمة حتى أنني لا أريد أن أضيع منها شيئاً.
سأحفظ في هذه الكراسة كل فتات سعادتي، وهل لي عمل يومي، بعد انصرافك عني، سوى أن أعود فأحيا خاطفة اللحظات الماضيات و سوى أن أتمثلك حاضراً؟ قبل أن ألتقي بك كنت أتألم، وقد ذكرت لك ذلك، كنت أتألم لشعوري بأن حياتي تتقضى بلا عمل، لم يكن عندي ما هو أشد عبثاً من مشاغل هذه الحياة الاجتماعية التي كان يدفعني إليها والداي دفعاً والتي ما أزال أرى صديقاتي يسعدن بها السعادة كلها.

حياة كهذه لا إيثار فيها ولا غاية لها لم تكن من المحتمل أن ترضيني.

أنت تعرف أنني فكرت جدياً في أن أكون ممرضة أو راهبة أقف نفسي على خدمة المساكين، كان والداي يهزان كتفيهما إذا ما حدثتهما في ذلك، وكانا على حق في أن يفكرا في أن هذه النزعات سوف تتلاشى متى لقيت الرجل الذي يمكنني التعلق بحبه.

لمَ يأبى اليوم والداي الإقرار بأنك ذلك الرجل؟ أترى كيف لا أحسن التعبير! هذه العبارة التي أكتبها باكية تبدو لي مروعة.
لم استعدت قراءتها؟ لا أدري أكنت في يوم ما قد أحسن الكتابة، على أية حال لن يكون ذلك وأنا أتلمس الإتقان.
قلت أنني قبل التقائي بك كنت أبحث لحياتي عن هدف، والآن أنت هدفي وشغلي وحياتي، ولم يعد لي مطلب عداك.
أنا أعلم أنني منك وبك أستطيع أن أخلص من نفسي أحسن ما بها، فعليك إذن إرشادي وهدايتي إلى الجميل والخير، وإلى الله وأسأله أن يمدني بعونه كيما أنتصر على معارضة والدي، وحتى يكون لسؤالي إياه وقع الأثر..
ها أنذا أدون صلاتي الضارعة هذه: ((رب لا تلزمني معصية والدي.أنت تعلم أنني أحب روبير وليس في طاقتي أن أكون لمن سواه)).

الحق أنني لم أدرك ما قد يكون هدف حياتي إلا منذ الأمس فقط، نعم لم أدرك ذلك إلا بعد هذا الحديث الذي جرى بيننا في حديقة التويلري إذ أظهرني على الدور الذي تقوم به المرأة في حياة عظماء الرجال.
لشد ما أنا جاهلة… فلقد نسيت لسوء حظي ما ضربه لي من أمثلة لذلك، على أنني أذكر هذا وهو أن حياتي كلها يجب أن تخصص له من الآن حتى تهيىء له أداء رسالته المجيدة.
ليس هذا بطبيعة الحال ما قاله لي، لأنه متواضع، ولكن هذا ما فكرت أنا فيه فإنني به فخورة.
ثم إنني أعتقد أنه على تواضعه يعرف تماماً قدر نفسه ولم يخف عني أنه واسع الطموح.
قال لي في ابتسامة ساحرة: ليس غرضي أن أبلغ مطامعي وإنما غرضي العمل على أن تنتصر المباديء التي أمثلها.
ليته أتيح لوالدي أن يسمعه. ولكن والدي في كل ما يتصل بروبير، شديد العنت حتى لقد يرى في قول روبير ما يسميه….لا! لا أريد أن أكتب ذلك.

كيف لا يدرك أن عبارات كهذه لا تسيء إلى روبير وإنما تسيء إليه؟ إن ما أحبه بصفة خاصة في روبير، هو أنه لا يتهاون مع نفسه قط، ولا يفوته مطلقاً ما يتحتم عليه نحوها، ويخيل إلى أن الغير جميعاً بالقياس إليه يجهلون ما هو حري لأن يدعى كرامة، وفي وسعه بها أن يسحقني إن شاء، إلا أنه يعنى إذا ما خلونا إلى أنفسنا بألا يشعرني بها قط، بل أراه أحياناً يسرف بعض الإسراف إن خاف أن أشعر أنني فتاة صغيرة بالقياس إليه فإذا به في هذه الحال يهزل كالأطفال.

ولقد لمته بالأمس على ذلك وإذ ذاك اتخذ مظهراً فيه جد كثير، وتمتم في شيء من الحنين فاتن:
ما الرجل إلا طفل هرم. وكان قد جلس إزاء قدمي ووضع رأسه على ركبتي.
من دواعي الأسى حقا أن تذهب هباء عبارات بهذا الظرف، عبارات أحياناً ما تكون بعيدة المرمى، مليئة بالمعنى.
وعهد علي أن أضمن هذه الكراسة جل ما أمكن تدوينه منها، وأنا واثقة من أنه سوف يسر إذا ما وجدها فيما بعد.
لقد فكرنا في كتابة هذه اليوميات على أثر هذا الحديث خاصة.

لا أدري لم أقول ذلك في صيغة الجمع فهذه الفكرة، كغيرها من جيد الفكر، إنما ترجع إليه هو، وموجز القول أننا تعاهدنا على أن يكتب كل منا على حدة ما سماه هو قصتنا، فأما ما يتعلق بي، فإن الأمر يسير لأنني لا أحيا إلا به، وأما فيما يتعلق به فلا ثقة عندي في أن يبلغ ما يريد، وإن توفر له الوقت، وإني لأكره أن يشغل فكره بهذه اليوميات أكثر مما ينبغي.
ولقد حادثته طويلاً في أنني أدرك تمام الإدراك أن له مهنته وآراءه وحياته العامة، وفرضٌ على حبي ألا يقف في سبيلها، وأنه إن صح أن يكون هو كل حياتي فليس بسائغ أن أكون أنا كل حياته.

يشوقني أن أطلع على ما دونه بيومياته في هذا الصدد، ولكننا أقسمنا قسماً عظيماً ألا يطلع أحدنا الآخر على يومياته.
قال وهو يقبلني، لا على جبيني وإنما تماماً فيما بين عيني كما يروقه أن يفعل: أنه على هذا الشرط فقط يمكنه أن يكون صادقاً فيما يكتب.
على أننا اتفقنا أن من مات منا أولاً خلف الآخر يومياته: ولما قلت في شيء من البلاهة ((إن هذا أمر طبيعي)) قال هو بلهجة فيها جد كثير: ((لا، لا، إنما علينا أن نتفق على أن لا نتلف هذه اليوميات)).
كنت تبسم حين قلت أنني لن أجد ما قد أدونه في هذه اليوميات.
وها أنا قد ملأت بها فعلاً أربع صفحات.
أجد مشقةً جسيمة في أن أرد نفسي عن استعادة قراءتها، فإذا ما استعدتها وجدت مشقة أكبر في أن أرد نفسي عن تمزيقها.
وما يدهشني حقاً إنما هي هذه المتعة التي بدأت ألقاها في كتابتها.

أندريه جيد
ترجمة صبري فهمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى