هَاجسُ الخشفِ الميت

ثمة شيء تجنَّبت دائماً ذكره لك ، وإن أكن أظن أني لامسته في مناسبة أو مناسبتين . الشيء الذي أشير إليه هو تجربة طفلية باكرة عشتها في منزل أهلي قرب أوسلو . لا بد أني كنت في السابعة أو الثامنة حينها . لكن الواقعة وقعت قطعاً قبل عيد ميلادي الثامن ، لأن أسرتنا انتقلت ، قبله ، إلى إقامة في مدريد دامت أربعة أعوام . أذكر أني كنت أجري على درب في الغابة ، وجيوبي مليئة بحبات من البندق أردتُ أن أريها لأمي فور وصولي إلى البيت . فجأة لمحت خِشْفاً* صغيراً متمدداً على السجاد الخريفي الذي صنعته أوراق الأشجار المتساقطة على أرضية الغابة الرطبة . مابرحت تلك الأوراق محفورة في عقلي لأن بعضاً منها كان ، على ما أذكر ، متناثراً على الخشف المستلقي ذاته . ظننت الخشف نائماً ،وأعتقد – وإن أكن غير متأكد من ذلك الآن – أني تسللت نحو الحيوان إما لأمسِّد جسده أو لإزاحة تلك الأوراق الصفراء والحمراء عنه . لكن الخشف لم يكن نائماً ؛ كان ميتاً.

الخشف الميت ، أو بالأحرى حقيقة أني أنا من اكتشف الخشف الذي كان ميتاً ، أثارت لدي شعوراً قوياً بالخزي ، شعوراً لم أستطع قط إخبار أمي أو أبي أو حتى جدتي أو جدي به . إذا أمكن للخشف الصغير أن يرتمي بلا حياة في الغابة ، فما الذي يمنع أن يأتي دوري وأسقط قربه ميتاً . هذا الهجس الخفي ، الذي يوقى منه طبعاً معظم الأطفال ، رغم أنه واضح بذاته ، رافقني بكثافة محسوسة طوال عمري . نما لدي دائماً حدس قوي إزاء أشياء من نوع العناية بالمراعي الطبيعية والطب النفسي المعنيِّ بالأزمات، لأن الصمت الذي فرضته على نفسي بخصوص هذه التجربة قد حوَّل هذه الحادثة إلى رضٍّ نفسي مقيم . لو أني جريت باكياً نحو أمي في البيت لظفرتُ بالتأكيد بما أحتاج إليه من عون لتجاوز تلك التجربة المؤلمة . لكني لم أستطع قط البوح بها ؛ لقد كانت تجربة مهينة جداً بحيث لم أكشف عنها لأي مخلوق كان . بلمعة برق باهرة، أرتني تلك الواقعة أني أنا أيضاً كائن حي من لحم ودم ، مجرد حيوان آخر له قسطه من الزمن على هذه الأرض ، لكنه يوماً ما سيكف عن الوجود.

لربما كان لمواجهة الخشف الميت تأثير حاسم في تشكيل اهتماماتي بالطبيعة . على الأقل ، أثَّرت رؤياي تلك في أرض الغابة المورقة في اتجاه دراساتي التخصصية . لقد شعرت دوماً بالانجذاب نحو آماد الزمنِ الفسيحة . وهكذا ، ومذ كنت طفلاً فضولياً في الثانية عشرة ، عرفت كل شيء عن الانفجار الكبير وعن أبعاد الكون الهائلة . دفعني جانب من تكويني نحو إدراكٍ متنامٍ لحقيقة أن عالم الأحياء الذي أقطنه يقارب خمسة مليارات عام سِنَّاً، وأن عمر الكون أكبر منه بثلاث مرات أو أربع .

تُمِضُّني فكرة فنائي التام يوماً ما، فكرة أني هنا هذه المرة فقط، وأني لن أعود أبداً ؛ تمضني وتبدو لي وحشية . ربما لذلك حاولت ، على الدوام ، أن ألتمس عزاءً ضئيلاً من وضع نفسي وحياتي الوجيزة ضمن سياقٍ أوسع . روضت نفسي على فكرة أني مجرد جزء ضئيل من مغامرة الحضارة العظمى ، مجرد كسرة عابرة من شيء أعظم مني وأقوى . هكذا حاولت توسيع هويتي الذاتية ، ذاتي أنا ، ودائماً على حساب تلك الذات الصغيرة ، الذات التي قد تلقى في أي لحظة مصير الخشف نفسه ، ذاك الأظلف الذي بقي مدفوناً في مكان ما تحت شعوري ، ذاك الذي لن يقف على قدميه يوماً ، الذي لن يبدي حراكاً . عشت تلك التجربة ، وأعيشها كل يوم ، ومع ذلك لا أستطيع القول إني حققت أي تقدم محرر لا يزال يروعني كل صباح أني أنا الوحيد الذي هو أنا ، وأني هنا الآن فقط ؛ الآن فقط أنتِ وأنا حَملةُ وعي الكون لذاته .

* الخشف : ولد الظبية الصغير

من رواية ( مايا ) لـ( جوستين غاردر )
ترجمة ( ياسين الحاج صالح ) / دار الكلمة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى