وليم بليك – أغنيات البراءة

1) المقدّمة

كنْتُ على مزماري أعزفُ

في قفرِ الوديانْ

أعزفُ ألحاناً لأَغانٍ

مفْرِحةِ الأنغامْ

حين رأت عينايَ صغيراً

في إحدى الغيماتْ.

قال الطِّفلُ بوجهٍ ضاحكٍ:

“اعزفْ أغنيةً عن (حملٍ)”

فعزفْتُ بكلِّ سرورٍ.

قالَ:

“اعزِفْ يا زامرُ،

ثانيةً، تلك الأغنيَّة”

فعزفتُها ثانيةً.. فبكى.

قالَ:

“اتركْ مزمارَكَ،

ذاكَ المزمارَ المبتهجَ،

وغنِّ أغانَيكَ الجذلى”.

فشرعْتُ أغنِّي

ذاتَ الأُغنيَّةِ ثانيةً

فبكى أيضاً،

لكن بفرحْ.

قالَ:

“اجلسْ يا زامرُ واكتبْ،

في سِفرٍ يمكنُ للكلِّ قراءتُهُ”.

وتوارى عن مرمى بصري.

فقَلَعْتُ قصبةً جوفاءْ

وصنعْتُ يراعاً ريفيّاً،

وأخذتُ أُعكِّرُ صفوَ الماءِ

وأكتبُ ألحاناً

لجميعِ أغانيَّ الجذلى

علَّ الأطفالَ

إذا سمعوني يبتهجونْ!!

2)الرَّاعي

ما أحلاهُ!

قدرُ الرَّاعي، ما أحلاهُ!

كلَّ نهارٍ

يشردُ منذ طلوعِ الفجرِ،

ويرجعُ بعد غيابِ الشَّمسِ؛

عليهِ بأن يتبعَ أغنامَهُ

كلَّ نهارٍ

وعباراتُ الشُّكْرِ

تفيضُ على شفتيهِ

لأنَّهُ يَستمتعُ بسماعِ

نداءاتِ الحملِ العفويَّةِ،

وثغاءاتِ النَّعجةِ حينَ تردُّ

بكلِّ حنانٍ،

وهو الرَّاعي المتيقِّظُ

كي تسرَحَ أغنامُهُ بأمانٍ،

وهي إذ تشعرُ بدنُوِّهِ منها

ترعى باطمئنانْ.

3)الملعب المرجِعُ للصَّدى

وتشرقُ الشَّمسُ،

فتفرحُ السماواتُ،

وتُقرعُ أجراسُ الفرحِ،

ترحيباً بقدومِ الرَّبيع.

القبَّرةُ والسُّمُّنةُ

وعصافيرُ الشُّجيراتِ

تصدحُ في الجوارِ

تجاوبُ الرَّنينَ المفرحَ للأجراسِ،

بينما ألعابُنا تلوحُ

فوقَ الملعبِ المُرجعِ للصَّدى.

بشَعرهِ الأبيضِ (جانُ) الكبيرُ

يضحكُ بوقارٍ

بعيداً تحتَ شجرةِ البلُّوطِ،

يتوسَّطُ أقرانَهُ المسنِّينَ

وهم يضحكونُ على لهوِنا

قائلين:

“هكذا.. هكذا كانَ المرحُ

عندما كنَّا في غمرةِ الشَّبابِ

فتياناً وفتياتٍ نلوحُ

فوق الملعبِ المُرجعِ للصَّدى.

وحينما من التَّعبِ

يعجزُ الصِّغارُ

عن أن يكملوا المرحَ،

تهبطُ الشَّمسُ إلى المغيبِ

وتدركُ النَِّهايةَ ألعابُنا،

وحَولَ أحضانِ أمَّهاتِهم

يدورُ الأخوةُ والأخواتُ

كالعصافيرِ حولَ أعشاشِها

وهي تستعدُّ للخلودِ إلى الرَّاحةِ

ولا يعودُ لهوُنا يُرى

في الملعبِ المكسوِّ بالظَّلامْ.

4)الحمل

أيُّها الحملُ الصَّغيرُ

مَن كوَّنَكْ؟

ألَستَ حقّاً تعلمُ

مَن كوَّنكْ؟

من الَّذي وهبَكَ الحياةَ

وقدَّم إليكَ الطَّعامَ

على ضفافِ جدولٍ

وفوق مرجٍ أخضرٍ؟

مَن الَّذي ألبسَكَ المرحْ،

كساكَ ثوباً فاتناً

من أنعمِ الأصوافْ

أعطاكَ عذبَ الصَّوتِ

كي تصطخبَ الحقولْ؟

أيُّها الحملُ الصَّغيرُ

مَن كوَّنَكْ؟

ألستَ حقّاً تعلمُ

مَن كوَّنكْ؟

أيُّها الحملُ الصَّغيرُ

سوفَ أُخبرُكْ،

أيُّها الحملُ الصَّغيرُ

سوفَ أُخبرُكْ:

باسمِكَ يُنادَى؛

إذ أنَّهُ يسمِّي

نفسَه الحملْ.

ولأَنَّهُ حليمٌ

ولأنَّهُ وديعٌ

طفلاً صغيراً صارْ.

فأنا طفلٌ..

وأنتَ حملْ..

ونحنُ كلانا

باسمِهِ نسمَّى

أيُّها الحملُ الصَّغيرُ

ليُبارِكْكَ اللهْ!

أيُّها الحملُ الصَّغيرُ

ليُبارِكْكَ اللهْ!

5)الفتى الزّنجي

في القفرِ جنوباً

قدْ ولدتني أمِّي

زنجيَّاً؛ لكنْ آهٍ..

روحي بيضاءْ.

والطِّفلُ الإنكليزي

إذ يولَدُ-

أبيضُ.. أبيضُ مثلُ ملاكْ.

وأنا زنجيٌّ وكأنِّي

محرومٌ من وهجِ النُّورْ.

في ظلِّ شجرةٍ

كانت أمِّي

تجلسُ في أيَّامِ الحرِّ،

تعلِّمُني…

تأخذني بينَ ذراعيها

وتقبِّلُني،

وتشير إلى الجهةِ الشَّرقيَّةِ

قائلةً:

(اُنظرْ، يا ولدي،

في الشَّمسِ المشرقةِ

هنالكَ يحيا اللهُ،

ويمنحُ وهجَهُ

للأشجارِ وللأزهارِ

وللوحشِ الضَّاري والنَّاسِ،

ليرتاحوا إن بزغَ الفجرُ

ويبتهجوا بحلولِ الظُّهرْ.

لن نبقى في الأرضِ طويلاً

لكنَّ بقاءَنا، يا ولدي

قدْ يكفينا حتَّى نتعلَّمَ

كيف نبثُّ إلى الدُّنيا

إشعاعَ الحبِّ…

وليسَت هذي الأجسادُ السَّوداءُ

وهذا الوجهُ الدَّاكنُ

إلاَّ غيمةَ ضيفٍ،

بستاناً ينعمُ بالظِّلِّ؛

فإن علَّمنا أرواحَنا

أن تبعثَ دفئاً،

سوفَ يزولُ الغيمُ

ونسمعُ صوتَهُ حين يقولُ:

“اخرجوا من تلكَ الأيكةِ

يا أحبابي ويا همِّي

والتفُّوا حولي

وأحيطوا خيمتَي الذهبيَّةَ

واصطخبوا مثلَ الحملانْ!”)

هذا ما قالتْ

-وهي تقبِّلُني- أمِّي.

وأنا للطِّفلِ الإنكليزيِّ أقولُ

بأنَّا إنْ حرَّرْنا أنفسَنا

من غيمتيَ السَّوداءِ أنا،

وهو البيضاءِ،

ورحنا نمرحُ كالحملانِ

نحيطُ بخيمةِ ربِّ العرشِ،

فسوف أظلُّ أظلِّلُهُ

حتَّى يتحمَّلَ أن ينحنَي

سعيداً في حضرةِ والدِنا

وسأنهضُ عندئذٍ

وأظلُّ أمسِّدُ شعراً فضِّيّاً

جلَّلَ هامتَهُ،

حتَّى أُصبِحَ مثلَه.

عندئذٍ، لا شكَّ بأنَّهُ

سوف يقابلُني بالحبْ.

6)الزَّهرة

هنيئاً.. هنيئاً

أيُّها الباشقُ

فهنالكَ تحتَ الأوراقِ الخضراءِ

زهرةٌ سعيدةٌ ترنو إليكَ

وأنت كسهمٍ منطلقٌ

باحثاً عن مهدِكَ الضَّيِّق

قربَ صدري.

جميلٌ.. جميلٌ

يا أبا الحنَّاءِ

فهنالكَ تحتَ الأوراقِ الخضراءِ

زهرةٌ سعيدةٌ تسمعُكَ

يا أبا الحنَّاءِ الجميلِ.. الجميلِ

وأنتَ تنشجُ بالبكاءِ

قربَ صدري.

7)منظِّف المداخن

لمَّا ماتَتْ أمِّي

كنتُ صغيراً جدَّاً.

وحين تخلَّى الوالدُ عنِّي

كان لساني يعرفُ، بالكادِ،

بأن يبكي؛

“واءٍ!” “واءٍ!” “واءٍ!” “واءْ!”

وها أنذا أنظِّفُ مداخنَكمْ،

وأنامُ على قدري الأسودْ.

كانَ (توم دايكرُ) الصَّغيرُ،

يبكي وهم يحلِقُون له

شَعرَهُ المتجعِّدَ كفروِ الحَمَلْ.

فقلْتُ لهُ:

“اصمتْ يا (تومُ) الصَّغيرُ،

ولا تكترثْ؛

لأنَّ رأسَكَ الحليقَ

سيمنعُ السُّخامَ من

أن يفسدَ شَعرَك الأشيبْ”.

فكفَّ عن بكائِهِ

والتزمَ الهدوءْ.

وفي اللَّيلةِ اللَّيلاءِ ذاتِها

شاهَدَ في المنامِ

آلافاً من المنظِّفين؛

(ديك) و (جو) و (نِد) و (جاك)

قد أُقفِلَ عليهمُ

في توابيتٍ سوداء.

وشاهدَ ملاكاً

يمرُّ في الجوارِ

يحملُ مفتاحاً لامعاً،

يفتَحُ التَّوابيتَ

ويحرِّرُ الجميعْ.

وبعدها توزَّعوا

في المرجِ يمرحونْ،

يغتسلونَ في مياهِ النَّهرِ،

يلمعونَ تحتَ أشعَّةِ الشَّمسِ،

يعتلونَ ناصيةَ الغيومِ

تاركينَ خلفَهم

حقائبَ عاريةً بيضاءَ،

وفي مهبِّ الرِّيحِ يعبثونْ.

واستفاقَ (تومُ)

بعدَ أن أخبرَه الملاكُ

بأنَّهُ إن أصبحَ غلاماً طيِّباً

فإنَّ الإِلهَ

سيمنُّ على والدِه بالرَّحمةِ،

ولن يحرمَهُ من السَّعادةْ.

استفقنا جميعاً

وكان الظَّلامُ يلفُّ المدى،

حملنا حقائبَنا ومكانسنَا

ورحْنا نشقُّ دروبَ العملْ.

على الرُّغمِ من بردِ ذاكَ الصَّباحِ

فقد كان (تومُ) سعيداً ودافئاً.

وهكذا.. إن أنجزَ الجميعُ ما عليهم

فلن يظلَّ داعٍ

للخوفِ من أيِّ أذىً.

8)ضياع الفتى الصَّغير

أبي.. أبي..

إلى أين أنتَ ذاهبٌ؟

لا تمضِ مسرعاً

تكلَّم يا أبي

مع ابنِكَ الصَّغيرِ

وإلاَّ فسوفَ أضيعْ.

اللَّيلُ كانَ مظلماً

ولا أبَ هنالكَ،

مبلَّلاً بالنَّدى كان الطِّفلُ

والسَّبْخةُ عميقةً

والطِّفلُ راحَ يبكي

وفي البعيدِ انتشرَ البخارْ.

9)إيجاد الفتى الصَّغير

الفتى الصَّغيرُ التَّائهُ

في المستنقعِ المهجورِ،

المُنقادُ للضَّوءِ الجوَّالِ

بدأ يصرخْ.

لكنَّ اللهَ القريبَ أبداً

ظهرَ له مثلَ أبيهِ، برداءٍ أبيضٍ،

قبَّلَهُ،

ومن يدهِ قادُهُ إلى أمِّهِ

الشَّاحبةِ من الأسى

الباحثةِ باكيةً

في الوادي المهجورِ

عن فتاها الصَّغيرِ.

10)أغنية الضَّحِك

عندما تضحكُ الغابةُ الخضراءُ

بصوتِ السَّعادةِ،

والجدولُ الغامزُ القريبُ

ينسابُ ضاحكاً،

وعندما يضحكُ الهواءُ

مع مرحِنا الواعي،

والتِّلالُ الخضراءُ

تضحكُ مع ضجيجهِ،

وعندما المروجُ تضحكُ

مع عشبِها المفعمِ بالحياة،

ويضحكُ الجندبُ

في المشهدِ المرِحْ،

وعندما (ماري)

و (سوزان) و (إميلي)

بأفواههنَّ المدوَّرةِ يغنِّينَ

ها.. ها.. هي..

وعندما الطُّيورُ الملوَّنةُ

تضحكُ في الظِّلِّ

حيثُ مائدتُنا

عامرةٌ بالجوزِ والكرزِ،

عندها تعالَ وعِشْ

وكنْ مرحاً وانضمَّ إليَّ

نغنّي سويَّةً

ككورسٍ جميلٍ

ها.. ها.. هي..

11)هدهدة

نمْ هانئاً

يا طفليَ الحبيبْ

فالأحلامُ الحلوةُ

تطوفُ فوقَ رأسِكْ.

نمْ حالماً بجداولِ السُّرورِ

تمرُّ بالأنوارِ الحالمةِ السَّعيدة.

نمْ هانئاً

فاللَّمسة النَّاعمةُ

تحوكُ من جبينها

تاجاً طفوليَّاً لكَ.

نمْ هانئاً

فالملاكُ الوديعُ

يرفرفُ حولكَ

يا طفليَ السَّعيدْ.

بسماتٌ لطيفةٌ في اللَّيلِ

ترفُّ فوقَ بهجتي.

بسماتٌ لطيفةٌ،

بسماتُ أمَّهاتٍ

تلاعُبُكَ طولَ اللَّيلْ.

نشيجٌ رقيقٌ

كتنهُّدِ اليمامةِ

لا يطردُ السُّباتَ من عينيكْ.

نشيجٌ رقيقٌ

وبسماتٌ أرقُّ

تلهيكَ عن نشيجٍ

كتنهُّدِ اليمامة

نمْ.. نمْ..

يا طفليَ السَّعيدْ

فكلُّ من عليها

قد نامَ وابتسمْ.

نمْ.. نمْ.. قريرَ العينِ

فأمُّكَ تبكي حواليكَ.

في وجهِكَ يا طفليَ الجميلَ

أستشفُّ صورةً مقدَّسةْ.

وذاتَ مرَّةٍ يا طفليَ الجميلَ

خالقُكَ استلقى

وبكى من أجلي

بكى من أجلي وأجلِكَ

وأجلِ الجميعِ

عندما كان طفلاً صغيراً.

وأنتَ دائماً تبصرُ صورتَهُ

وجهاً سماويَّاً يبتسمُ لكَ،

يبتسمُ لكَ ولي وللجميعِ

ذاكَ الَّذي أصبحَ طفلاً صغيراً.

بسماتُ الطفلِ هي بسماتُهُ

الَّتي تستميل الأرضَ والسَّماءَ

إلى برِّ السَّلامْ.

12)الصُّورة السَّماويَّة

للرَّحمةِ والشّفقةِ

والسَّلامِ والحبِّ

يصلِّي الجميعُ في حالةِ الأسى

ولتلكَ الفضائلِ النَّبيلةِ

يردُّونَ امتنانَهم.

للرَّحمةِ والشَّفقةِ

والسَّلامِ والحبِّ

وجودُ اللهِ

-أبينا العزيز

والرَّحمةُ والشَّفقةُ

والسَّلامُ والحبُّ

هو الإنسانُ- طفلُه وعنايتُهْ

للرَّحمةِ قلبُ الإنسانْ

للشَّفقةِ وجهُهُ،

والحبُّ هيئتُهُ السَّماويَّةُ

13) خميس الصُّعود

وكان في خميسِ الصُّعودِ

أطفالٌ بوجوههِم البريئةِ

يمشونَ اثنينِ.. اثنينِ

بالأحمرِ والأزرقِ والأخضرْ.

وكان أمامَهم

يسيرُ شَّماسونَ

برؤوسِهم الرَّماديَّة

وصولجاناتِهم البيضاءِ كالثَّلجِ

حتَّى دخلوا

مثلَ تدفُّقِ نهرِ (التَّايمز)

إلى القبَّةِ العاليةِ

لكنيسةِ القدِّيسِ (بولُس).

أوه.. ما هذهِ الحشودُ

من أزاهيرِ لندن

تجلسُ مجموعاتٍ

بكلِّ تألُّقِها!!

هنالكَ همهمةُ حشودٍ

لكنَّها حشودٌ من خراف؛

آلافٌ من الفتيةِ

والفتياتِ الصِّغارِ

يرفعونَ أيديهم البريئة.

وها هم الآن

مثل رياحٍ عاتية

يرفعونَ بالغناءِ

أصواتَهم إلى السَّماءْ،

أو مثلَ رعدٍ متناغمٍ

يرفعونَ عروشَ السَّماءْ.

ودونَهم يجلسُ الكهولُ؛

الحرَّاسُ الحكماءُ للفقراءْ.

عندها..

عليكَ أن تضمرَ الرَّحمةَ

مخافةَ أن تطردَ ملاكاً

من أمامِ بابِكْ.

14)ليل

تميلُ الشَّمسُ إلى مغربِها،

ونجمةُ المساءِ تأتلقْ.

والعصافيرُ صامتةً

تكنكِنُ في أعشاشِها،

وأنا ليس أمامي

إلاَّ أن أبحثَ عن عشِّي.

يعرِّشُ القمرُ –كزهرةٍ-

في السَّماءْ،

يتربَّعُ مبتسماً على عرشِ اللَّيلْ،

وداعاً.. أيَّتُها الحقولُ الخضراءْ!

وداعاً.. أيَّتُها البراري السَّعيدة!

كم راقَ للقطعانِ

أن تمرحَ في ثناياكِ!

وللحملانِ

أن تتقافزَ في جنباتِك!

وكم أقدامُ الملائكةِ النَّيِّرةُ

بخطوِها الخفيِّ

بخطوِها الخفيِّ

أغدقتِ البركةَ والبهجةَ

دونما انقطاعٍ

على كلِّ برعمٍ

وكلِّ زهرةٍ مثمرةٍ،

وكلِّ حضنٍ يخلدُ للنَّومْ.

وكم عرَّجتْ،

على أعشاشٍ منسيَّةٍ

تنعمُ بالدِّفءِ عصافيرُها!

وكم زارتِ الوحوشَ في الكهوفِ

تبعِدُ عنها شهوةَ الأذى!

وكم جلسَتْ

إلى سريرِ من رأتْهُ باكياً

عاندَهُ الرُّقادُ

ونثرتْ على جبينهِ

أزاهرَ النُّعاسِ!

وكم بكَتْ، مشفقةً،

حينَ التقَتْ

بعضاً من الذئابِ والنُّمورِ

تبحثُ في القفارِ عن فريسةٍ،

علَّها بالدُّموعِ

تثنيها عن غريزةِ العدوانِ

وعلَّها تنقذُ الأغنامْ!

وحينَ كانَ سعيُها

يبوءُ بالفشلِ

كم كانتْ بحذرٍ شديدٍ

تستجلبُ الأرواحَ الوديعةَ

كي تُنشئَ للآتينَ

عالماً جديداً!

في ذلك العالمِ الجديدِ

ستفيضُ عيونُ الأسدِ المتورِّدةُ

بدموعٍ ذهبيَّةٍ،

بعدَ أن يفيضَ قلبُهُ بالرَّحمةِ

وهو يتجوَّلُ حولَ الحظيرةِ

منتحباً بحنانٍ يقولْ:

“لعلَّ قصاصي

في الضَّعفِ والخنوع

يكونُ خلاصاً لصحَّتي

من وطأةِ المرضِ

ومعيناً لي في الدُّخولِ

إلى زمنِ الخلودْ!”

“والآنَ..

أيَّتُها الحملانُ الثَّاغيةُ،

ليَ أن أجلسَ

أو أن أنامَ إلى جواركِ

أحميكِ من كلِّ الَّذينَ

لا يروقُهم سماعُ اسمِكِ،

أرعاكِ وأبكي لأجلكِ،

لأنَّ لُبْدَتيَ المغسولةَ

في نهرِ الحياةِ

ستبقى إلى الأبدْ

تبرقُ كالذهبِ

إذا أنا ثابرْتُ

على حراسةِ الحظيرةْ.

15)الرَّبيع

زغردْ أيُّها (الفلوت)

لماذا أنتَ صامتٌ!

فالعصافيرُ فرحةٌ

في اللَّيلِ والنَّهارِ

والعندليبُ في الوادي

والقبَّرةُ في السَّماءِ

بمرحٍ.. بمرحٍ..

ترحِّبُ بالسَّنةِ الجديدةْ.

الولدُ الصَّغيرُ

يفيضُ بالفرحِ

وأيضاً الفتاةُ

الحلوةُ النَّاعمةُ.

والدِّيكُ يصيحُ

وأنتَ مثلُهُ.

أصواتٌ مرحةٌ،

ضجيجُ أطفالٍ،

بمرحٍ.. بمرحٍ..

ترحِّبُ بالسَّنةِ الجديدةْ.

الحملُ الصَّغيرُ

“(هذا أنا)” يقولْ

“تعالَ والعقْ رقبتي البيضاءْ”.

“(دعني أنتفُ صوفكَ النَّاعم)

(دعني أقبِّلُ وجهكَ الرَّقيق)

وبمرحٍ.. بمرحٍ..

نرحِّبُ بالسَّنةِ الجديدةْ.

16)أغنية المربِّية

عندما أصواتُ الأطفالِ

تُسمَعُ فوق المرجِ

والضَّحِكُ يعلو عند التَّلِّ

يهجعُ قلبيَ في صدري

وتصيرُ الأشياءُ الأخرى هادئةً.

“إلى البيتِ عودوا يا أطفالي

فالشَّمسُ في غيابٍ،

وندى اللَّيلِ يستفيقْ.

تعالوا.. تعالوا..

واتركوا اللَّعِبْ.

وهيَّا بعيداً

ننتظرُ الصَّباحَ

أن يطلَّ في السَّماءْ”.

“لا.. لا.. دعينا نلعبْ

فالوقتُ لا يزالُ نهاراً.

وكيف لنا أن ننامَ

ما دامت العصافيرُ الصَّغيرةُ

تطيرُ في السَّماءِ

والتِّلالُ تعجُّ بالخرافْ”.

“حسناً.. حسناً..

اذهبوا وتابعوا اللَّعبَ

إلى أن يذبلَ الضَّوءُ ويبتعدْ.

عندها عليكم أن تعودوا

إلى البيتِ والسَّرير”.

وراحَ الصِّغارُ يتقافزونَ

يصرخونَ ويضحكون.

وراحت التِّلالُ

تردِّدُ صداهمْ.

17) سعادة الطِّفل

“أنا لا اسمَ لي

لكنَّني ابنُ يومين”

“بماذا سأناديك؟”

“أنا سعيدٌ جدَّاً

والفرحُ هو اسمي.

ليتَ حلاوةَ الفرحِ

تغمرُكْ”.

“فرحٌ جميلٌ!

فرحٌ حلوٌ

لكنَّك ابنُ يومين

وأسمِّيكَ الفرحَ الحلوَ.

فابتسمِ الآنَ

وأنا أغنِّي

والفرحُ الحلوُ

يا ليتهُ يغمرُكْ.

18) حلم

نسجَ حلُمٌ مرَّةً طيفاً

فوقَ سريريَ

المحروسِ بالملاك

بأنَّ نملةً ضيَّعت طريقَها

على العشبِ

حيثُ خلتُ نفسي مستلقياً،

وأنَّ الظَّلامَ

الَّّذي أرهقَهُ السَّفرُ

-مرتبكاً وقلقاً-

راح يداهمُ المكانْ.

وفوق غصنٍ متشابكٍ

سمعتُها بقلبِها المنكسرِ

تقولْ:

“آهٍ يا أطفالي!

هل همُ يصرخون!

هل هم يسمعونَ

تنهُّدَ أبيهم!

تُراهمُ الآن ينظرون إلى الخارجِ

تُراهمُ يعودونَ

للبكاءِ من أجلي”.

شفقةٍ عليهم، أرقتُ دمعةً.

لكنَّني شاهدْتُ على مقربةٍ

سراجَ اللَّيلِ الَّّذي أجابَ:

“أيُّ كائنٍ ينتحبُ،

عليهِ أن ينادي

على حارسِ اللَّيلْ.

فأنا مهمَّتي أن أنيرَ الأرضَ،

بينما تدور الخنفساءُ دورتها.

فاتبعوا الآن همهمةَ الخنافسِ،

يا أيُّها الهائمونَ الصِّغارُ

وحثُّوا الخطى إلى البيتْ.

19)عن حزن الآخرين

كيف لي أن أدركَ

محنةَ الآخرينَ ولا أحزنْ!

كيف لي أن أدرك

حزنَ الآخرينَ

ولا أفتِّشُ عمَّا يفرجُهم!

كيف لي أن أرى

تساقُطَ الدُّموعِ

ولا أشعرُ أنَّني

شريكُ أحزانها!

وهل يستطيعُ أبٌ أن يرى

طفلَهُ باكياً

دون أن يكونَ مترعاً بالحزنْ!

وهل لأمٍّ أن تسمعَ

أنين طفلٍ خائفٍ

وتقعدُ عنهُ!

لا.. لا.. أبداً

لا يمكنُ أن يكونْ..

أبداً.. أبداً

لا يمكنُ أن يكونْ..

وهل يستطيعُ

الباسمُ للجميعِ

أن يسمعَ

النُّمنمةَ الصَّغيرةَ حزينةً،

والعصافيرَ أسيَّةً مهمومةً،

والأطفالَ وهم يتحمَّلونَ الويلاتِ

ولا يجلسُ على أعشاشِها

يغدقُ الرَّحمةَ على صدورِها،

أو قربَ مهودِ الأطفالِ

يبكي على دموعِها دموعاً،

أو يمكثُ اللَّيلَ والنَّهارَ

ينشِّفُ دموعَنا!

لا.. لا.. أبداً

لا يمكنُ أن يكونْ..

أبداً.. أبداً

لا يمكن أن يكونْ..

فالَّذي يمنحُ البهجةَ للجميعْ،

والَّذي يصيرُ طفلاً صغيراً،

والَّذي يصيرُ رجلَ الملمَّاتِ،

يشعرُ أيضاً بالأسى،

فلا تظنّ أنَّكَ

تتنهَّدُ تنهيدةً

دونَ أن يكونَ خالقُكَ قريباً.

ولا تظنّ أنَّكَ

تبكي دمعةً

دونَ أن يكونَ خالقُكَ قريباً.

فهو الَّذي يمنحُنا الفرحَ

يقضي به على أحزانِنا

يبدِّدُها حتَّى تتلاشى.

وهو الَّذي إلى جوارنا

يجلسُ وينتحبْ.

*

ترجمة: جهاد عارف الأحمدية – 2004

زر الذهاب إلى الأعلى