آنا أخماتوفا – 18 قصيدة مختارة

أشخاص:
بلدان:
ـ1ـ‏
لا تُقصّف رسالتي يا صديق‏
بل اقرأها حتى النهاية‏
لقد مللتُ أن أكونَ مجهولةً‏

غريبةً في طريقك.‏

لا تنظرُ هكذا، عابساً مُتجِّهاً.‏
فأنا حبيبتك، أنا لك‏
لستُ راعيةً، ولا أميرة‏
وما أنا راهبة.‏
رُبّما ما زلتُ في ردائي الرمادي المُعتاد‏
وعلى كعبينِ عتيقين‏
ولكنني كسابق عهدي، حارة في العناق‏
والرعبُ يملأُ عينيَّ الكبيرتين.‏
لا تقصّف رسالتي يا صديقي‏
ولا تبكِ كذبةً محبوبةً‏
ضع الرسالة في حقيبةِ سفركَ الفقيرة.‏
في قعرها العميق نفسه.‏
1912‏
 
__________________
ـ2ـ‏
وأظلَمَ في السماء الطلاء الأزرق‏
وتعالت أغنية الناي‏
لكنّهُ ليسَ إلا قصبة..‏
لا سببَ يجعله يشكو هكذا‏
فمن يا تُرى حَدّثَهُ عن ذنوبي؟‏
ولأي شيء يغفر لي؟‏
أم أنّ هذا الصوت يُرجِّعُ‏
على مسامعي آخر أشعارك.‏
1912‏
__________________
ـ3 ـ‏
مَرحباً! أتسمَعُ حفيفاً خفيفاً‏
إلى اليمين من طاولتك؟‏
لن تتمكّن من كتابة هذهِ الأسطر الباقية ـ‏
فقد أتيتُ إليك.‏
أتُراكَ تغضبُني‏
كما فعلتَ في المَرّةِ الماضية ـ‏
فتقول إنكَ لا ترى يديّ!‏
لا ترى يديّ أو عينيَّ؟‏
عندكَ المكانُ وضيءٌ وبسيط؛‏
فلا تطردني..‏
إلى حيث تتجمّد المياهُ الآسنة‏
تحتَ قنطرةِ الجسر الخانقة.‏
1913‏
__________________
4 ـ صوت الذاكرة‏
إلى أولغا أفانا سيفناغليبوفا‏
ما الذي تَريَنهُ وأنتِ تنظرينَ حزينةً إلى الجدار‏
في ساعةٍ، تحلُّ فيها لحظاتُ الشفق الأخيرة؟‏
أنورساً فوقَ بساطِ الماء الأزرق؟!‏
أم حدائق فلورنسيّة؟!‏
أم لعلّكِ ترينَ منتزهَ الضاحيّة القيصريّة الكبير‏
حيثُ اعترضَ القلق طريقكِ؟!‏
أم ترينَ عند ركبتيك ذلك الشاب‏
الذي هَجَر أسرَكِ إلى موتِهِ الأبيض.‏
لا. أنا لا أرى إلا الحائط ـ وعليهِ‏
تنعكسُ نيرانُ السماء المنطفئة لتوّها.‏
18 حزيران 1913‏
__________________
ـ5ـ‏
كُلّ يومٍ مُقلقٌ ـ بطريقةٍ جديدة.‏
رائحةُ الجوادر الناضج تزداد‏
وما دمتَ تجلسُ متكئاً على ركبتيَّ‏
أيّها الحلو، فاضطجع!‏
طيورُ الصفّار تصرُخُ في شجرةِ القيقب الكبيرة،‏
ولن تصمتَ حتى يحل الظلام.‏
كم يروقُ لي أن أطردَ عن عينيك الخضراوين‏
تلك النحلات المرحة.‏
في الطريقِ رنينُ أجراس:‏
مألوف هذا النغم الرقيق‏
سأغنّي لك كي لا تبكي‏
أغنيةً عن أمسية الفراق.‏
1913‏
__________________
ـ6ـ‏
ثقيلةٌ أنت يا ذاكرةَ الحُب!‏
في دخانك أُغنّي وأحترق.‏
أمّا الآخرونَ فلا يرونَ فيكِ إلا لهباً‏
يُدفئُ أرواحهم الباردة.‏
تلزمهم دموعي‏
كي يبعثوا الحرارةَ في أجسادهم المنطفئة..‏
ألأجلِ هذا غنّيتُ أيّها الرب؟!‏
ألأجلِ هذا تقّربتُ إليك بالحُب!‏
دعني أشربُ سُمّاً‏
يجعلُني بكماء،‏
واغسلْ بالنسيان المضيء‏
مجديَ المذموم.‏
18 تموز 1914‏
__________________
ـ7ـ‏
كيفَ تستطيع أن تنظر إلى النيفا،‏
بل كيفَ تجرؤ أن تمرَّ فوقَ جسوره؟‏
لم أشتهر بحزني عبثاً‏
منذُ تلكَ اللحظة التي ظهرتَ فيها.‏
حادةٌ أجنحةُ الملائكة السود؛‏
وقريباً ستبدأ المُحاكمة الأخيرة.‏
شُعلات توت العلّيق القرمزّية‏
ستزهِرُ في الثلجِ؛ كالورود‏
1914‏
__________________
ـ8ـ‏
دونَ ضجيجٍ اختفوا في أرجاء البيت،‏
ما عادوا ينتظرونَ شيئاً.‏
كانوا قد قادوني إلى المريض،‏
لكنني لم أعرفه.‏
قالَ: “الحمد لله. الآن ـ‏
وغابَ في أفكاره ـ‏
كانَ عليّ أن أغادر منذُ زمنٍ بعيد‏
وما أخّرني إلا انتظارك.‏
كم تُقلقينني في نوباتِ هذياني؛‏
كلماتك كلها لا تفارق ذاكرتي‏
أخبريني: “أليسَ بإمكانك أن تغفري؟”‏
قلتُ: “بإمكاني!”‏
تراءى لي أن الجدران تتوهّج‏
من الأرض حتى السقف.‏
وعلى ملاءةٍ حريرّية‏
انطرحتْ يدٌ جافة.‏
أصبحَ البروفيل الوحشي المُلقى جانباً‏
أكثر ثقلاً وخشونةً‏
وما عادَ صوتُ الأنفاس يُسْمَع‏
عند شفتيهِ القاتمتين المجعّدتين.‏
وفجأةً انبعثتْ في عينيهِ الزرقاوين‏
قوّة أخيرة:‏
“حسنٌ، أنكِ أطلقتني‏
ما كنتِ دائماً بمثلِ هذه الطيبة”‏
وعادَ وجهُهُ شاباً‏
فعرفتُهُ من جديد.‏
وقلتُ: ” يا ربيّ‏
هوذا عبدُك فتقبّلهُ”‏
حزيران 1914‏
__________________
ـ9ـ‏
كانَ غيوراً، قلقاً ورقيقاً‏
وقد أحبّني كأنني شمسُ الرب،‏
أحبّني؛ فقتلَ طيريَ الأبيض‏
كي لا يغنّي عن الماضي.‏
مع الغروب راحَ يُردد، وهو يدخُلُ غُرفتي:‏
“أحبّيني، اضحكي، اكتبي الشعر!”؛‏
بينما كنتُ أدفنُ طيريَ الفَرِح‏
خلفَ البئر الدائريّة، تحت الحورة العتيقة.‏
وعدتُهُ أنني لن أبكي‏
لكن قلبيَ تحوّلَ إلى حجر‏
وأصبحتُ أسمَعُ ترجيعَ طيريَ العذب‏
في كل مكانٍ، وكل زمان.‏
1914‏
_____________________
ـ10ـ‏
قبلَ الربيع تمرُّ أيامٌ كهذه:‏
تحتَ الثلج الكثيف يرتاحُ المرج‏
والأشجار الجافة تحفحفُ بفرح‏
والريحُ الدافئة رقيقة وحانية.‏
جسدُكَ تدهِشُهُ خفّته،‏
وبيتُكُ تنسى مكانَهُ‏
وتلكَ الأغنية التي كنتَ قد مللتَها‏
ستغنّيها بانفعال، كما لو كانت جديدة‏
ربيع 1915‏
سليبنيفو‏
_____________________
ـ11ـ‏
ومن جديدٍ تُهدى إليَّ في وسني‏
جنّتُنا السماويّة الأخيرة ـ‏
مدينةُ النوافير النقيّة،‏
“باختشيساري” الذهبيّة.‏
هناك خلفَ السياج المُرقّش‏
عند حافةِ المياه الشاردة‏
تذكرنا بفرح‏
حدائق الضاحية القيصريّة‏
ولاحظنا فجأةً‏
نسرَ كاترينا ـ هناك تماماً؛‏
كان يطيرُ قريباً من قاع الوادي،‏
بعدَ أن انفصلَ عن البّوابة البرونزّية العظيمة!‏
ولكي تعيش أغنيةُ ألم الوداعِ‏
طويلاً في ذاكرتي‏
حَمَلَ إليّ الخريفُ الأسمر‏
أوراقاً حمراء في طرفِ ثوبه.‏
ونثرها فوقَ الدرجاتِ الحجرّية.‏
حيث كانَ وداعُنا‏
حيث من هُناك غادرتَ ـ يا سلوتي ـ‏
إلى مملكةِ الظل.‏
1916‏
سيفاستوبل‏
__________________
ـ12ـ‏
النهرُ يجري هادئاً في الوادي‏
والبيتُ ذو النوافذ الكبيرة يفترشُ الرابية.‏
أمّا نحن فنعيشُ كما لو أننا في عهد كاترينا:‏
نقيمُ الصلوات، وننتظرُ الغِلال.‏
الضيفُ الذي يتحمّلُ فراقَ يومين‏
يجيءُ مسافِراً على طولِ الحقل الذهبي‏
يُقبّلُ يدَ جَدّتي في غرفة الضيافة‏
وشفتيَّ على السُلّم!‏
صيف 1917‏
__________________
ـ13ـ‏
وكان هُناكَ صوتٌ، دعاني مُهدئاً..‏
قالَ: “تعالي إلى هنا‏
دعي تلكَ البلاد الموحشة الخاطئة.‏
اهجري روسيا إلى الأبد‏
أنا سأنظّفُ الدماءَ عن كفيّكِ‏
وأخرجُ من قلبك العارَ الأسود،‏
سأستُركِ باسمٍ جديد،‏
وأنزعُ عنكِ ألمَ الهزيمة والحزن.‏
ولكنني بهدوءٍ ولا مبالاة‏
غطّيتُ أذنيَّ بكفَّيَ‏
كي لا يُدنِّسَ هذا الكلام الوضيع‏
روحيَ الكئيب.‏
خريف 1917.‏
__________________
ـ14ـ‏
وها أنتذا من جديد. لا فتىً مُتيّماً‏
ولكن زوجاً عنيداً سليطاً وحاداً‏
تدخُلُ هذا البيت، وتنظر إلي؛‏
فيرعُبني هدوء ما قبل العاصفة.‏
تسأل ما الذي فعلتُهُ لك،‏
وقد ربطكَ بي إلى الأبد الحُبّ والقدر.‏
خدعتُك. ويتكرّر ذلك! ـ‏
آه، ليتكَ تتعب ولو مَرّةً واحدة!‏
فما تقولُهُ شبيهٌ بكلام المقتول؛ يُقلقُ به نومَ القاتل!‏
شبيهٌ بانتظار ملاك الموت قُربَ المخدع الرهيب.‏
فلتسامحني الآن؛ الربُّ علّمَنا التسامُح‏
إن جسدي ينطفئ في مرضي الكئيب،‏
وروحي الحُرّة هجعت تطلب الاطمئنان!‏
ولا أتذكّرُ إلا تلكَ الحديقةَ الخريفيّة الرقيقة‏
وصراخ طيور الكراكي، والحقولَ السمراء..‏
آه كم كانت الدُنيا حلوةً معك!‏
تموز 1916‏
سليبنيفو‏
__________________
ـ15ـ‏
رّبةُ الإلهام‏
عندما أنتظر قدوَمها في الليل‏
تبدو الحياةُ معلّقة بشعرة.‏
ما الشرف، ما الشباب، ما الحريّة؟‏
أمامَ ضيفةٍ غاليةٍ تحمل المزمار في يدها‏
هاهي ذي تدخل. تنظر إليّ باهتمام‏
وقد كشفت النقابَ عن وجهها،‏
أقولُ لها: “ألستِ أنتِ من أملى على دانتي‏
صفحات الجحيم؟، فتجيبني: “أنا”.‏
1924‏
__________________
16 ـ إلى الشِعر‏
كم قُدتني في الطرق الوعرة،‏
كنجمٍ يسقطُ في الظلام‏
وكنتَ لي حُرقةً، وكذباً‏
أمّا عزاءً ـ فما كنتَ أبداً!‏
1961‏
__________________
ــ17ــ‏
أحدهم يمشي إلى الأمام،‏
وآخر يسيرُ بشكلٍ دائري‏
هذا ينتظرُ العودة إلى بيتِ أبيه،‏
وذاك ينتظرُ صديقته القديمة.‏
أمّا أنا فأسيرُ ـ وخلفي المصيبة،‏
لا في طريقٍ مستقيمٍ، ولا منحنٍ،‏
إنمّا إلى اللامكان.. إلى اللاوجهة‏
كقطارٍ خارجٍ عن سكّته!‏
1940‏
__________________
ـ18ـ إلى الموت‏
ستجيءُ بالرغم من كل شيء ـ فلماذا لا تجيءُ الآن؟‏
أنا أنتظرك ـ وحالتي صعبة‏
لقد أطفأتُ الضوء، وفتحتُ الباب‏
لكَ، أيّها البسيطُ والرائع.‏
فالبس لأجل ذلك الوجه الذي تُريد ـ‏
اقتحم رصاصةً مسموَمةً،‏
أو تسلّل حاملاً أداةً ثقيلة؛ كأي مجرمٍ ذي خبرة.‏
أو سممني بحُمى التيفوئيد.‏
أو اقتُلني بخرافةٍ تختلقها،‏
وكل أحداثها معروفة حتّى الاستفراغ ـ‏
كي أرى ذروة القبّة الزرقاء‏
ووجهَ مدير العمارة المُصفَر من الذُعر.‏
سيّان عندي الآن. نجم القطبِ يَرتفع..‏
يتصاعد “ينيسيه”.‏
ويبدّدُ البريقُ الأزرق للعيون التي أحبُّها‏
الرُعبَ الأخير.‏
19 آب 1939‏
 
__________________
ترجمة .د.ثائر زين الدين
المصدر: موقع المسيرة الالكتروني  
زر الذهاب إلى الأعلى