ـ1ـ
لا تُقصّف رسالتي يا صديق
بل اقرأها حتى النهاية
لقد مللتُ أن أكونَ مجهولةً
لا تنظرُ هكذا، عابساً مُتجِّهاً.
فأنا حبيبتك، أنا لك
لستُ راعيةً، ولا أميرة
وما أنا راهبة.
رُبّما ما زلتُ في ردائي الرمادي المُعتاد
وعلى كعبينِ عتيقين
ولكنني كسابق عهدي، حارة في العناق
والرعبُ يملأُ عينيَّ الكبيرتين.
لا تقصّف رسالتي يا صديقي
ولا تبكِ كذبةً محبوبةً
ضع الرسالة في حقيبةِ سفركَ الفقيرة.
في قعرها العميق نفسه.
1912
__________________
ـ2ـ
وأظلَمَ في السماء الطلاء الأزرق
وتعالت أغنية الناي
لكنّهُ ليسَ إلا قصبة..
لا سببَ يجعله يشكو هكذا
فمن يا تُرى حَدّثَهُ عن ذنوبي؟
ولأي شيء يغفر لي؟
أم أنّ هذا الصوت يُرجِّعُ
على مسامعي آخر أشعارك.
1912
__________________
ـ3 ـ
مَرحباً! أتسمَعُ حفيفاً خفيفاً
إلى اليمين من طاولتك؟
لن تتمكّن من كتابة هذهِ الأسطر الباقية ـ
فقد أتيتُ إليك.
أتُراكَ تغضبُني
كما فعلتَ في المَرّةِ الماضية ـ
فتقول إنكَ لا ترى يديّ!
لا ترى يديّ أو عينيَّ؟
عندكَ المكانُ وضيءٌ وبسيط؛
فلا تطردني..
إلى حيث تتجمّد المياهُ الآسنة
تحتَ قنطرةِ الجسر الخانقة.
1913
__________________
4 ـ صوت الذاكرة
إلى أولغا أفانا سيفناغليبوفا
ما الذي تَريَنهُ وأنتِ تنظرينَ حزينةً إلى الجدار
في ساعةٍ، تحلُّ فيها لحظاتُ الشفق الأخيرة؟
أنورساً فوقَ بساطِ الماء الأزرق؟!
أم حدائق فلورنسيّة؟!
أم لعلّكِ ترينَ منتزهَ الضاحيّة القيصريّة الكبير
حيثُ اعترضَ القلق طريقكِ؟!
أم ترينَ عند ركبتيك ذلك الشاب
الذي هَجَر أسرَكِ إلى موتِهِ الأبيض.
لا. أنا لا أرى إلا الحائط ـ وعليهِ
تنعكسُ نيرانُ السماء المنطفئة لتوّها.
18 حزيران 1913
__________________
ـ5ـ
كُلّ يومٍ مُقلقٌ ـ بطريقةٍ جديدة.
رائحةُ الجوادر الناضج تزداد
وما دمتَ تجلسُ متكئاً على ركبتيَّ
أيّها الحلو، فاضطجع!
طيورُ الصفّار تصرُخُ في شجرةِ القيقب الكبيرة،
ولن تصمتَ حتى يحل الظلام.
كم يروقُ لي أن أطردَ عن عينيك الخضراوين
تلك النحلات المرحة.
في الطريقِ رنينُ أجراس:
مألوف هذا النغم الرقيق
سأغنّي لك كي لا تبكي
أغنيةً عن أمسية الفراق.
1913
__________________
ـ6ـ
ثقيلةٌ أنت يا ذاكرةَ الحُب!
في دخانك أُغنّي وأحترق.
أمّا الآخرونَ فلا يرونَ فيكِ إلا لهباً
يُدفئُ أرواحهم الباردة.
تلزمهم دموعي
كي يبعثوا الحرارةَ في أجسادهم المنطفئة..
ألأجلِ هذا غنّيتُ أيّها الرب؟!
ألأجلِ هذا تقّربتُ إليك بالحُب!
دعني أشربُ سُمّاً
يجعلُني بكماء،
واغسلْ بالنسيان المضيء
مجديَ المذموم.
18 تموز 1914
__________________
ـ7ـ
كيفَ تستطيع أن تنظر إلى النيفا،
بل كيفَ تجرؤ أن تمرَّ فوقَ جسوره؟
لم أشتهر بحزني عبثاً
منذُ تلكَ اللحظة التي ظهرتَ فيها.
حادةٌ أجنحةُ الملائكة السود؛
وقريباً ستبدأ المُحاكمة الأخيرة.
شُعلات توت العلّيق القرمزّية
ستزهِرُ في الثلجِ؛ كالورود
1914
__________________
ـ8ـ
دونَ ضجيجٍ اختفوا في أرجاء البيت،
ما عادوا ينتظرونَ شيئاً.
كانوا قد قادوني إلى المريض،
لكنني لم أعرفه.
قالَ: “الحمد لله. الآن ـ
وغابَ في أفكاره ـ
كانَ عليّ أن أغادر منذُ زمنٍ بعيد
وما أخّرني إلا انتظارك.
كم تُقلقينني في نوباتِ هذياني؛
كلماتك كلها لا تفارق ذاكرتي
أخبريني: “أليسَ بإمكانك أن تغفري؟”
قلتُ: “بإمكاني!”
تراءى لي أن الجدران تتوهّج
من الأرض حتى السقف.
وعلى ملاءةٍ حريرّية
انطرحتْ يدٌ جافة.
أصبحَ البروفيل الوحشي المُلقى جانباً
أكثر ثقلاً وخشونةً
وما عادَ صوتُ الأنفاس يُسْمَع
عند شفتيهِ القاتمتين المجعّدتين.
وفجأةً انبعثتْ في عينيهِ الزرقاوين
قوّة أخيرة:
“حسنٌ، أنكِ أطلقتني
ما كنتِ دائماً بمثلِ هذه الطيبة”
وعادَ وجهُهُ شاباً
فعرفتُهُ من جديد.
وقلتُ: ” يا ربيّ
هوذا عبدُك فتقبّلهُ”
حزيران 1914
__________________
ـ9ـ
كانَ غيوراً، قلقاً ورقيقاً
وقد أحبّني كأنني شمسُ الرب،
أحبّني؛ فقتلَ طيريَ الأبيض
كي لا يغنّي عن الماضي.
مع الغروب راحَ يُردد، وهو يدخُلُ غُرفتي:
“أحبّيني، اضحكي، اكتبي الشعر!”؛
بينما كنتُ أدفنُ طيريَ الفَرِح
خلفَ البئر الدائريّة، تحت الحورة العتيقة.
وعدتُهُ أنني لن أبكي
لكن قلبيَ تحوّلَ إلى حجر
وأصبحتُ أسمَعُ ترجيعَ طيريَ العذب
في كل مكانٍ، وكل زمان.
1914
_____________________
ـ10ـ
قبلَ الربيع تمرُّ أيامٌ كهذه:
تحتَ الثلج الكثيف يرتاحُ المرج
والأشجار الجافة تحفحفُ بفرح
والريحُ الدافئة رقيقة وحانية.
جسدُكَ تدهِشُهُ خفّته،
وبيتُكُ تنسى مكانَهُ
وتلكَ الأغنية التي كنتَ قد مللتَها
ستغنّيها بانفعال، كما لو كانت جديدة
ربيع 1915
سليبنيفو
_____________________
ـ11ـ
ومن جديدٍ تُهدى إليَّ في وسني
جنّتُنا السماويّة الأخيرة ـ
مدينةُ النوافير النقيّة،
“باختشيساري” الذهبيّة.
هناك خلفَ السياج المُرقّش
عند حافةِ المياه الشاردة
تذكرنا بفرح
حدائق الضاحية القيصريّة
ولاحظنا فجأةً
نسرَ كاترينا ـ هناك تماماً؛
كان يطيرُ قريباً من قاع الوادي،
بعدَ أن انفصلَ عن البّوابة البرونزّية العظيمة!
ولكي تعيش أغنيةُ ألم الوداعِ
طويلاً في ذاكرتي
حَمَلَ إليّ الخريفُ الأسمر
أوراقاً حمراء في طرفِ ثوبه.
ونثرها فوقَ الدرجاتِ الحجرّية.
حيث كانَ وداعُنا
حيث من هُناك غادرتَ ـ يا سلوتي ـ
إلى مملكةِ الظل.
1916
سيفاستوبل
__________________
ـ12ـ
النهرُ يجري هادئاً في الوادي
والبيتُ ذو النوافذ الكبيرة يفترشُ الرابية.
أمّا نحن فنعيشُ كما لو أننا في عهد كاترينا:
نقيمُ الصلوات، وننتظرُ الغِلال.
الضيفُ الذي يتحمّلُ فراقَ يومين
يجيءُ مسافِراً على طولِ الحقل الذهبي
يُقبّلُ يدَ جَدّتي في غرفة الضيافة
وشفتيَّ على السُلّم!
صيف 1917
__________________
ـ13ـ
وكان هُناكَ صوتٌ، دعاني مُهدئاً..
قالَ: “تعالي إلى هنا
دعي تلكَ البلاد الموحشة الخاطئة.
اهجري روسيا إلى الأبد
أنا سأنظّفُ الدماءَ عن كفيّكِ
وأخرجُ من قلبك العارَ الأسود،
سأستُركِ باسمٍ جديد،
وأنزعُ عنكِ ألمَ الهزيمة والحزن.
ولكنني بهدوءٍ ولا مبالاة
غطّيتُ أذنيَّ بكفَّيَ
كي لا يُدنِّسَ هذا الكلام الوضيع
روحيَ الكئيب.
خريف 1917.
__________________
ـ14ـ
وها أنتذا من جديد. لا فتىً مُتيّماً
ولكن زوجاً عنيداً سليطاً وحاداً
تدخُلُ هذا البيت، وتنظر إلي؛
فيرعُبني هدوء ما قبل العاصفة.
تسأل ما الذي فعلتُهُ لك،
وقد ربطكَ بي إلى الأبد الحُبّ والقدر.
خدعتُك. ويتكرّر ذلك! ـ
آه، ليتكَ تتعب ولو مَرّةً واحدة!
فما تقولُهُ شبيهٌ بكلام المقتول؛ يُقلقُ به نومَ القاتل!
شبيهٌ بانتظار ملاك الموت قُربَ المخدع الرهيب.
فلتسامحني الآن؛ الربُّ علّمَنا التسامُح
إن جسدي ينطفئ في مرضي الكئيب،
وروحي الحُرّة هجعت تطلب الاطمئنان!
ولا أتذكّرُ إلا تلكَ الحديقةَ الخريفيّة الرقيقة
وصراخ طيور الكراكي، والحقولَ السمراء..
آه كم كانت الدُنيا حلوةً معك!
تموز 1916
سليبنيفو
__________________
ـ15ـ
رّبةُ الإلهام
عندما أنتظر قدوَمها في الليل
تبدو الحياةُ معلّقة بشعرة.
ما الشرف، ما الشباب، ما الحريّة؟
أمامَ ضيفةٍ غاليةٍ تحمل المزمار في يدها
هاهي ذي تدخل. تنظر إليّ باهتمام
وقد كشفت النقابَ عن وجهها،
أقولُ لها: “ألستِ أنتِ من أملى على دانتي
صفحات الجحيم؟، فتجيبني: “أنا”.
1924
__________________
16 ـ إلى الشِعر
كم قُدتني في الطرق الوعرة،
كنجمٍ يسقطُ في الظلام
وكنتَ لي حُرقةً، وكذباً
أمّا عزاءً ـ فما كنتَ أبداً!
1961
__________________
ــ17ــ
أحدهم يمشي إلى الأمام،
وآخر يسيرُ بشكلٍ دائري
هذا ينتظرُ العودة إلى بيتِ أبيه،
وذاك ينتظرُ صديقته القديمة.
أمّا أنا فأسيرُ ـ وخلفي المصيبة،
لا في طريقٍ مستقيمٍ، ولا منحنٍ،
إنمّا إلى اللامكان.. إلى اللاوجهة
كقطارٍ خارجٍ عن سكّته!
1940
__________________
ـ18ـ إلى الموت
ستجيءُ بالرغم من كل شيء ـ فلماذا لا تجيءُ الآن؟
أنا أنتظرك ـ وحالتي صعبة
لقد أطفأتُ الضوء، وفتحتُ الباب
لكَ، أيّها البسيطُ والرائع.
فالبس لأجل ذلك الوجه الذي تُريد ـ
اقتحم رصاصةً مسموَمةً،
أو تسلّل حاملاً أداةً ثقيلة؛ كأي مجرمٍ ذي خبرة.
أو سممني بحُمى التيفوئيد.
أو اقتُلني بخرافةٍ تختلقها،
وكل أحداثها معروفة حتّى الاستفراغ ـ
كي أرى ذروة القبّة الزرقاء
ووجهَ مدير العمارة المُصفَر من الذُعر.
سيّان عندي الآن. نجم القطبِ يَرتفع..
يتصاعد “ينيسيه”.
ويبدّدُ البريقُ الأزرق للعيون التي أحبُّها
الرُعبَ الأخير.
19 آب 1939
__________________
ترجمة .د.ثائر زين الدين
المصدر: موقع المسيرة الالكتروني