إن الفن طريق المعرفة، وعالم الفن نظام خاص ذو قيمة للإنسان، يضارع عالم الفلسفة والعلوم، والحق أننا لا نبدأ في تقدير أهمية الفن في تاريخ البشرية إلا عندما نرى بكل وضوح، الفن بوصفه طريقًا للمعرفة، مساويًا للطرق الأخرى التي يتوصل بها الإنسان لفهم ما يحيط به”
– هربيرت ريد – الفن والمجتمع
في الثالثة من عمري كنتُ أحمل المذياع متنقلا في أرجاء المنزل وحديقته، كانت الألوان تتفتح أمامي من خلال صوت الموسيقى الصادر عن المذياع، وبينما يتلهى أقراني في لعب الكرة كنتُ أبحث بيدي عن مفتاح التنقل بين الاذاعات لاستمع الى ما يذاع حين ذاك، وكانت أمي تضحك وهي تراني منسجما مع الموسيقى لدرجة أنها التقطت لي صورة وأنا أحمل الراديو فور استيقاظي من النوم، وكانت كلما أرادت أن ترتاح من طلباتي لتلتفت الى أعمال المنزل تلهيني بالراديو الكبير.
ظلت الموسيقى معي ملاذا جميلا ألجأ إليه، وظل الراديو صديق طفولتي، كنتُ أحاول بينما أكبر من سنة الى سنة أن ألتقط صوت الموسيقى في الأشياء التي حولي، أحاول مرارا أن أستمع الى صوت الماء وهو يهبط من الصنبور فأضع أصابعي تحت الماء لأستمع الى الصوت وهو يتغير مع حركة أصابعي، صارت لعبتي الأجمل هي محاولة البحث عن الموسيقى. بعد ذلك كانت المدرسة، وكانت أجمل الحصص هي حصص الأناشيد، حيث أستمع الى صوت زملائي ككورال مع أستاذي الذي كان يعزف على العود بينما كنا نغني النشيد.
منذ بلغت العاشرة من عمري بدأت أبحث عن وسيلة لامتلاك آلة للعزف، وكان عود أستاذ الأناشيد يشدني إليه وأنا أرى أصابعه تتلاعب بالأوتار فتصدر أنغاما جميلة ننشد معها ونحلق في سموات بعيدة، تركتُ أستاذي منشغلاً وتحايلت فأمسكت عوده ورحت أعزف عليه أنغاما متقطعة لا رابط بينها ولكنني كنتُ أحاول أن أصنع جملة موسيقية صحيحة. فجأة دخل الأستاذ علي وأنا احمل عوده، كنتُ من وجهة نظري أعزف، وكان من وجهة نظره يراني ألعب، فأستحقيت العقاب، وامسك بقلم رصاص ثم وضعه بين اصبعين من أصابعي وأمسك على يدي بشدة فغابت روحي من الألم فصرختُ. هذه الحادثة ظلت معي دائما، وكنتُ كلما تذكرتها شعرت بالألم مجددا في أصابعي، لكنها جعلتني أقسم بأنني سأتعلم العزف على العود لأصبح أفضل من استاذي الذي عاقبني.
في السن نفسه تقريبا كنتُ بدأت اغني الأغنيات التي كنت أستمع إليها أمام البنات والصبيان الذين كانوا يخرجون بعد القيلولة الى ساحة المدينة، كنتُ أغني أغاني عبد الحليم حافظ، فأرى البنات من حولي وقد بدأت أعينهن تمتلىء بالدموع وتتساقط على خدودهن وكنتُ أحب ذلك الشعور الذي كان يصاحبني أثناء الغناء، فقد كنت أشعر أنني أعيش في عالم آخر وانفصل عن أقراني الذين يحيطون بي وأنا أغني. في ذلك الوقت كان لدي الكثير من الأحلام، وقد علمتني الأيام أن الحلم سيظل حلما ما لم نلامسه بأصابع واثقة، ولم أكن أحب الأحلام التي لا تتحقق، كنتُ أريد أن أعيش الحلم الذي أعايشه في الخيال حقيقة، كنتُ أريد أن ألامسه وأشعر به.
هكذا بدأت أولى خطواتي مع الأحلام، كنتُ أرى نفسي جالسا على خشبة المسرح والجمهور يحيط بي، وكنت أستمع الى التصفيق، وحلمتُ كثيراً، لكنني بأصابع واثقة كما ذكرت كنت أسير نحو الحلم وباتجاه تحقيقه.
وفي عام 1977 حققت أول خطوة على سلم الحلم الطويل وبدأت بتعلم العزف على العود على يد معلمي الأول صاحب حسين الناموس في مدينتي الكوت التي تقع جنوب بغداد، وبعد أربع سنوات التحقت بمعهد الدراسات النغمية في بغداد، وتلقيت أول عود هدية من أستاذي ليصبح ملكا لي أداعب أوتاره في ساعات الصباح المبكرة وحتى طلوع الفجر، كنتُ ما أن أضع رأسي على الوسادة حتى تعاودني أحلامي، فأهرع الى العود الذي كان دائما الى جانب سريري وأحتضنه كما لو أنه حبيبتي الأبدية. كنتُ أشعر بأن العالم كله بين يدي، وأستمع الى الأنغام المتصاعدة من العود وأنا أضع أذني عليه، أشم رائحة خشبه، وأشعر بأن التاريخ كله منتصب أمامي أحادثه بالموسيقى ويرد علي هو الآخر بالموسيقى. صرتُ أبحث في كتب التاريخ، وأقرأ عن السومريين وأجدادنا البابليين أحاول البحث عن مصادر جديدة تجعلني أشعر بأن هذه الآلة التي في يدي هي نفسها التي عزف عليها السومري المنتصب في متحف بغداد. كان العود هو التاريخ، وهو الذي يروي ويحكي لي، أعايشه وأظل أحدثه ولا يبخل علي فقد وهبته حياتي كلها وصرت رهنا له.
في معهد الدراسات النغمية لم أكن أريد أن أكون تلميذا عادياً، كان العود هو منتهى أحلامي، هو حياتي التي أراها في المستقبل، وكان حلمي يلح علي، فأتدرب ليلا نهارا على العزف من دون كلل أو ملل، وكان اليوم الذي تنقص ساعات التدرب فيه على العزف عن عشر ساعات أشعر أنه يوم مفتقد من عمري، بل يوم ضائع ذهب هباء، وكنت أشعر بأن العمر يمضي سريعا، وبأن الحلم لا يستطيع الانتظار طويلا، فالحلم يفقد صبره مثله مثلنا نحن البشر، أن لم نغذه بمقومات بقائه أضحى هباء وذهب الى أدراج النسيان.
كنتُ في الساعات القليلة التي أريح فيها جسدي أمضي في الحلم بعيدا، أجوب دول العالم محتضنا عودي ومناديا بقضيتي التي أؤمن بها، قضية الانسان في كل زمان ومكان، وكنتُ أشعر بأن هذا العود هو وحده الذي سيستطيع أن يكسر كل الحواجز ليمضي بي يعيدا جدا، وليسمعني ويتعرف على حضارة وطني كل من في العالم، فالموسيقى وحدها اللغة التي تصنع المعجزات، هي وحدها اللغة التي لا تحتاج الى وسيط، تخرج من الروح لتذهب فورا الى الروح. في ذلك الوقت لم أكن أريد أن أتحول الى ببغاء يردد ما يتعلمه من أستاذه، كنت أريد أن أذهب أبعد بكثير فالنسخة لا يمكن أن تتحول الى أصل ستبقى رقما من تعداد النسخ، وأردت دائما التفرد، هكذا كنت أعزف موسيقاي وألحاني، أجلس على الكرسي وأنا أحاول أن أرى الكون وأصنعه موسيقى. صارت الموسيقى هي العين التي أرى من خلالها العالم كله.
في ما بعد تخرجت من معهد الدراسات النغمية على يد أساتذة كفوئين وكبار الأستاذ علي الإمام والأستاذ روحي الخماش والأستاذ سالم عبد الكريم، وصار علي أن أشق مستقبلي الذي عملت من أجله، هذا بالرغم من أنني خلال سنوات تعلمي في معهد الدراسات النغمية كنت أقوم بالتدريس في المعهد ذاته وفي مدرسة الموسيقى والباليه. لا أعرف لماذا قبلت أن أشارك في ذلك الوقت بمسابقة في التأليف الموسيقي، فأنا كشخص غير مقتنع بالمسابقات كلها، وبالرغم من ذلك تقدمت للمسابقة، ونلت الجائزة الأولى لأفضل لحن. وبالرغم من فرحي بالجائزة إلا أنني لم أشعر بأنني حققت أي من أحلامي، كانت أحلامي أكبر من البحر بكثير، تعبره وتذهب الى ما ورائه، لكن كانت رحى الحرب مع الجارة ايران قد اشتدت وبدأت تسرق من أحلامنا وحاضرنا الكثير الذي أدركناه في ما بعد.
في ذلك الوقت جاءني صديق كان يتعلم العزف على العود، وعندما رأيته صدمت فقد اختفت يده وأصبح بيد واحدة، صورته هذه هزتني من الأعماق فلم أستطع كلاما، نظرت إليه، فبادرني قائلا: الآن لم يعد في وسعي أن أعزف العود فقد انفجر لغم في يدي كما ترى وصرت بيد واحدة، ويد واحدة لا تصفق، صمت طويلا قبل أن أستطيع الرد ثم قلت له بعد أن اجتاحت نفسي قوة غريبة: لا تخف ستستطيع العزف وستكمل المشوار، فقال: كيف، قلت له: أقسم لك لن أعزف ثانية قبل أن أجعلك قادرا على العزف. بعد هذه الحادثة لجأت الى غرفتي مقفلا الباب على نفسي محاولا العزف بيد واحدة متناسيا يدي الثانية السليمة، وبعد فترة كانت مقطوعة (قصة حب شرقية) التي ألفتها لتعزف على يد واحدة، كانت هذه هي الخطوة الأولى للعزف لمن فقد يده أثناء الحرب وهم جنود كثر، وفي ما بعد أصبحت هذه الطريقة شائعة بين طلابي الذين أدرسهم أساليب العزف على العود.
جاء عام 1988 ليضع حدا لهذه الحرب التي كان وقودها قرابة المليوني انسان من البلدين وشروخا عميقة في أرواحنا لم يستطع الزمن مداواتها في العام 1989 غادرت بغداد الى عمان للمشاركة في مسرحية عنوانها (البلاد طلبت أهلها) تأليف المرحوم عبد اللطيف عقل وأخراج المنصف السويسي، وجئت في تلك السنة لأول مرة الى القاهرة لتسجيل الموسيقى والألحان في استديوهات مصر، وكان لهذا العمل المسرحي تأثيرا بالغا على مسيرتي في ما بعد، فقد خصصت ريع حفلاتي في ذلك العام لأبناء فلسطين وبدأت بكتابة أعمال كثيرة تتحدث عن بطولات الشعب الفلسطيني وقدرته غير المتناهية على المقاومة، وبدأت هذه الأعمال تنتشر في كل مكان وتُطلب، وأحسست آنذاك بقيمة أن يكون الموسيقي ابنا لزمانه ولسان حال مجتمعه محتفظاً بمستوى فني فوق الشبهات.
فجأة صحوت على حلم كنتُ رأيت فيه الموسيقى، أعني أنني لم أكن أسمعها بل أراها بعينين مفتوحتين وهي تتراقص أمامي بأجنحة بيضاء أخاذة في جمالها، نهضت من سريري، وأنا أفكر بالطريقة التي أستطيع من خلالها أن أرى الموسيقى، أنني أسمعها لكنني أريد أن ألامسها وأراها، أمسكت العود بين اصابعي، وأغمضت عيني، كانت الأنغام تتراكض بين أصابعي وتؤلف صورة واسعة لفرس يركض في أرض لا نهائية من دون أن يتوقف أبدا يركض ويركض وهو يصنع من وقع حوافره موسيقى تدب في أذني فتعيد أصابعي صياغتها، أنهيت اللحن الذي خرج مرة واحدة وبدفقة لا تتوقف لأجد نفسي أرى الموسيقى، منذ ذلك اليوم صرت أريد من الموسيقى أن تصبح صورة تُرى بالعينين كما تُسمع بالأذنين، صرت أبحث عن موسيقى الصورة التي صارت هاجسي في كل ما ألفت من أعمال موسيقية.
انتهى ذلك العام بمأساة طبعت حياتي بالألم والحزن والسواد، فقدت حريتي فجأة، في ذلك الوقت أصبحت سجيناً خلف القضبان، كنتُ قد بدأت بحصد نجاحات متتالية وجوائز عديدة وفجأة أعادني كابوس إلى النقيض. عدتُ عنوة الى العراق وانقلبت حياتي رأسا على عقب، وبعد فترة زمنية كانت دهورا عددها مائة وسبعون دخلت خدمة العلم الالزامية وخلال أدائي لهذه الخدمة حصل المحظور ودخل العراق الى الجارة الكويت وبدأت الأحداث تتوالى وتتطور بسرعة مذهلة، دمر بعدها بلدي وتمزقت روابط الكرخ والرصافة ضفتي بغداد الجميلتين وكأننا صحونا على زلزال دمر كل جميل فينا وعلى أرضنا.
رحلت هنا والدتي التي كانت هي المعادل عندي للوطن، صرت فجأة يتيما وأنا استعيد دعوتها لي في كل صباح قبل أن أغادر المنزل (ان شاء الله يتحول التراب بيدك الى ذهب)، وهذه أجمل دعوة سمعتها في كل ما تبع من سنوات.
كان مواليد عام 1963 هي أول مجموعة تسرح من الجيش بعد وقف إطلاق النار، هنا بدأت أفكر ما هو العمل الذي يطبب جروح أرض الرافدين، فقررت أن أقدم أول حفل وفي المتحف العراقي (القاعة الآشورية تحديدا) التي تحتوي جدرانها على قطع أثرية تعود الى خمسة آلاف عام، أردت أن أقول من تلك القاعة أن هذا هو العمق الحقيقي لنا لا ما تهدم من مبانٍ وجسور. كانت الدماء ما تزال ندية حينما أعلن عن موعد الحفل ببطاقات دعوة طبعت باليد كما أراد لنا بوش بان يعيدنا الى عصر ما قبل التكنولوجيا’ لكنه ودون أن يشاء أعادنا إلى جذر ربما قد نسيناه بمجيء التكنولوجيا، وكان لهذه الحفلة فعل السحر حضورا وعزفا وتأثيرا كأنما طائر العنقاء قد بدأ ينفض التراب عن نفسه ليحلق مجدداً.
حملت عودي وجرح العراق وطفت العالم من دون دعم أي جهة لا داخل ولا خارج العراق، كنت مسلحا بإيماني وموهبتي وما تعلمت وعودي، كانت الأنغام قادرة على أن تجمع كميات كبيرة من علب الدواء لأطفال وشيوخ شعبي، وامتدت ساقاي الى أرجاء الوطن العربي والعالم، وكان يقيني يزداد كل يوم بأن الموهبة مسؤولية كبيرة لم تمنح للانسان تكريما له ليؤدي واجبا مقدسا من خلالها.
في أكتوبر 1993 دعيت الى تونس لأكون أستاذ العود في المعهد العالي للموسيقى، وأقمت في المعهد خمس سنوات كانت غزيرة بالفن وبالانفتاح أكثر على أوروبا فقد ظهرت لي الأسطوانة الأولى (قصة حرب شرقية) من باريس معهد العالم العربي عام 1994 وتلتها الأسطوانة الثانية (اشراق) من روما عام 1996، وبدأت أجوب العالم وأنا أحمل عودي وأحقق بعض أحلامي التي مازالت لم تتحقق كلها حتى اليوم. بعد ذلك أصدرت أسطوانتي الثالثة “رحيل القمر”.
لم يكن مشواري مع العود سهلا، كان طريقا طويلا ما زال أمامي الكثير لأبلغ نهايته، بل أنني لن ابلغها أبدا، غير أنني عرفت أن من يريد أن يحفر اسمه هو من يضيف لا من يسير على منوال السابقين، فاهتممت بالثقافة والشعر والأدب، وكان زادي من الفنون التشكيلية كبيرا، فأنا تقريبا لدي مجموعة من الأصدقاء التشكيليين أكثر بكثير من الموسيقيين، كما أن جل أصدقائي من الشعراء والكتاب عموما، فالموسيقي بلا ثقافة سيظل مجرد عازف يحرك الاوتار بطريقة ميكانيكية ومن دون أدنى شعور بالرغبة في التغيير أو النظر صوب المستقبل. ومن خلال بحثي المتواصل توصلت الى مخطوطة للمعلم الفارابي موجودة في احدى مكتبات ايرلندا، وفيها يشرح المعلم عن العود ذي الثمانية أوتار، فقمت بتحقيق هذه المخطوطة عام 1986، وقدمت العود بمناظرة مفتوحة أمام الجمهور كان الفارابي والعود المثمن نجمان سطعا في ذلك الحفل.
بعد تونس دعيت الى القاهرة لتحقيق الحلم الذي راودني وخططت له طويلا، وهو إقامة بيت للعود، وهكذا كان بيت العود العربي في دار الاوبرا المصرية (أكتوبر 1998)، ومن هنا انطلقت رحلة جديدة مع جمهور جديد وعريق بدأت اشعر معه بلذة النجاح الذي يقترن بالجدية والجهد والرصانة، ولا أنسى دور د. رتيبة الحفني التي غيرت وجهتي من لندن الى القاهرة وأشعر هنا أن هذه الخطوة كانت صائبة جدا فقد أعطيت الكثير خلال هذه السنوات وكذلك نلت الكثير من الاحترام والتقدير. وربما يصبح الحديث عن تجربة مصر بعد سنوات أجدى.
بعد ذلك أنتقلت ببيت العود العربي من دار الأوبرا المصرية الى بيت الهراوي في الحسين وذلك بسبب ضيق المكان في الأوبرا والذي لم يعد يستوعب الكمية الكبيرة من الطلبة الذين توافدوا من أماكن مختلفة من مصر وخارجها من الدول العربية والأجنبية. أثناء إقامتي في مصر أصدرت أسطوانتي الرابعة “مقامات زرياب” وصدر في مدريد عاصمة اسبانيا، وفيه وضعت عصارة تجربتي.
في مقطوعاتي الموسيقية كنت أحاول طوال الوقت أن أوفق بين حبي للفن التشكيلي وعشقي للسينما، وحاولت أن أكون شاعرا بالألحان، كنت أريد طوال الوقت أن أرى الموسيقى، أن أجسدها أمامي وأراها تتراقص من دون جسد، كنت أرى ألوانها، وحياتها، أراها ككائن آخر يجالسني دائما ويمنحني الطاقة على العيش ومغالبة الصعاب.
لحظة الموسيقى هي أجمل اللحظات التي تطالنا، هي خلاصة وعينا الروحي والفكري معاً، فالخبرة الموسيقية تحتاج الى وعي أقصى، تحتاج إلى كلنا مجتمعين، وأعني بكلنا هو نحن بما جبلنا فيه من وعي تراثي وحضاري وإنساني وتاريخي وحياتي، وفي المحصلة وعي تجربتنا بالكامل. فنحن نتلقى الموسيقى ونتذوقها تبعاً لملكاتنا الفكرية الأعمق، وإذا أمتلأنا بالموسيقى نصبح قادرين على الطيران بعيداً في أرض هي الأجمل، أرض أحلامنا التي تنمو في دواخلنا وتسطع كشمس نلمح بريقها في عيوننا.
كنت أعايش من خلال الموسيقى والعزف لحظات مختلفة من الألم والحنين والحب والموت، أرى صورا متعددة، وأشتاق وأحن إلى أرض اجمل، أنحني وأمشي ممشوق القامة، أقف وأميل.
منذ أول مقطوعة ألفتها، كنتُ أرى الموسيقى، لهذا عندما قرأت ذات مرة قصيدة لشيمبورسكا تقول فيها: كي يرى الموسيقى/ صنع لنفسه كماناً من زجاج. لفتتني العبارة، ولا أعرف لماذا شعرت بأن هذه الكلمة تقصدني أنا تحديدا، فقد صنعت لنفسي عودا من روح، وصار عودي شفيفا، وصرت أرى من خلاله وكنت بلا زجاج أرى الموسيقى تخرج متقطرة من كل شيء، ومنذ تلك اللحظة أيضا عرفتُ أنني أريد أن يرى الناس معي الموسيقى ولا يكتفون بسماعها، أريدهم أن يعيشوا معي لحظة بلحظة، يعايشون لحظتي ولحظتهم في آن، يرتفعون عندما أرتفع وينخفضون عندما أنخفض، يتأملون، يدمعون، يبسمون، كنتُ أريد أن يأخذ مستمعي مني أقصى حالاته، أن يرى الصورة أمامه كما لو أنه أمام شاشة عرض كبيرة ونقية.
عملتُ على موسيقى الصورة، كنتُ أرى وأحاول أن أجسد ما أرى، بينما تجري أصابعي بسرعة وبخفة أحيانا، وببطء أحياناً أخرى. كنتُ أرى الصور كلها. رحلة طويلة وجميلة، هي رحلة حياة، جبت خلالها أرجاء كثيرة من هذا العالم حاملا عودي، ومؤمنا أن الفن يحمل رسالة حضارية الى الأمم، ويجعل وجودنا أقل قسوة في عالم متناحر.
مع الموسيقى كان طريقي جميلا وصعبا، اكتسبت خبرات كثيرة، وتعلمت أن الحزن الذي يقهرنا به الزمن يجعلنا أقوى وأكثر قدرة على العطاء، وها أنني اليوم أنظر الى الموسيقى التي أعطيتها الكثير فمنحتني الكثير، سلم موسيقي بسبع درجات منحني طاقة كبيرة وبأجنحة لا متناهية، ومنحته طيراني في كل مرة أمسك بها عودي.
———
* نصير شمة