من رواية “عراقي في باريس” صموئيل شمعون

كانت رائحةُُ الجصِّ لا تزالُ تنبَعِثُ من الجُدران، رُغمَ مُضيّ شهرَينِ على ترميمِ البيتِ من آثَارِ الحرِيق. و كانت أُمي تغسِلُ رُوبن القابع في الطشت ، و لما فرَكَت جسَدَهُ بخشُونةٍ أبدى تذمُرهُ ” خجا خجا يمِّي خلابَخْ هاوِنْ ” *۱ فرَدَّت أمي غاضِبة ” ماذا أفعل يا مريم العذراءْ ، رُغمَ المصائِب التي تُلاحِقُنا فإنَّ أولادَ الأخرسِ الأطرش باتوا ينزعجون حتى من النظافة ” . ثمَّ راحت تنظُرُ ، بمزيجٍ من الحُزنِ و اليأس ، إلى الصور المُعلقة أمامها على الحائِط : صورةُ مريمُ العذراء و هي تحمِلُ الطفلُ النبي. صورةُ مار كوركيس ممتطيًا فرسهُ و رمحهُ الطويل مغروس في جسَدِ التنين. صورةٌ مُؤطرة بعنايةٍ لمار شمعون ، هذه الصورة التي لفتت انتباهي منذُ الصغر ، و ذاتَ يومٍ سألتُ شميران التي كانت ترقُص و تغني ” من يكُونُ هذا الرجُل ، يا أختِي ؟ ” فأجابتني دُونَ أن تنقطعَ عن رَقصِها و غِنائِها ” إنهُ الله ” . و مُذاك صرتُ كلما أسمعُ كلمة ” الله ” ترتَسِمُ أمامِي صورة الرجل الذِي يرتدِي ثيابًا سوداء ، و يدَهُ اليُمنى مُتكئةٌ على دكةٍ من المرمر ، و ابتِسامتهُ الكنسية شاردةٌ بينَ ثنايا ذقنهُ السوداء . ثمّ التفتت أمي إليَّ و كُنتُ ألاعِبُ أخِي الجديد ، جون ، و قالت:
” أنتَ ، ضع أخاكَ في فِراشِهِ و املأ الفريموس بالنفطِ و أنفخهُ بقوة “.
” نعم أمي ” أجبتُ و أنا أداعِبُ الطفل الذي ولَّدتهُ سكينة في مساءٍ ممطر منذُ ثلاثة أسابيع ، مساءئِذ هرع قرياقوس و جلبَ قنينتينِ من العَرَقْ ، فيما أعدّت شميران و فاطمة كمياتٌ كبيرةٌ من السمك المقليِّ بالزيت و الكارِي الهندِي . في تلكَ السهرة ، تساءَلَت أمي بما تُسمِّي المولود النائِم في سلةِ القَشّ ، إلى جِوارها. بعدَ صمتٍ طويل نظرت أمي إلى أبي : بلَّلت سبابتها اليُمنى بِلِسانِها ، ثمّ ضغطت بِسبابتها على جبينِ الرضِيع ( ماذا نُسمِّيه ؟ ) ، فأجاب أبي بأن هزَّ كَتِفيه مُبتسِمًا بِشيءٍ من الحياء ( لا أدري ) . جرعَ قرياقُوس كأسًا كبيرةً من العَرَق و قال ، و عينيهِ صارَتا حمراوَينِ تمامًا :
” جُـون ” .
” جُـون ؟ ” تساءَلَت أمي بصَوتٍ واهن .

” أجل ، جون ، باسمِ الرَّجُلِ الذي بكَيته كثيرًا منذُ ثلاثِ سنوات ، و في مثل هذا الوقت بالضبط . هل نسيتِ جون كينيدِي يا أختي كرجية ؟ ” .
” أوه ، كيفَ أنسَى جُون كينيدِي ؟ ” قالت أمي ثمَّ ألقَت نظرة نحوَ الرضيع و أكملَت ” أجل ، جون ، إنهُ حقًا اسمٌ جميل. شكرًا يا أخي قرياقُوس ” .
على أنّ قرياقوس قال لي بعدها بيوم، و كنا جالسَين في غرفةِ السينما ” أرأيتَ كيف ضحكتُ على أُمِّكَ و أسمَيتُ أخاكَ الصغِير باسمِ صدِيقنا جون فورد . فقُلتُ له ” و لكننا نُحِب جون كينيدي أيضًا ” . ” طبعًا ، طبعًا ” قال قرياقوس و أضاف ” و لكن يجب أن لا تنسى جويي ، نحنُ سينمائيُون و جون فُورد أقربُ إلينا من جون كينيدِي “.

وضعتُ جون في فِراشِه ، و رُحتُ أملأُ الفريموس و أنفُخَهُ ، فعادَت أمي تصرُخ ( أصبحت عصبيةً منذُ الحريق ) . ” انزع ثيابَكَ و حضِّر نَفسَك ” . خافيًا أعضائِي بِيَدِي ، شرّعتُ أزيحُ ثيابِي ببُطء و أنا أنظُرُ إلى العذراءِ و النبي الصغير ، اللذين كانا ينظُرانِ إليّ.

” يام، الله يخليك لنُحول الطشت إلى الغرفةِ الأخرى ” .

سحَبَتنِي من يدي نحوَ الطشت مُبتَسِمَة كأنها فَهِمَت مغزى كلامِي . صبَّت الماءَ على رأسِي و راحت تدعك جسَدِي و تقول ” عندما تكبُرُون أتمنى أن تعرِفُوا العيب. و لكن يا حسرَة ، من يَضمَن لِي أنكُم ستكونونَ إلى جانبِي في ذلكَ الوَقتْ . كلكم تُريدونَ السفر. أنت ، قِرياقُوس أدخل في رأسِكَ هوليوود . شمشون يريدُ السفر إلى أستراليا بعد أن ينهي الجندية . تيدي إلى ديترويت كما فعلَت ابنة يوشيا . و حتى روبن الصغير صارَ يتحدث عن الطيران. أما أبوكم فحدثوا و لا حرَج. آخ ، لو أنهُ عرف الطريق ، لكان منذُ زمنٍ بعيد قد ألقى بي في الشارع و التحقَ بالإنكليز ” .

” لكن قرياقوس ، قال لي إنّ أبي رفَضَ الذهاب مع الإنكليز ” قلتُ بِلهجَةٍ مُدافِعَة .

” قُم و قِف على قَدَمَيك ، رائِحةُ الجيفة طالعةٌ من أجسادِكُم و مع ذلك تهرُبُونَ من الاستحمام ” . قالت أمي و أضافَتْ ” قرياقوس مسكِينْ ، يقُولُ ما يريد ، لو أنّ أباكَ فقط شمَّ رغبة الانكليز بأخذه ، لذَهَبَ إلى ” انكلاند ” على قَدَمَيه. لقد ضَحِكوا عليهِ بعُلبَةِ سجائر لا تُساوِي شيئًا . . اللهُ أعلم رُبما يأخذها البقالُ شاكر الهندي مُقابل كيلوين ِ من التفاحْ ” .
” أنا لا أُحِبُّ التفاح ، يامْ “
” إنهُ مِثال ، ابني . التفاحُ و البَصَلُ و فِضَّةُ الإنكليز لها نفسُ القِيمَة ” .
” من زمان ، كانَ هُناكَ دبّ آشوري يعِيشُ في حبل ِقريب من إحدى قُرى نينوى . و في شهر تشرين الأول تصعدُ الفلاحات إلى المُرتفعات المحيطة بالجبل لقطفِ الجَوز . كان الدُبّ يُراقبُهُنَّ كُلَّ يوم ، و بمرُورِ الأيام أعجَبَتهُ فلاحة آشورية اسمها نازيه ، سمراء ، طويلة مثل شعرها الأحمَرْ ، عيناها خضراوان و شفتاها وَردِيَّتان . كانت حقًا جميلة ، و قد ظلَّ الدب ليالٍ طويلة مُفكِّرًا بِجمالِ نازيه . كان يشعُرُ بالفَرَحِ كُلّما رآها تقطِفُ الجَوزْ ، تمشِي بينَ الأشجارِ و تُغنِّي . كانَ يخفِي نفسَهُ و يَستَمِع إلى صوتها العّذبْ :

سوفَ أنتَظِرُكَ يا حبيبي ،
لا تُصَدِّق ما بقُولُون ،
أنا لَك .
إنني أنتَظِرُكْ .

ذاتَ يومٍ لاحظَ الدُب أنَّ نازيه لم تعُد تخرُج مع بقيةِ الفلاحاتِ رُغمَ أنَّ كُرات الجوزِ ما زالت تملأ الأشجار . ظلّ ينتظر و ينتظر حتى سَمِعَ ذاتَ مساءٍ أصواتَ طُبُولٍ و مزامِير ، فخَرَجَ من مغارَتِهِ و ألقى نظرةً نحْوَ الوادِي ، فرأى مئات الفوانيس مُشتعلة في أرجاءِ القريَة ، و الناسُ يرقُصُونَ و يَشرَبُونَ الخَمرَ و هُم فَرِحُون . في البِدء اعتَقَدَ الدب المِسكين أنّ القرويين يحتفِلُونَ بـ ” عِيدِ الصليب ” ، لكنه ، و بعدَ تفكِير تذكَّرَ أنهُ شارَكَ هؤلاْ القرويين و هو في الجَبَل ، احتفالاتهم بعِيدِ الصليب الذي يُوافق يوم ۱٤ أيلول من كل عام حتى أنهُ أفرط في الشُرب و لم يذهب إلى الصيد في اليومِ التالِي ، بل ظلَّ يُردد أغنيَةَ نازيه المُفضَّلة :

سوفَ أنتَظِرُكَ يا حبيبي ،
لا تُصَدِّق ما بقُولُون ،
أنا لَك .
إنني أنتَظِرُكْ .

لقَد حَزنَ الدب أيما حُزن عندما علم أن الناس إنما كانت تحتفل بزواجِ نازيه من أويقم ابن طبيبِ القرية . ارتدى الدب أجمل ثيابه و وضعَ ربطة عُنُقٍ حمراء ، مشّطَ شعرَهُ إلى الوراء تامًا كما يفعَلُ قرياقوس و نزلَ إلى القرية . مشى بينَ الناس ، شرب كأسًا واحدةً من النبيذ الأحمر ، ثُمَّ دخَل خلسةً إلى غرفة نازيه التي كانت تُمشط شعرها الأحمر الطويل ، وضعها في سجادة كبيرةٍ و حمَلها إلى الجَبَل .

عاشت نازيه مع الدب أكثر من سنة ، حتى أنجبَت لهُ طفلةً صغيرةً ، نصفُها العُلوِيُّ يُشبِهُ نازيه ، و النصفُ السُفلي يُشبِهُ الدُبّ . كان الدب كلما خرَجَ إلى الصيد يضَعُ صخرةً كبيرةً على بابِ المغارة ، و لكنهُ بعدَ فترةٍ أصبَحَ أكثر حنانًا ، فقَرَّرَ أن يترُكَ بابَ المغارة مفتوحًا.

ذاتَ غروب عاد من الصيد و هو يغني و يُصفر فرحًا حاملاً على كتِفَيهِ غزالتَين / ما إن اقتَرَبَ من مغارَتِهِ حتى سَمِعَ بُكاءَ طِفلَتِهِ فحدسَ أنَّ نازيه قد فرَّت نَحْوَ القَريَة . حمَلَ الطفلة الباكية و راحَ يبكِي هو أيضًا . ظلَّ الدُبّ ينظُرُ صوبَ الوادِي و يصرُخُ بأعلى صوته :

نازيه ططا واق واق ، نازيه ططا واق واق ، نازيه ططا واق واق *۲

” و ماذا فعلَ الدب بعدَ ذلك ، يام ؟ ” سألَ رُوبن .

” ما زالَ يصرُخُ و يبكِي حتى الآن . خلاص نامـُوا ، الساعة تُقارب مُنتصف الليل ، ناموا بِسُرعة ” .

لكن أمي نامت قبلنا ، و بعد خمس دقائق أخذ شخيرها يتعالى ، يتقطع تارة و يأخذ منحى أوبراليًا تارة أخرى . لقد كانت موسيقا الأمان بالنسبة لنا . حينما كنا نستيقظ من كوابيسنا ، و نسمع شخير أمي الأوبرالِي ، كنا نعرف أن الدنيا بخير ، فنعود إلى نومنا .

كنا ننتظر إلى عيني أمنا المصوبتين نحو السقف ، و نصغِي إلى الأنغام الخارجة من فمها المفتوح . و رويدًا رويدًا ، تتعبُ أهدابنا و تنسَدِل ، تقطعُ عنـّا ضوء الفانوس و أنين أمي ، و نضِيع ، كُلٌّ في متاهاتِ أحلامه .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*۱ خجا خجا يمي ، خلابخ هاون : ” قليلاً قليلاً يا أمي ، فدوى لك. ” .
*۲ نازيه ططا واق واق : نازيه الطفل يُوقوق ( أي يبكِي ) .

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى