أنا وأشياءُ أنثَى – هيلدا إسماعيل

مرة أخرى ينتصف الليل ..وأنا لازلت أفكر كيف سأضطر للكتابة عني ..ماذا سأكتب في سيرة مسافتها قليلة .. خائفة من أن يجعلني هذا أصغر في عينيَّ ..لأن ثيابي لا تكلِّفُني الكثير .. بينما يُكلّفني أكثر البحث عن أجنحة على شَاكلتي .. خائفة من أن أُسْأَلُ عن عمْرِي
كَمْ يبلُغ من مدن ..


بينما أبلغُ بضْعًا و عشرين قصيدةً في ديوانٍ لم (ينثرْ) بعد ..وسأحاولُ في ( يوليو) القادم ..أن أستلَّ شمعةً وقلماً من أعياد لأكتبَ على جدرانِ منزلنا ( ستَّة عشر ) خطا ً متقاطعاً..هي يوم ميلادي الذي قد يفكُّ رموزهُ أحدُ المهتمين .
ولدت أنا في هذا (السرطان) ..(برجٌ )أموميٌّ حتى النخاع .. مضمخٌ بألم ..سادرٌ في أنوثة ..وحتى لو اتكأ (السرطان) على حجري.. مرضًا لقمت بـ تدليله …وتدليله .. حتى الموووت .
أمضيتُ عمري في مقعدٍ ..وقاطرةٍ واحدة كانت تقودني إلى الخلف .. خمسُ سَنواتٍ مني ليْسَتْ محْسُوبة..نحن عادةً لا نَقْيْسُ ضَرَبات السَعادة ..ولا ركلاَّت الترجيح ..هزائمي وحدَها تأتي بعد الفرح مباشرة ..بينما كان قلبي خاويًا ..ولكنّه يَشْتَعل بالضجيج ..

حين بدأتُ الكتابة .. بدأتها بـ(ميلاد) ..هذا الاسم الافتراضي الذي اخترتهُ على ساحة (الإنترنت) التي كانت شاهداً على مخاضي على أرض واقعٍ يولد أطفالها بأسماء لم يختاروها.
“ميلاد” ..غرقتْ في نقطة حبر يَسْكنها الصدق ..العفوية ..أجهز عليها الآخرون لأنهم كانوا يدركون أن قمة الغرق تعني أن شخصاً ما يجب أن يبقى حيّا …يتعلق بـ ( أقواس ) النجاة.. يطفو على سطح الأوراق من أجل أن يقول أننا ( ذكورًا وإناثا ) نجيد الكتابة ..ولهذا لم يمشِ في جنازتي أحد حتى الآن..

“ميلاد” .. هي ابنتي التي لم تولد .. لم أحملها تسعة أشهر..والتي أتشهى لقاءها كلما نُوديتُ بها .. والتي استطاعت في ثلاثِ سنوات أن تقول ما لم تقله “هيلدا” في أكثر من عشرين عاماً .. بينما استطاعتِ الأخيرة وحدها أن تحصِدَ النجاحَ ..البكاءَ .. القصيدة .. أعلمُ مدى الازدواجية التي تسبب بها (الاسمان) ..لكنني أحببت (ميلاد ) لأنها جاءت في زمن تولد فيه كل الأشياء إما ورمًا خبيثًا .. أو موتًا ..ولهذا كنت أعْصِبُ عيني جيدًا حتى نهاية الحزن ..وحتى اختصرت بها ..و بالنشر من خلال ( الشبكة ) سنينًا من الإهمال ..وقرونًا من الترقب والانتظار .. ووفرت دموعي ..ولون شَعري قبل أن يصبح (رماديًا) ..وقمت باستغلال سنواتي الأجمل في كتابة ما كنت سأكتبه بعد أعوامٍ عديدة من لحظة دخولي من البوابة التقليدية للنشر في الصفحات الثقافية ..

لا أجد نصًا مما كتبتُ يشبهني حتى الآن ..ربما لأنني (أنثى موااااربة)..تفتح أدراجها..أبوابها ..قلبها دون أن يتمكن أحدهم من التسلل إليها ..أو ربما لأنني أمارس حقي الشرعي في الكائنات.. الحبّ.. الكًره .. وأفعلُ كلّ هذا من وراء حجابٍ شديد الشفافية..عارٍ تماماً كطفلٍ لايسدل عليه ستائره .. لا يُشْعِر من يعيش معه بالغربة ..ولا يُشْعره أيضًا بالالتصاق .. أعتقد بأنني لو كنت شيئًا آخر غير (أنثى) ..لما ابتعدتُ كثيرًا عن “هيلدا” التي اعتادتْ أن توضع في أماكن لا تناسبها ..أكبر منها حجمًا ..أشرسُ ..وأكثرُ حدّة .. ورغم هذا كانت تنجح ..تجتازُ الهاوية ..تحبَلُ بأوجاعٍِ ليستْ لها .. بشرط أن يكون هذا المكان حميمًا ..ودافئًا .. أصبحتْ تشتاقني الكلمات كلَّما مررت بها ..تكتبني القصائد كلما ألقيت عليها الصباح .. وقد يعني هذا أنني متصالحة معي .. مؤمنة بأن ( كلّ مكان لا يؤنَّث ..لا يمكن أن يَعُولَ عليه ) ..

لا أملكُ حقّ (الاختيار) في وطني .. ولهذا نصوصي تختارني ..تَنْمو مَعي.. وتتكَاثر ..ولهذا أيضًا أجد نفسي مرسومة بقلم رصاصٍ مدبّبُ الرأس ..له ممحَاةٌ سحرية يمكنها أن تمحو أجزاءٍ اعتدت عليها بين يوم وليلة ..ويمكنه في نفس اللحظة أن يرسم أجزاء أخرى أضيفها إلى قناعاتي.. لا تخلو كتاباتي من الألم لأنني نسيتُ كيف يفرحُ الآخرون ..أرتاحُ كثيرًا لهذا النوع من الكتابة فهو يذكرني بأنني إنسانة .. أدوخ .. أبكي .. أتقلّب .. أتجّمر .. أحترق .. وأمووووت .. ومن أرادَ أن يقرأني عليه أن يمارسَ معي كلّ هذه الطقوس ..يُمْسك قلبه تارة ..بطنه تارة أخرى ..يغْمِضُ عينيه .. يَمْسَح جبينه ..يهذي .. يتوجّع ..و( يموت) بي.. وإلا فلا حاجة له بما أهتم به ..وسأظلُّ أرشف دمَ القصائدَ حتى آخر قطرة .. فهذا زمنٌ صَلْصَالي ..عليك أن تعيدَ فيه صياغة الأحزان ..الخيانات ..ومساءاتٍ قد تبدو لهم عارًا ..وتصبح لدينا فضيلة .

أحيانًا يصبح هاجسي أن أقفَ كالنسرِ وحيدة ..أتشبَّثُ بالريح ..أُهَاجم .. أَطير.. وأسْترْجِعُ الزمَنْ .. أحيانًا يأخذ الجنونُ لديّ شَكْلاً آخرَ لحضُوري حين تصبح هذه المدينةُ قاسيةٌ كالفقرِ مثلا .. فكيف تسمح بأن تَعْصِر أربعة أطفالٍ في كرسيٍّ (متحركٍ) واحد .. بينما يَعْصرُ جيْبَهُ رجلٌ تتقَطَّر من ثيابهِ النقود ..الخمر ..النساء !.. قد تكون الكتابة هوايتي (الأخيرة) ..لكن العمل مع فئة ذوي الاحتياجات الخاصة هي عشقي (الأوَّل) ..موهبتي ..طفولتي ..عفويتي التي أتلوّن بها .

ليس من منطق كل فتاة بـ(أبيها) ..!! ..لكن تدهشني إنسانيته ..يده الممتلئة خيرًا ..و التي تبدو كبتلات زهورٍ بيضاء تنمو على سطح المقابر .. تدهشني تسابيح (أمي) الصغيرة ..صلواتٌ لا تفارق شفتيها .. ويدهشني (أصدقائي) حين يغيب أحدهم ويظهر فجأة حين أتقطّر برودة ..واحتياج .
تدهشني (جدتي) ..تلك بالمناسبة امرأة بحجم السماء … بتُّ أخاف أن أفقدها .. فأفقد معها كيف تبدو الحياة بدون الطيبين .. وكلما لا أجدها بجواري ..أعلمُ أنها كانت تخلع ثياب الحزنِ ..لحزنٍ آخر … وكأنها قادمةً للتوِّ من مراسم (العزاء) الموازي لأول الحيّ ..فحين تغلق بقَّالة (عمّ سليمان) أبوابها ..لا أحدَ يبقى هناكَ لآخر الدموع سِواها .. لا أحدَ يَنْفُثُ بـ (يس) . .و يختمُ القرآن من صدره قبل أن يبدأ موسم الدفن سواها ..وحين تعود..! أتوسل إليها في كل مرة بأن : “بربك ..لا تسيري خلف آثار النعش ..لا تتبعي صلاة الجنائز التي يقيمونها بالجوار .. بربك ..بربك ..لا تحفظي الطريق إلى المقابر “

يخترقني منذ سنوات طويلة قلبٌ كبير ..يشير إليّ بأصابع بنكهةِ البندق ..يشْرَبُ معي القهوة ..والشعر كثيرًا.. وعندما يلقاني ناعسة .. يمارسُ الصمت ..ويذاكرُ درسَ الغفوة جيدًا.. يُصْغي إلى أنفاسي ..يَرْفلُ غطائي .. يبحثُ عن مكان آمنٍ بين ذراعيّ ..وحين أستيقظُ ..أجدَه يتوسَّدُ قدميَّ .. ياااااالله ..أقسمُ أن ما من رجل غيره يتعلق بأقدام أنثى نائمة كما يفعل هو !!

أعتقد بأن سيرتي ستشبه يومًا “أوجيني” .. تلك الفتاة الأسبانية التي تزوجتْ نابليون ..كانت ذكية ..عصبية جدًا ..سريعة الملل ..علّمت نساءَ القصر أن يتكلّمْن بسرعة ..حتى أصبحت الموضة أن تقول المرأة كلامًا مُبْهًا وعلى الرجل أن يفهمه ..كما استطاعت أن تتخلَّص من كل الأربطة التي تشدّ الصدر ..الخصر ..الأرداف.. لأنها أيقنَتْ بأن فستان المرأة يجب أن يكون كستارة المسرح .. يعلو ..ويهبط كثيرًا ..وبسهولة كلّ يوم .. المـُحزن لها .. و ( المتوَّقعُ لي ) ..أن ” أوجيني” هذه أصيبت بشيء من جنون في آخر أيامها ..حتى اضْطَر رجالُ الدين إلى أن يغلقوا عليها الأبوابَ ..ولكنها كانت تصرخ : ( لا أريد أن أموتَ هكذا .. ضَعُوني على ظهر حصانٍ يحترق ) .

قد أكونُ موْلعة جدًا بالأشياء الصغيرة ..كأقدام الأطفال ..التحف ..الكرستالات ..القطط ..الأرانب .. ولكني أفقد ولعي شيئًا فشيئا كلما تضخمت هذه الأشياء أمامي ..كلما انتقلت إلى غيري ..أو أصبحت على مرأى من الجميع . لا أجيدُ تقليب صفحات الجرائد خوفاً من أن أكون عرضةً للضحكِ حين أقوم بالبحث عن “دبَّاسة” لتثبت الصفحات من جانبها الأيمن.. ولا أعرف لماذا لم يستجيبوا لطلب طفولتي إلى الآن في أن تكون الصحف أقصر (طولاً.). و أوهن (عرضاً ) ..وأكثر تصفيفاً على أناملٍ لا تحمل نكهة الحبر الملون على الكتب ..ولا مذاق المجلات .

أفُكّر جدّيًا بأن أكتبَ كتابًا عن (فن المواااء).. لأنني أجيده تمامًا كما أجيدُ لعبة الحديث بالكلمات.. وما أكثر من يظنُّ أنه يمووووووءَ بينما لا يُتقنُ في داخله غير ( العواء )..ومن يُعاشِر الذئاب يتعلم كيف يَعْوي .. أمَّا ( المواء ) فلا مُعلّم له حتى القططَ أنفسها .. ممممم م م م ..في أغلب الظنِّ ليس كلّ من يعوي قادر على أن يموووء كأنثى وحيدة

حين أعشقُ شيئًا ..أشعرُ بألمٍ سَاديّ في صدْري .. أتلذّذ به.. وكأن قلبي (يَعُضّـني) ..يُنَبّهني بأن أضع ما أراه في قائمة من أحبّ ..أصَفِفَه كمَا يتمنَّى ..أتْلو عليه سيرة الإخلاص ..وحين أكره شيئًا ..أفقدُ الإحساس به ..وكأنني ولدْتُ ..منذُ ولدْت.. بلا قلْب هل رأيتمْ كيفَ أجمع الشيء ..ومتناقضاته في جسدٍ واحد !!!!

قد لا أكون مختلفة .. لكن الفرق بيني و بين سواي أنني لا أنسبُ لحرفي سبباً أو حباً ..فأنا أجيدُ تَقْبِيْل (نفسي ) ..كما أحبُّ أن أُحيط ذاتي بذراعي ..و (أحتويني ) . وقد لا أكون جميلة أيضًا .. لكن كلّ مافيّ ( مُبْتسِم)..دافيء … والأهم أنه يُتقنُ الحضُور ..

أكثر من مرة فكَّرتُ بأن أجري عملية تجميلية أطَبِّق فيها شفاهي التي لا تكف عن توزيع الابتسامات بالتسَاوي على أرجاء الآخرين .. فأنا متهمة بـ(أسناني) التي تُكشّر عن بياضها حتى نحو الأشخاص الذي لا يعتبرون ما أفعله جزءًا من (صَدَقة) …وإنما قد تعني لديهم تعبيرًا مهذبًا.. عن رغبة غير مهذبة .

أعترف هنا بقسوة ..بأنني أنظر إلى نفسي كثيراً في (المرآة) .. لا يعيبني أنني أفعل ما تفعله الإناث دائمًا.. فالمرآة حنونة كما الأمهات لا يُهمها إن كنتُ قبيحة ..أو جميلةً ..فهي لن تتوارى عن تقبيلي ..وإن كنتُ ملطَّخة بالجراح .. وحدها كما الكتابة قادرة على استقبالي في كل الأوقات ..و أصعبها ..
وحدها ستحفظ سرِّي .. تضاريسَ وجْهي ..لنْ تُفشِي لقائي بمن أحبُّ بعد دقائق من نظرتي الأخيرة عليها وأنا أضع آخر قطراتِ العطرِ قبلَ أنْ أتْرُكها إليه ..
وحدها كما الكتابة أستطيع أن أقف أمامها برداءٍ لا يُعَلِّقني من الأكتاف دون أن يَنْزَلقَ على خصري ..
وحدها كما الكتابة تعرِّيني ..ولا تخجل مني ..
نعم أُحبُّـني ..وأُحبّ مرْآتي ..!! ..وبما أنها سيرتي الذاتية ..فلم يكنْ من المتفقِ عليه أن ألتقي (بي) دون أن ألقي عليَّ السلام :
( .. موااااء الخير يا ” أنا “.. صباح الميلاد يا ” أنتم ” ..)

_______________
*هيلدا إسماعيل – شاعرة سعودية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى