أنسى الحاج – أنا وأنت ناقصان

أشخاص:
بلدان:

■ أنا وأنت ناقصان

انظرْ إلى صور القتلى، مَن يَقْدر أن يَقتل هكذا؟

الجميع،

إلّا أنا وأنت… لأنّنا ناقصان.

يجب أن ننتظر بشراً آخرين يتوقّفون عن فعل هذا،

بشراً ناقصين مثلي ومثلك،

ناقصي الصلابة، ناقصي العضلات، ناقصي البطولة، رخوين جبناء مثلي ومثلك.

■ ■ ■

قبل أن نكره الحرب يجب أن نكره الرجولة، هذه الكتلة الصمّاء. عنتر والزير وأبو زيد الهلالي. السيف والرمح. شوارب الكرامة الكاذبة وحواجب الإرعاب الهزلي. يوم يغدو الشارع امرأةً ينتهي سفك الدم. ما دام الشارع صِبْيَةً ورجالاً وسواطير فلا أمل. عندما يغدو الشارع معرضاً للغوى يصبح القبضايات فيه من آثار المتاحف. الركض يجب أن يكون وقفاً على المراهقات الطائرات بشعرهنّ وتنانيرهنّ. السير يجب أن يصبح فسحةً لتنزّه المتضجّرات في خدورهنّ الأميرات الفقيرات والثَّريّات لا يفرّق بينهنّ غير نسبة الفتنة. يجب أن لا يكون في العالم فتنتان، فتنة الدم وفتنة السحر. الثانية هي الأولى والثانية والثالثة والرابعة بإجماع القلوب والغرائز

والعصافير.

■ ■ ■

انظرْ إلى صور القتلى، مَن يقدر أن يَقتل هكذا؟ أيُّ جنسٍ هو هذا الجنس؟ ورثةُ أيّ حضارة، أولادُ أيّ دين؟

هل ينبغي أن يبقى إنساننا العربي طفلاً ابن بضع سنوات حتّى نستطيع أن نشفق عليه؟ لماذا كلّما كبر العربي لم يعد يُحسب على البشر؟ عندما تريد الشاشات استدرار العطف ترينا مشاهد أطفال قتلى أو جياع.

أيُّ فضلٍ لنا إنْ أشفقنا على الأطفال؟

■ ■ ■

ليت الناس جميعاً منتزَعو العصبيّة السياسيّة. أنا حيوان عاطفي لا سياسي، ولو كان هناك مجال لاخترتُ العيش في «غيتو» من أهل الحنان والرقّة. كلّ عالم سياسي هو خندق وكلّ خندق معمل موت. وأنا أخاف كثيراً.

وأنا وانتَ يا شبيهي ناقصان. حتّى لو كنّا أكثريّة عدديّة فنحن لا نساوي نفخة أمام الرجال الرجال.

كان الأمل بالطوفان. لكنّ نوح، بعد الشطف، أعاد جنساً بشريّاً أرذل.

العزاء في المجهول. يبقى الأمل معقوداً على الغيب، نستيقظ فجأةً في أرضٍ أخرى، إلى جانب ناسٍ ليس في عيونهم غير العطف.

■ جَلْد الذات

لماذا يُعرّي المخطئ قلبه؟ استمتاعاً بالذلّ؟ صَدْماً للمرآة؟ تمثيليّة؟

ربّما كلّ هذا، ومعه الحاجة إلى انتزاع احترام قد لا يلقاه عند الآخرين لا قبل التعرّي ولا بعده، لكنّه قد يلقاه في ذاته هو إذا سَلَخها.

■ الفجر الأوّل

أوّلُ فجرٍ يستيقظ في الفتى هو أروع من كل أفجار الأيّام. وأوّل فجرٍ يستيقظ في الفتاة هو الأروع. إنّ ما يضفيه على النظر لا قبلُ ولا بعد. هو لحظة، وهذه اللحظة هي الشبكة التي تصطاد ما يتحرّك أمامها.

أوّل فجرٍ ليس الفجر الأخير. الروح تصنع تجلّياتها في مختبر المجهول، وأيّامها غير الأيّام.

■ الحياة أصدق

نتغندر ونُنَظّر. الحياة أصدق من هذا التمثيل، أبسط. طبعاً هناك ما نريده من بَعد، وراء ما نحصل عليه، هذا الحنين الغامض. ولكنْ أن نجعل منه فلسفة؟ أن نبني عليه؟ إنّه صناعة الحياة نفسها لتستبقيك غير منتبه.

كلّ متفلّت وهارب، نسمّيه حبّاً. هل النجوم حبّ؟ والجسد وراء النافذة؟ والثأر العاجز؟ والثروات المُتخَيَّلة؟ هل الموت حبّ؟

… هي هكذا ربّما. والحبّ الذي نتداوله؟ مثل كلّ ما نتداول.

■ تفسير

تبدو الموسيقى نفحة من الطبيعة، وهي في الواقع صناعة. الموسيقى ثمرة إلهام + رياضيّات + مجموعة من التقنيّات العمليّة والشديدة الواقعيّة.

نتناول الموسيقى كما يتناول المسيحي القربان المقدَّس: معطىً بديهيّاً، رعشةً مُنزلة. لكنّ نظرةً إلى ورقة النوتة تَهْدم هذه السذاجة، مع الأسف.

الشعر، الشعر الموزون المقفّى خصوصاً، هو كذلك صناعة. ثمرتها ليست بأثيريّة الموسيقى، وإتقانها لا يستوجب الجهود والكفاءات التي يستوجبها إتقان التأليف والتلحين، لكنّ الشعر، إضافة إلى الإلهام والخَزْن الداخلي، هو صناعة بوجهيه اللغوي والإيقاعي.

جهةُ الصناعةِ هذه هي ما حوَّلَ البعض عن النَّظْم إلى النثر. لا لصعوبة النظم، فهو ليس على هذا القَدْر من الصعوبة، بل في محاولة لتضييق الشقّة بين الهيولى وتطوّرها، بين الشرارة والعبارة.

هل حصل ذلك على حساب شيء؟ طبعاً. كلّ ما يردم هوّة يفتح هوّة. وما يُحرّر من صناعة يؤسّس لصناعةٍ جديدة.

وهكذا في الشعر الحديث، ومع قصيدة النثر خاصّة، تجاوزنا مسافة لا لننفذ إلى صحراء وإنّما لنصوغ لغةً أقرب.

لا عَدَم في الطبيعة بل عوالم تتوالد إلى جانب عوالم. لا سيادة للزَّيَف ولا للعدم في الفنّ بل أيدٍ تَخْلق جمالاً للوقت وتجدّد الرغبة في الحياة.

سيبقى لكلٍّ صناعته. والغايةُ واحدة: الكلمةُ الذي كان في البدء يعود فيولد اللحظة، ليعود اللحظة ويصبح هو البدء…

وجميعها بدايات.

عابــــــــرات

يَطمئنُّ الأطفال لأصوات أهلهم ولو لم يفهموا ما يقولون. ظهور المعنى يُعرّض الروح، النغم الحلو يغطّيها.

■ ■ ■

ضحكةُ الرجلِ رَفْض وضحكةُ المرأةِ قبول. في الأولى عِواءُ ذئابِ الأنا وفي الثانية أزرارٌ تتفكّك.

■ ■ ■

هل يستطيع أن يُحبّ كثيراً مَن يفكّر قليلاً؟

الكلبُ يتعلّق بصاحبه، تُجيب.

مَن يجزم بأنّ الكلب لا يفكّر؟

■ ■ ■

خسرتَ سعادةً لا تُعوَّض؟ ربّما لأنّكَ قَبْلها لم تؤدِّ نصيبكَ من العذاب.

■ ■ ■

عندما تشعر الحسناء أنّها مستقرّة عند شاطئ أمان، تكون عشيّة الدخول في ما سيقلب حياتها.

شؤون القلب تتبع قواعد غريبة، وهذا المجهول هو الرعاية التي تحمينا من الاستسلام للظلام.

■ ■ ■

أُصلّي لما لا أعرفه فيك أكثر ممّا أُصلّي لما أعرفه.

الصورة ل Hans Bellmer

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى