لماذا كوستاريكا؟ السؤال الذي تبادر إلى ذهني عندما التقيت بأرملة الشاعر العراقي الراحل أنور الغساني في مدينة هاكو الساحلية في كوستاريكا، السيدة آنا مرسيدس رودريغس أسيفيدو، وقد انتظرت ثلاث سنوات حتى طرحته عليها. حدثتني عن لقائها بالشاعر الراحل أنور الغساني، وكيف كانت الرحلة التي نظمتها جامعة لايبزخ إلى موسكو، هي القدر الذي جمع بين طالب الدكتوراه العراقي وطالبة علم النفس الكوستاريكية، اللذيْن كانا يشقَّان طريقهما في حقل الدراسة في ألمانيا. لقد شدّ انتباهها ذلك الصحفي، المترجم، الشاعر، المثقف، الماركسي، الذي كان مُلمّاً بالشعر والتاريخ والجغرافيا والموسيقى والتصوير والأدب والسياسة وكان يتقن خمس لغات إلى جانب الإسبانية التي أتقنها لاحقا. وخلال مرضه الأخير، كان قد بدأ تعلُّم الإيطالية والعبرية.
ولد الغساني في 12 شباط 1937، في قلعة صالح لواء (محافظة) العمارة في جنوب العراق حيث أمضى السنوات الأولى من طفولته. نشأ وتعلم في كركوك شمال العراق. عمل في حفر آبار النفط في حقل جمبور في كركوك، ومارس التعليم في قرية محمولة وفي مدينة كركوك. عمل في عدة جامعات في مختلف البلاد، لكنه استقر في كوستاريكا وحصل على جنسيتها عام 2001. وهو أحد أهم مؤسسي جماعة كركوك الأدبية.
عام 1978، تزوج الغساني من السيدة آنا وانتقلا بعد ذلك بعامين إلى كوستاريكا. حيث عمل مدرّسا في جامعة إيريديا الوطنية، لكن برلين كانت في انتظار الشاعر مرة أخرى، فانتقل إليها مع زوجته ليعمل مترجما لمدة سنتين، قبل أن يكون ضمن المرشّحين للعمل في جامعة الجزائر عام 1983 في إطار تعريب التعليم الجامعي، إلا أن الزوجين يُقرّران في نهاية الأمر الاستقرار في كوستاريكا وخصوصا بعد ولادة ابنتهم البكر، منيرة كريستيانا.
لقد كانت العودة إلى العراق أمراً مستحيلا وأيا منهما لم يكن يتمتع بالجنسية الألمانية، الأمر الذي دفعهما لاختيار كوستاريكا على اعتبار أن ظروف الحياة فيها ستناسب الوضع العائلي الجديد، بعد فترة قصيرة ولد الابن الثاني مانويل سلام الذي ورث عن والده هواية التصوير الفوتوغرافي.
تمنّى زيارة العراق
عن عمل الغساني في كوستاريكا قالت السيدة آنا إنه كرس نفسه لعمله ولطلابه في الجامعة التي حاضر فيها في تخصص “التكنولوجيا في الاتصالات”، المجال الذي كان رائدا فيه ما جعل من حوله يستهجن قوله في الثمانينات إن الصحف ستُقرأ لاحقاً عبر الانترنت. أما بقية وقته فقد كان يقضيه في كتابة الشعر والمقالات السياسية.
وبرغم ما عرف عنه من خجل قلّل من علاقاته نوعاً ما مع غيره من الشعراء في كوستاريكا، إلا أنه عَرفَ فنانين وأدباء وسياسيين من العراق، والشرق الأوسط والهند واليابان وبريطانيا وأمريكا وأستراليا والباكستان.
وعن علاقته بأبنائه، تقول السيدة آنا إنهما السبب الرّئيس في اختيارهما العيش في كوستاريكا كما ذكرت سابقاَ، فقد ولدت فتاتهما البكر منيرة كريستيانا في برلين عام 1982، أما مانويل سلام فقد ولد في سان خوسيه عام 1984. وكان أنور الغساني لهما أباً وصديقاً ومعلّماً غير اعتيادي لتلك العائلة التي هي مزيج بين ثقافتين عربية ولاتينية.
لقد كانت أمنيته أن يتمكن مع عائلته من زيارة العراق، وقد كان هو مرجعهم الأول عنها وعن البلاد العربية.
فيما كان قد جلب لولديْه مجموعة كتب لتعليم اللغة العربية من دار نشر فلسطينية وكان يُصر على الحديث معهم بالعربية. كما كان يطبخ بنفسه الأكلات العربية التي ما زالت تُعدها لأبنائها من بامية ودولمة وتشريب وغيرها.
منزل همنغواي
لقد قضّى أنور الغساني معظم حياته مدرّسا في جامعة كوستاريكا منذ العام 1983 حتى العام 2009، فأحبّ هذه المهنة، وكان يباشرها بإحساس الشاعر والإنسان المرهف الذي أثر على من حوله من طلاب وأكاديميين، حتى أن كثيرا من تلامذته لا زالوا يتبعون منهجه في البحث العلمي.
لم يكن غياب ذلك العراقي بالأمر السهل على كثير ممن عاشروه وأحبوه، ولا يكاد يُذكر اسم الغساني أمام أي دارس في الجامعة حتى يحدّثك بنبرة حزن عنه.
لقد أقيم له أكثر من تأبين في معهد الاتصالات، كما صُوِّر فيديو عن حياته، الحياة التي لم يكن ليهتم الغساني بأضوائها وشهرتها، ولذلك وإلى جانب شخصه الخجول، ووجهه المتجهم وانطوائه على ذاته، فإن علاقته بكثير من الشعراء الكوستاريكيين لم تكن بتلك القوة إلا ما ندر.
ولم يكن مهتمّاً بنشر قصائده. ولم يشارك إلا في قليل من الفعاليات منها مهرجان كوستاريكا عام 2005. أما كوبا التي ذهب إليها بصحبة زوجته فقد كان منزل همنغواي هو أول مكان فكّر في زيارته.
كما مثَّل الشعر العربي في كولومبيا وفنزويلا وكان يفضّل اصطحاب أحد أفراد عائلته في تلك الفعاليات.
بعين الشعر
عدا عن الشعر فقد كان الغساني يهوى الرسم والموسيقى والتصوير، وكان متابعاً جيدا لجميع الحركات الفنية في العالم، لآدابها، وفنونها وموسيقاها وظواهرها. فقد قرأ الشعر المكسيكي والتشيلي. وأحب الموسيقيين الفنزويليين والكاريبيين، والفلوكلور الأنديني. أما هوايته المفضّلة فكانت التصوير الفوتوغرافي، حتى أن منزلهما تحول إلى استوديو صغير به أرشيف كبير من الصور التي التقطها الغساني بعين الشاعر تصل إلى حوالي الألف وسبعمئة صورة في أماكن عدة. وعن نشاطاته الثقافية تقول إن حياته كلها كانت نشاطا ثقافيا، فقد كان يقرأ كثيرا في أدب الشعوب القديم والحديث، وكان ينام في ساعة متأخرة من الليل وهو يقرأ؛ ينام قليلا جدا، كي يتسع له الوقت للقراءة.
تلك النفسية الحساسة والمرهفة جعلت منه شخصا مولعا بتربية الحيوانات الأليفة التي أصبحت جزءا من العائلة يرعاها مع أبنائه.
كان دور المرأة اللاتينية في مجتمعها من أهم ما لفت انتباه الشاعر أنور الغساني الذي وصف تلك المجتمعات بالأمومية. فالمرأة تأخذ دورا مزدوجا داخل البيت وخارجه. وهي في النهاية حصيلة تمازج دماء أوروبية وإسبانية وعربية.
لقد أحب بساطة اللاتينيين وقدرتهم على تعميق علاقاتهم الإنسانية بشكل عفوي وانتبه للتناقض القائم بين الصورة المتقدمة لتلك البلاد وفي نفس الوقت التخلف والفقر الذي تخفيه خلفها.
يحن إلى لغته
عن حياته في العراق تقول إنها قضت ألف ليلة وليلة تستمع لحكايا أنور الغساني عن طفولته هناك، عن مدرسته وعائلته، عن أولى وظائفه، وعن الأحوال السياسية التي أدت لاعتقاله مرتين، وعن اتخاذه قرار الدراسة في ألمانيا. تقول إنه عاش في كوستاريكا، لكن قلبه وعقله كانا في العراق.
ولعل قصائده عن العراق المنشورة في لندن خير مثال على ذلك.
تتابع السيدة آنا أنه لم يتقبل أبدا حقيقة عيشه خارج العراق لأكثر من أربعين عاماً، ولم يعود نفسه عليها. لقد عانى حتى آخر يوم في حياته من عدم تمكنه من الرجوع إلى عراقه. كان يفتقد عائلته، وأصدقائه، يهفو لسماع أحد ما يتحدث بلغته.
يحن للموسيقى العربية، للطعام العربي، للتقاليد، لكتبه بالعربية، لحياته في كركوك وبغداد، لدجلة والليالي البغداية، للنساء الجميلات، لكل ما يجعله إنسانا عراقيا. ولم يكن ليسمح ليوم أن يمر دون أن يطالع أخبار العراق من كل المصادر، وهو الحالم بولايات عربية قومية، علمانية، مستقلة، ديمقراطية، تكون ثرواتها موجهة لشعوبها.
نهاية مفاجئة
كانت شواطئ كوستاريكا مكانه المفضل الذي يقضي فيه إجازاته، ويشاء القدر أن يسوقه إليه كي يودعه قبل إجراء العملية بأيام. وتذكر السيدة آنا كيف أن مشهد أطفال أمريكيين يلعبون على الشاطئ ويلاعبون حيوان الإغوانا الزاحف دون موافقة أهلهم، استرعى انتباهه ليقول لها ما اعتبرته خلاصة فلسفته وتجربته : “إننا كبشر متشابهون في الاحتياجات، مختلفون في البيئات”.
كان أنور الغساني في قمة عطائه الأكاديمي والشعري والسياسي، عندما علم من الأطباء بالغزو الذي شنّه السرطان على رئتيه. وكان يخطط للتقاعد والذهاب للعيش في جبال سان خوسيه، فيما بدأ فعليّاُ بكتابة سيرته الذاتية، التي تعمل زوجته آنا على إكمالها حاليّاً لتصدر في كتاب. انتهت رحلته من أقصى الأرض إلى أقصاها بعد خمسة أشهر من الجراحة مع أنه كان متفائلا بالنجاة.
ما زالت السيدة آنا تعيش على نهج زوجها. تشارك في النشاطات التي تتعلق بالأدب والشعر ما استطاعت وقد أسست بالتعاون مع ابنها مانويل سلام، أكاديمية لتعليم الإسبانية لغير الناطقين بها. كما أنها تنازلت عن حقوق ورثة المؤلف فهي تعتبر نصوص الشاعر ملكا للقارئ لا حكرا على عائلته.