التَّصوُّرُ النِّيتشويُّ للجسد في الفلسفة
إنَّ الجسدَ هو أحدُ الخيوطِ المشتركةِ والموضوعاتِ المتكرِّرةِ في أعمال نيتشه. وقد طرحَ نيتشه هذه المسألة في مقدِّمة كتابه العِلم المرِح، “… كثيراً ما سألتُ نفسي إذا ما كانت الفلسفةُ، في المُجمَلِ وحتَّى اليوم، تأويلاً للجسد وفي الوقتِ نفسه سوءَ فهمٍ للجسد”. وهو بذلك إنَّما يُعرِضُ عن المثاليَّةِ ويؤيِّدُ سيادةَ الجسد كمصدَرٍ لكلِّ تأويل.
إنَّه يخالفُ ديكارت، إذْ يختارُ كنقطةِ انطلاقٍ لتأويلاتِهِ الفكرةَ التي هي الجسد، لا الفكرةَ التي هي الرُّوح؛ يختارُ من الإنسان الجزءَ الذي نعرفه جيِّداً. أنا أعرفُ جسدي أفضلَ ممَّا أعرفُ روحي. وإلى جانب ذلك، فإنَّه لا يفصلُ الرُّوحَ عن الجسد، بل يرى أنَّهما وحدةٌ واحدة، جزآن متواشجان لا ينفصلان. ومع ذلك، هذا التَّعارضُ مع ديكارت ليس مطلقاً؛ فكما ديكارت، كذلك نيتشه يرى أنَّه لا يمكننا أن نمتلك معرفةً إلَّا عن عالم مشاعرنا وتمثُّلاتنا. عندَ نيتشه، الجسدُ هو قبلَ كلِّ شيءٍ “جسدٌ متمرِّسٌ بالحياة” بدلاً من كونه “جسداً خاضعاً للمعرفة العلميَّة”. وكما يرى كانط، يرى نيتشه أيضاً أنَّ كلَّ معرفةٍ إنَّما تصدرُ عن الإحساس وتقومُ عليه. ولكن، على عكس كانط، يعتقد نيتشه، مثلما شوبنهاور، أنَّ أشكالَ فهمنا للحياة تصدرُ، أوَّلاً وقبلَ كلِّ شيءٍ، عن منظومتنا الفسيولوجيَّة (وعن وظائفها: التَّغذية، والتَّناسل)، في حين أنَّ الوظائف التي ننظرُ إليها عادةً على أنَّها سامية (وظيفة الفِكر) ليست سوى أشكالٍ مُشتقَّة.
إنَّنا تلقاءَ شكلٍ من الحسِّيَّة، ولكن ما الذي يقصده نيتشه بالحسِّيَّة؟ إنَّه لا يريدُ الانزلاقَ في ذلك التَّضادِّ التقليديِّ: حقيقة/ مظهر. بل إنَّه في الواقع يتخطَّاه ويتفوَّق عليه؛ فوفقاً له، المظهرُ هو الحقيقة. “أنا لا أضعُ “المظهرَ” على تضادٍّ مع “الحقيقة”، بل على العكس، أعتقدُ أنَّ المظهرَ هو الحقيقة”. [شذراتٌ منشورةٌ بعد وفاته (1884-1885)]. لا يوجد كائنٌ يختبئ وراءَ مظهره، كما يحدث في التَّمييز الكانطيِّ نومينُن/ فينومينُن(1). الكينونةُ ظهورٌ، أو بالأحرى هي الظُّهور.
حتَّى إنَّه ليس ثمَّة تفضيلٌ معيَّنٌ لأيٍّ من الحواسِّ الخمس على الأخرى، فجميعها موضوعةٌ على نفس المستوى. لقد كتبَ، على سبيلِ الذِّكر، في هذا هو الإنسان (“لِمَ أنا قدَرٌ”): “عبقريَّتي هي في أنفي”. إنَّه المعنى الإغريقيُّ لكلمةِ “Noein” كما جاء في المقطع الثَّامن من مستهلِّ قصيدة بارمنيدس عن الوجود،(2) المعنى الذي أحسن هانز جورج غادامير تفسيره، فبعد توقُّفِ هذا مليَّاً عندَ المعنى الأكثر ملاءمةً للمصطلَح الذي كان قد ترجمَه ابتداءً وفي أكثر الأحيان إلى “تفكيرٍ” أو “فِكْرٍ” عاد وترجمَه بطريقةٍ أصيلةٍ إلى تعبيرٍ مؤدَّاه “هنا يوجدُ شيءٌ”، والذي يعني قدرة الكائن على التَّجلِّي في لحظةٍ آنيَّةٍ فريدة، كما عندما يتحسَّسُ أحدُهم رائحةَ شيءٍ بفتحتَي الأنف؛ وبالتَّالي، عندما يقول نيتشه إنَّ عبقريَّته هي في أنفه، فكأنَّه يقول إنَّه موجودٌ هنا، في هذه اللحظة، وبطريقةٍ فوريَّةٍ وطبيعيَّةٍ، موجودٌ كإحساسٍ وكإدراكٍ حسِّيٍّ. ومع ذلك، فلدى نيتشه تفضيلٌ شخصيٌّ، تفضيلُهُ لحاسَّةِ السَّمع، فهي الحاسَّةُ التي تسمحُ بولوجِ الموسيقى، ونيتشه يعبدُ الموسيقى. وفي الواقع، الجسدُ كلُّه ينخرطُ على نحوٍ متناغمٍ، فما من حاسَّةٍ تسودُ على أخرى خلافاً لما نقلَه لنا تاريخُ الفلسفة عندما رفعَ، على وجه الخصوص، الرُّؤيةَ امتيازاً على سواها (لاحظْ ذلك عندَ أفلاطون، الفكرة = الرُّؤية، من الجذر اليونانيِّ القديم “id”).
من كلِّ هذا باتَ من الواضح الآن لماذا يقدِّرُ نيتشه فلاسفة ما قبل سقراط: الأمرُ يتعلَّق بثقافةٍ يونانيَّةٍ معاديةٍ جوهريَّاً للمثاليَّةِ وتعترف بأولويَّةِ الجسد. كان قد كتبَ، بنبرةٍ قاسيةٍ للغايةِ، في غسقِ الأوثان (“تسكُّعاتِ رجُلٍ غير موافقٍ للعصر”، 47): “إنَّه لَمن الأهمِّيَّةِ بمكانٍ بالنِّسبة إلى مصير شعبٍ، وإلى مصير الإنسانيَّة أن تبدأ التَّربيةُ الثَّقافيَّةُ من الموقع الصَّحيح؛ – لا من “الرُّوح” (كما كان يفعلُ المعتقَدُ الخرافيُّ للقساوسةِ وأشباه القساوسة): الموقعُ الصَّحيحُ هو الجسد، المظهرُ الجسديُّ، ورعايتُه، وحالته الفسيولوجيَّة، والبقيَّةُ تأتي من تلقاء نفسها… هذا هو السَّببُ الذي لأجله سيظلُّ الإغريق الحدثَ الثَّقافيَّ الأوَّلَ في تاريخ الثَّقافةِ الإنسانيَّة؛ فهم كانوا يعرفون، وكانوا يفعلون ما هو ضروريٌّ؛ أمَّا المسيحيَّةُ التي احتقرَتِ الجسدَ فقد كانت أعظمَ نكبةٍ حلَّتْ بالجنس البشريِّ إلى حدِّ الآن”.
اقتباسٌ لا يحتاجُ إلى تعليقات.
الجسدُ في الأفلاطونيَّةِ وفي المسيحيَّة
هناك الكثير من الآراء لنيتشه في المسيحيَّة. وكما يتبيَّنُ لنا من العبارة الأخيرة من الاقتباس السَّابق، فإنَّ نيتشه وفي كلِّ أعماله يرفض بشدَّةٍ المسيحيَّة التي تقترن في الذِّهن فوراً بالأفلاطونيَّة. “المسيحيَّةُ هي أفلاطونيَّةُ الفقراء”: تعملُ المسيحيَّةُ على تجنيدِ بُسَطاءِ الرُّوح، أولئك الذين حصلوا على القليل من التَّعليم أو لم يحصلوا على شيءٍ منه. إنَّها الفكرةُ المسيطرةُ والقائمةُ على الأغلبيَّة التي تحيقُ بالعالَم وتمنعه من التَّطوُّر، من المضيِّ قدُماً، من الارتقاء. يرفضُ نيتشه ويُنكرُ ثنائيَّةَ التَّضادِّ التَّقليديَّةَ روحٌ/ جسد، ذلك أنَّهما الشَّيءُ نفسُه، دونما أيِّ تمييز. وهو ينتهرُ هذا التَّشويهَ لسُمعةِ الجسد الذي وجدَه في الأديان، والذي يعرفه حقَّ المعرفة.
إنَّه يحتقرُ “مُحتقرِي الجسد”، كما نقرأ في هكذا تكلَّمَ زرادشت. وفي الواقع، زرادشتُ هذا هو الشَّارحُ للانحطاط، لازدراءِ الجسد. بالنِّسبة إلى نيتشه فإنَّ النَّظريَّات الرُّوحانيَّة للماورائيَّاتِ الكلاسِّيكيَّةِ والتَّاريخيَّة لا تفعلُ سوى أنَّها تشوِّهُ وتتجاهلُ ما هو الإنسان. فمفهومُها عن “الوجود” لا ينسجمُ مع ما هو إنسانيٌّ حقَّاً. وهو يريدُ قطعَ كلِّ صلةٍ بهذا التَّشويه. في نقيض المسيح (شذرة 51) قالَ عن المسيحيَّةِ ما يلي: “إنَّ لدينا الحقَّ في أن نحتقرَ ديانةً تعلِّمُنا ازدراءَ الجسد […]، ديانةً أقنعَتْ نفسَها بأنَّه بإمكان المرء أن يحمل “روحاً كاملةً” داخلَ جسدٍ أشبه بالجثَّة”. إنَّ المهتدين، والمؤمنين، والمتديِّنين، كلَّهم مرضى. بالنِّسبة إلى نيتشه، القداسةُ “ليست في حدِّ ذاتها سوى دلالةٍ على جسدٍ عاجزٍ، ومرهَق الأعصاب، وعلى درجةٍ من التَّلَف تستعصي على الشِّفاء”. وهو يصف المسيحيَّة بأنَّها ديانةٌ قائمةٌ على “ضغينةِ المرضى، والغريزةِ الموجَّهَةِ ضدَّ المعافين، ضدَّ العافية”.
فهؤلاء “مفتونون بالعالَم الآخر”: إنَّهم مرضى ومُحتضَرون بتأسيسهم لازدراء الجسد، بابتكارهم عوالمَ ما وراءَ دنيويَّة، وأشباحَ، وأشياءَ سماويَّةً، مثلَ سقراط في غسق الأوثان. ينتقدُ نيتشه بكلماتِ زرادشت انتقاداً شرِساً هذا الفهمَ الخاطئَ وهذا النُّكران للجسد؛ ويسمِّي أولئك الأشخاص الذين يفكِّرون وينشرون مثل تلك الأفكار عن الجسد بـ “المفتونين بالعالَم الآخر”. فالدِّيانات، والمعتقداتُ بوجود الله إنَّما هي فلسفاتُ موتٍ. في حين يقترحُ نيتشه فلسفةَ حياةٍ، يقترحُ الحُبَّ وبهجةَ العيش. حياةٍ تبدأ من الموت، ضدَّ حياةٍ تبدأ من نفسِها. إنَّهم موتى أحياءٌ، يحيَون لأجل الموت، ولذلك يريدون “الخروجَ” من جسدِهم، والتَّحرُّرَ منه، بطرُقٍ ملتوية. يحسبُ هؤلاء المرضى أنَّهم إنَّما يتحرَّرون من أجسادهم، ولكنَّهم مرتبطون بها ارتباطاً وثيقاً، وهم شاؤوا أم أبوا يستخدمون الجسدَ والأرضَ لإنتاجاتهم الوُهاميَّة. إنَّهم غارقون في المادَّة ومثقَلون بها ويشكِّلون خطراً حقيقيَّاً على البشر بإعطائهم الوهمَ بأنَّ “الحياة موجودةٌ في مكانٍ آخر”، بعيدةٌ، ومنفصلةٌ عن الجسد، وخاليةٌ منه.
في “عن الفضيلةِ الواهبةِ”(3) (فقرة 2) يدعو نيتشه البشرَ إلى إعادةِ فضائلهم إلى الأرض، كي تمنحَ الأرضَ معناها، ويطرحُ شراكةً بين الجسد والحياة: لا توجدُ حياةٌ بدون فضيلة، بدون الرُّوح، والعكس بالعكس. الرُّوحُ التي يضعُها البشرُ خارجَ الأرضِ وخارجَ الجسد هي “لا- معنى”، وهنا مكمَنُ ما أطلق عليه نيتشه “الفرصة العظيمة”. هذا يُفضي بنا إلى الاستعارة المجازيَّة للمرض والطَّبيب كموضوعٍ رئيسٍ في الدِّفاع عن الجسد. الرُّوحُ من دون جسدٍ هي روحٌ تحولُ دون الحياة: الرُّوح تحتاجُ إلى جسدٍ لكي ترتبط بأرواحٍ أخرى؛ والجسدُ من دون روحٍ هو جسدٌ بلا معنى، جثَّةٌ. إنَّه ليس “Leib”، وإنَّما “Körper”(4) فحسب. جسدٌ من دون روحٍ، عند نيتشه، هو جسدٌ من دون حياة، جسمٌ خاملٌ. إنَّ مُنكِري الجسد يغتالون الحياة. في هذا هو الإنسان (“لِمَ أنا قدَرٌ”)، سيأتي نيتشه أيضاً ليكتبَ أنَّ المسيحيَّةَ هي “الإجرامُ بامتيازٍ؛ الإجرامُ في حقِّ الحياة”. فالمسيحيَّةُ اخترعَتِ الرُّوحَ والنَّفْسَ، من أجل “سحقِ الجسد”، و”جعلِهِ مريضاً”. من هنا كان قمعُ الجنسانيَّةِ في المسيحيَّة، والنَّظرُ إلى الحبِّ الجسديِّ على أنَّه شيءٌ دَنِس.
“إرادةُ القوَّة” والعلاقةُ مع الجسد
يشكِّلُ مفهومُ “إرادة القوَّة” أحدَ المفاهيم الأساسيَّة في فِكر نيتشه، فهو أداةٌ لوصف العالَم، ولتأويل الظَّواهر البشريَّة كميادين الأخلاق والفنِّ، ولإعادة تقييمٍ للوجود تتوخَّى الحالةَ المستقبليَّةَ للبشريَّة، حالةَ الإنسان المتفوِّق. وهذا هو السَّبب في أنَّه يُستخدَم في كثيرٍ من الأحيان لتوضيح مُجمَلِ فلسفتِه. يجعلُ هايدغر من إرادةِ القوَّة (كما من العَود الأبديِّ) المفهومَ الأساسيَّ لـِ “ميتافيزيقيا نيتشويَّةٍ” تحملُ الميتافيزيقيا الغربيَّةَ إلى الكمال. يحاولُ نيتشه، عبرَ ابتكاره هذا المفهوم، اقتراحَ تفسيرٍ للحقيقةِ بالإجمال. بناءً على هذه الفكرة، تشيرُ إرادةُ القوَّة إلى حاجةٍ داخليَّةٍ لإنماء القوَّة، إلى ناموسٍ باطنيٍّ للإرادة المعبَّرِ عنها بعبارة “أن تكون أبعدَ من ذلك”: هذه الحاجة تقدِّمُ مِن ثمَّ لإرادة القوَّة تخييراً بين أمرين، إمَّا الذَّهاب أبعد وإمَّا الفناء. إنَّ إرادة القوَّة لا تؤسِّسُ الهويَّةَ أو الأحَديَّة، وإنَّما تقعُ في ما هو أبعد؛ إنَّها توتُّرٌ نحوَ الإنسان المتفوِّق. “الاسمُ الدَّقيقُ لهذه الحقيقة هو إرادة القوَّة، كما هو محدَّدٌ في بنيتها الدَّاخليَّة، وليس انطلاقاً من طبيعتها المراوِغةِ والهاربةِ والمائعة” (ما وراء الخير والشَّرِّ، “36”).
حيال هذا المفهوم، يجب علينا أن نفرضَ قوَّتَه، واستعلاءَه، وتجاوزَهُ الحدودَ، وتخطِّيَهُ للمقاومة، بغضِّ النَّظر عن الوسيط (الجسديِّ والعقليِّ). “لا يمكن أن تتجلَّى إرادة القوَّة إلَّا من خلال علاقتها بالمقاومة؛ إنَّها تبحث عمَّا يقاومها”. (شذراتٌ منشورةٌ بعد وفاته). إنَّ فكرة “القوَّة” جوهريَّةٌ لهذا المفهوم، لأنَّه مبنيٌّ على انتصاراتٍ ضدَّ مقاومات. في الشَّذرات المنشورةِ بعد وفاته (1884-1885)، يحوك نيتشه ضرباً من حكايةٍ خرافيَّةٍ، حكايةٍ رمزيَّةٍ لإرادة القوَّة داخلَ الجسد، لكي يشرح آليَّةَ عمل التَّكوين الجسديِّ. وهو لا يقصد بذلك الجسدَ كما هو موصوفٌ تقليديَّاً وعلميَّاً. إنَّ الجسد ليس تجميعاً ميكانيكيَّاً لأجزاء مختلفة وما هو بالشَّيء الغامض والعصيِّ على التَّفسير: إنَّه يفكِّرُ في الجسد على أنَّه لعبةٌ مرنةٌ مكوَّنةٌ من أجزاء قابلةٍ للثَّنيِ والمقارَنة. يطلق نيتشه على هذه الأجزاء الصَّغيرة التي تشكِّلُ الجسدَ وتُديره اسمَ “كينوناتٍ مجهريَّة”، والتي ليست “ذرَّاتٍ روحيَّةً”، وإنَّما “كينوناتٍ تنمو، وتكافحُ، وتَقوى أو تَفنى”. على هذه الكينونات أن تفرض نفسَها، فالتي هي أقوى تزدادُ قوَّةً، وتذهب إلى ما هو أبعد، وأمَّا الأجزاء الأضعف فتُطيعُ أو تَفنى لتترك مجالاً لغيرها. إنَّ إرادات جميع الكينونات هي نفسُها في الظَّاهر فحسب: هناك في الواقع تراتبيَّةٌ هرَميَّةٌ تقع فيها الإرادات القويَّة الفاعلة فوق الإرادات الضَّعيفة الارتكاسيَّة، وهو ما يسمِّيه نيتشه “أرستقراطيَّة”. ليس هناك أحَديَّةٌ للجسد، بل هناك تجمُّعيَّةٌ لمجموعٍ من الكينونات، وكلُّ كينونةٍ حرَّةٌ في فرضِ نفسِها أو الخضوع. يكتبُ نيتشه: “إنَّ الإنسان لَيبدو حشداً من الكينونات”. أمَّا الأحَديَّةُ الظَّاهرة فتنشأ من حقيقة أنَّ الجسدَ واحدٌ. الجسدُ لن يكون مفهوماً كمجموعٍ، ولكن كتراتبيَّةٍ هرَميَّةٍ، تراتبيَّةٍ في الدَّوافع، والقوى، وإرادات القوى.
ولكن يبرزُ لنا هنا وبصورةٍ تلقائيَّةٍ هذا السُّؤال: كيف يمكن أن يكون هناك انسجامٌ في هذه التَّعدُّديَّة غير المتكافئة والتي هي في صراع؟ بالنِّسبة إلى نيتشه، الأمرُ واضحٌ: البعضُ يرضى بالانصياع، يوافق على أن يكون خاضعاً، بشكلٍ لا يواجه معه الآخرون القادرون على القيادة أيَّةَ صعوبةٍ في فرض حُكمِهم على هذه التَّراتبيَّة. من هنا ينبع هذا الانسجامُ بين الإرادات المختلفة. إنَّ لدينا عصياناً واضحاً للأجزاء الأضعف، المسيطَر عليها جميعاً. وطبعاً هذه الأجزاء هي في تضادٍّ مع بعضها، ولكنَّها في النِّهاية تتحدَّث اللُّغةَ نفسَها. ما الذي يدفع نيتشه في هكذا تكلَّم زرادشت إلى النَّظر إلى الجسد على أنَّه “عقلٌ عظيم”؟ إنَّ الجسدَ يتفوَّق على العقل، على مستوى الذَّكاء وليس على مستوى المشاعر وحسب. الجسدُ يكتنفُ العقلَ ويحكُمُه، وليس العكس كما نقلَ لنا تاريخُ الفلسفة. الجسدُ ليس شيئاً وإنَّما حراكاً، لَفيفاً، تعدُّديَّةَ قوى، وإراداتِ قوى. جميعُ القوى ترسلُ معلوماتٍ، ليس آليَّاً، وإنَّما وفقاً لنظامٍ فطريٍّ: أي أنَّ هذه الرَّسائل هي تجلِّياتٌ للإرادة. وبعبارةٍ أخرى، إنَّ منهج التَّواصُل هذا ليس سوى صراعٍ مستمرٍّ، طويلٍ وعنيفٍ، وفي بعض الأحيان شَرِسٍ. واختتاماً لهذه المسألة حول مفهوم إرادة القوَّة وارتباطه الجوهريِّ بالجسد نخلُصُ إلى أنَّ الجسدَ، في نظرِ نيتشه، هو أفضلُ قائدٍ، لأنَّه رمزٌ لإرادة القوَّة. وكما كتبَ باتريك ووتلينغ في كتابه نيتشه ومشكلة الحضارة، الجسد هو “موضعُ تنفيذ” إرادة القوَّة.
علاقةُ نيتشه بجسدِهِ وبالمرض
في عملِهِ يحوِّلُ نيتشه سببَ المرض إلى استعارةٍ مجازيَّة. فهذا المرضُ الجسديُّ، المادِّيُّ، هو بالنِّسبة إليه رمزٌ لثقافةٍ في طورِ انحطاط. هذه الحضارةُ منحلَّةٌ ومريضةٌ بسبب نكرانها الجسد. الجسدُ يمرضُ، يتعذَّبُ، ولذلك فمن الأفضل التَّنازلُ عنه. يستخدم نيتشه كاستعارةٍ الجهازَ الهضميَّ لدعم نظريَّاته. ثمَّة مثالان: مثال أ) يصوِّرُ فيه إرادةَ القوَّة وفقاً لنموذج عمليَّةِ الهضم؛ مثال ب) يرى فيه أنَّ التَّأويلَ السَّلبيَّ للواقع يُحكَمُ عليه من خلال مقارنته بخللٍ هضميٍّ. لقد ندَّدَ بالصِّبغةِ العدميَّةِ للرُّوح الألمانيَّة في هذا هو الإنسان (“لِمَ أنا على هذا القدْر من الذَّكاء” فقرة 1) بقولِهِ: “تمثِّلُ الرُّوح الألمانيَّة حالةَ عسرِ هضمٍ؛ إنَّها لا تستطيع الحسمَ في أيِّ شيء”. وسيقول أيضاً، بمزيدٍ من حسِّ الفُكاهة: “إنَّ اقتراب ألمانيٍّ منِّي قد يؤخِّرُ عندي عمليَّة الهضم”. يريد نيتشه، وفقاً لصيغتِهِ في الشَّذرات، “الفيلسوفَ كطبيبٍ للحضارة”. وهو يسعى، من وراء صورةِ المرضِ هذه، إلى إبراء جمهرةٍ مصابةٍ عميقاً بالسَّرطان من خلال فلسفته. وفقاً له، ليس هناك حاجةٌ لرفضِ أو لتملُّق الصِّحَّة والمرض، فليس هناك حالةٌ طبيعيَّةٌ للصِّحَّة، بل هناك فقط ظروفٌ تبدو لنا جيِّدةً لجسدنا. إنَّه يرفض ثنائيَّةَ الصِّحة/ المرض. وبتعبيرٍ آخر، علينا أن نزيلَ من أذهاننا أنَّنا جميعنا سواسيةً أمام المرض والصِّحَّة. يقولُ في العلم المرِح (فقرة 120): “في الواقع لا توجد صحَّةٌ بذاتها، وكلُّ المحاولات لتعريفها قد باءت بالفشل على نحوٍ ذريعٍ. فما يحدِّدُ ماذا ينبغي أن تعني الصِّحَّة حتَّى بالنِّسبة إلى جسدك إنَّما يعتمدُ على هدفك، وأفقك، وقواك، ودوافعك، وأخطائك، ويعتمد بشكلٍ خاصٍّ على مُثُلِ روحك وخيالاتها. وهكذا فإنَّ هناك حالات صحَّةٍ لا حصر لها للجسد”. المرضُ ليس ببساطةٍ النَّفي المطلَقَ للصِّحَّة. يقول في مقدِّمةِ العلم المرِح: “الفيلسوف الذي اجتاز وما يزال يجتاز حالاتٍ صحِّيَّةً مختلفةً، هو فيلسوفٌ اجتاز العديد من الفلسفات: لم يكن في وُسعه إلَّا أن يحوِّلَ كلَّ قولٍ من أقواله إلى الشَّكل والأفق الأكثر روحانيَّة؛- فنُّ التَّحوُّل هذا، هو الفلسفة”.
هذه بالتَّأكيد ليست عبارةً تعبِّرُ عن سيرة حياة نيتشه الذي كان في أغلب أوقاته مريضاً وفي حالةٍ جسديَّةٍ سريعة التَّدهور. الأمرُ في الواقع هو أنَّ نيتشه، ومن خلال تجربته الخاصَّة، كان يؤسِّسُ فِكْرَه على الجسد والمرض. ثمَّة تواشجٌ شخصيٌّ قويٌّ ما بين حياة نيتشه وفلسفته. وجديرٌ بالذِّكر على نحوٍ خاصٍّ أنَّه، في الفترة التي كان يكتب فيها زرادشت، كتبَ في هذا هو الإنسان (“لماذا كتبتُ كتباً جيِّدةً” المقطع 4): “لقد كانت خفَّة حركة العضلات دائماً أكبر في داخلي عندما كانت القدرة الإبداعيَّة أقوى. الجسدُ مُستثارٌ”. ثمَّ إنَّه يفضِّلُ أن يتحدَّث عن “الانحطاط” كمرضٍ، وهو مصطلحٌ لا يستخدمه بمعناه السَّلبيِّ. فهو ليس شيئاً تجب محاربتُه، بل ينبغي بدلاً من ذلك الاحتراسُ من انتقال العدوى ومن محاولة إلغاء الوجود. المرضُ وفقاً لنيتشه ليس سبباً، وإنَّما انعكاساً للانحطاط.
* * *
الحواشي (كما وضعها المترجِم):
1- نومينُن Noumenon هو مصطلَحٌ فلسفيٌّ يُقصَد به “الشَّيء في ذاته”، وهو يُستخدَم كمصطلَحٍ مضادٍّ مع مصطلح فينومينُن Phenomenon أي الظَّاهرة.
2- مطلعُ النَّصِّ المشار إليه: [يبقى لنا طريقٌ واحدٌ للسَّير: الوجودُ هو موجودٌ. ويوجد حشدٌ من الإشارات التي تؤكِّدُ أنَّ الوجودَ ليس مخلوقاً وليس فانياً، لأنَّه وحدَه الكامل، الثَّابت والأبدي، ليس بإمكاننا أن نقول إنَّه كان أو إنَّه سيكون…]. انظرْ الصَّفحة 194 من كتاب “بداية الفلسفة” لهانز جورج غادامير، ترجمة: علي حاكم صالح وحسن ناظم، دار الكتاب الجديدة المتَّحدة، بيروت، ط1، 2002.
3- من كتاب “هكذا تكلَّمَ زرادشت”.
4- يميِّز هوسرل في كتابه “تأمُّلات ديكارتيَّة” بين Leib أي الجسد الإنسانيِّ بما له من فرادةٍ وبين Körper أي الجسم.
[التَّرجمة عن الإيطاليَّة: أمارجي]نقلاً عن موقع: جدلية