بَناتُ آوَى وَ عَربْ

كنا قد ضربنا خيامنا في الواحة، وقد غفا رفاقي.
مرَّ بي القوام الأبيض الشامخ لرجلٍ عربي، كان يتفقَّد الإبل، ويمضي في طريقه إلى مرقده.

استلقيت على ظهري، فوق العشب، حاولت التماس الكرى، لكن النوم جفاني.
في البعيد عوت بنت آوى، فاقتعدت الأرض ثانية، فجأة دنا مني، كأشد ما يكون الدنو، ما كان نائياً، فقد تدفقت بنات آوى حولي، وعيونهن تلمع بذلك البريق الأصفر الكئيب، وتعاود الاختفاء مجدداً، وأجسادهن اللدنة تتحرك، بتحفز، وعلى نحو منتظم، كما لو كان ذلك يحدث استجابة، لقرقعة سوط.

أقبلت إحدى بنات آوى من خلفي، مندفعة تحت ذراعي مباشرة، ضاغطة نفسها باتجاهي، كما لو كانت بحاجة إلى أن تلتمس الدفء مني، ثم وقفت أمامي، وراحت تحدثني وجهاً لوجه على التقريب.


إنني كبرى بنات آوى في كل البقاع، ويسعدني أن ألقاك ها هنا، أخيراً، فقد كنت على وشك أن افقد الأمل، إذ انتظرتك سنوات لا تنتهي، وانتظرتك أمي وأمها، وكل أمهاتنا، منذ الأم الأولى لبنات آوى كافة، هذا صحيح، صدقني !

قلت: ناسياً في غمار حديثي إذكاء جذوة كوم الخشب الجاثم قاب قوسين أو أدنى، والذي يمكن استخدامه في طرد بنات آوى بعيداً:
أمر عجيب!يدهشني أشد الدهشة أن أسمع هذا، فالمصادفة المحضة هي التي ألقت بي إلى هنا من الشمال البعيد، كما أني أقوم بجولة قصيرة فحسب في هذه البلاد، فما الذي تردنه إذن يا بنات آوى؟!
أطبقت حلقة بنات آوى علي، كما لو كان قد أثار فيها الجرأة هذا التساؤل، الذي ربما كانت نغمة الود فيه قد تجاوزت ما ينبغي، و رحن جميعاً يلهثن، وقد فغرن أشداقهن.

أنشأت كبراهن تقول:إننا نعرف أنك جئت من الشمال، وهذا هو على وجه الدقة ما نعلق آمالنا عليه، فأنتم معشر الشماليين تتمتعون بذلك الفهم الذي لا نظير له في صفوف العرب، وأصدقك القول أنه ما من شرارة واحدة يمكن أن تقدح من صلفهم البارد. إنهم يذبحون الحيوانات، ليصنعوا طعاماً منها، ويزدرون الجيف.
قلت: لا ترفعي صوتك هكذا! فهناك عرب يرقدون غير بعيد عنا.
قالت بنت آوى: إنك غريب ها هنا حتماً، وإلالعرفت أنه لم يحدث في تاريخ العالم قط أن خافت بنت آوى من عربي. لماذا ينبغي ان نخشاهم؟ أليس في نفينا بين ظهراني تلك المخلوقات ما يكفي من سوء الطالع؟
قلت: ربما، ربما، فمثل هذه الأمور البعيدة إلى هذا الحد لا أجدني مؤهلاً للحكم عليها، ويبدو لي الأمر عراكاً بالغ القدم، وأحسب أنه أمر يجري مجرى الدم، وربما لن ينتهي إلا بسفكه.
إنك أريبٌ للغاية.
قالتها ابنة آوى العجوز، ورحن جميعهن يلهثن بمزيد من السرعة، فيتدفق الهواء من رئاتهن، على الرغم من إنهن ساكنات في مواضعهن.
انبعثت رائحة نتنة من أشداقهن، اضطررت لكي أحتملها إلى أن أصر على أسناني.
مضت ابنة آوى تقول:
إنك أريب للغاية، فما قلته تواً يتفق مع أعرافنا القديمة، فإننا سنلغ في دمائهم فينتهي النزاع.
قلت بصرامة تفوق ما كنت اقصده:
آه، لسوف يدافعون عن أنفسهم، ويطلقون النار من بنادقهم عليكن، فتسقطن بالعشرات.
قالت ابنة آوى:
ها أنت تسيء فهمنا، وتلك خصلة بشرية، يبدو إنها توجد حتى في أقصى الشمال، فنحن لا نقترح قتلهم: إذ ليس بمقدور ماء نهر النيل كله ان يطهرنا من ذلك، بل إن مجرد مرأى لحمهم الحي يجعلنا نولي الإدبار، ساعيات وراء هواء أنقى، إلى الصحراء، التي هي لهذا السبب عينه ملاذنا.

وخفضت بنات آوى الملتفات حولي جميعهن، بما في ذلك كثيرات أقبلن لتوهن، أخطامهن بين قوائمهن الأمامية، ورحن يمسحنها ببراثنهن، كما لو كن يحاولن إخفاء شعور غلاب بالاشمئزاز، إلى الحد الذي دفعني إلى الرغبة في الوثوب فوق رؤوسهن والهرب بعيداً.

ما الذي تقترحن القيام به إذن؟
قلتها متسائلاً، وأنا أحاول الوقوف، لكني لم أستطع النهوض، فقد أطبقت ابنتا آوى فتيتان أنيابهما على معطفي وقميصي.
أوضحت ابنة آوى عجوز الأمر، بجدية تامة، بقولها:إنهما وصيفتاك، خصصتا من أجلك، تكريماً لك.
صحت، متلفتاً تارة نحو ابنة آوى العجوز، وتارة نحو بنتي آوى اليافعتين:
لا بد لهما من تركي وشأني!
قالت ابنة آوى العجوز:
ستفعلان هذا بالطبع، بما أن تلك هي رغبتك، لكن ذلك سيستغرق بعض الوقت، ذلك أنهما أحكمتا إطباق أنيابهما كما هي عادتنا، ويتعين عليهما أن ترفعا أشداقهما قليلاً قليلاً.
وفي غضون ذلك أصغ إلى ملتمسنا:
قلت: لم يجعلني تصرفكن أميل إلى هذا تماماً.
قالت، وقد لجأت إلى الكآبة الطبيعية في صوتها:
لا تأخذ علينا افتقادنا للدماثة، فنحن مخلوقات بائسة لا حول لنا إلا بأنيابنا وكل ما نريد إتيانه، سواء كان شيئاً طيباً أم شيئًا سيئاً، نقوم به مستخدمات أنيابنا.
تساءلت، دون أن تسكن ثائرتي كثيراً:
طيب، ما الذي تردنه؟
صاحت، وقد راحت بنات آوى تعوين معاً، على نحو ناء، بدا الأمر معه كما لو كن يعزفن لحناً متسق الأنغام.
سيدي، سيدي، إننا نريدك أن تنهي هذا العراك الذي يقسم العالم، فأنت بالضبط الرجل الذي تنبأ أسلافنا بأنه سيولد للقيام بهذه المهمة، ونحن لا نريد بعد اليوم أن يكون العرب مصدر ضيق لنا، نريد مجالاً لالتقاط الأنفاس، أفقاً تم تطهيره منهم، لا مزيد من ثغاء الخراف التي يذبحها عربي، أن ينفق كل حيوان نفوقاً طبيعياً، ولا تدخل إلا بعد أن نستنزف الجثة و نلعق عظامها بعد أن نسلبها اللحم. حياة نظيفة فالنظافة هي كل ما نريد.
عندئذ غرقن جميعهن في النواح والبكاء، مضت كبراهن قائلة:
كيف تتحمل الحياة في مثل هذا العالم، أنت يا صاحب القلب النبيل والنفس المرهفة، قذارة بياضهم، وقذارة سوادهم، وفظاعة لحاهم، و مرأى محاجر أعينهم يدفع المرء إلى الرغبة في البصق، حينما يرفعون ذراعاً تتثاءب ظلمة الجحيم في آباطهم، ولذا يا سيدي العزيز بيديك القويتين جز أعناقهم بهذا المقص!

واستجابة لإيماءة من رأسها، أقبلت إحدى بنات آوى مسرعة وهي تحمل مقص حياكة صغير، كساه صدأ قديم يتدلى من ناب في فكها الأعلى.
صاح القائد العربي لقافلتنا، الذي كان قد زحف تحت الريح نحونا وراح الآن يفرقع بسوطه الهائل:
هاهو المقص أخيراً وقد حان وقت التوقف!
سارعت بنات آوى بالهرب، لكنهن تجمعن متقاربات على بعد مسافة محددة، وقد انضمت إحداهن إلى الأخرى فتصلبن على نحو بدون معه كما لو كان قد ضمهن وهج مستنقعي متضائل، في طية واحدة صغيرة.
قال العربي، ضاحكاً، بقدر ما يسمح له تحفظ أبناء جلدته بالمرح:
هكذا فقد دعيت لشهود هذه التسلية أيضا أيها السيد!
تساءلت: إذن فإننا على علم بما تسعى إليه هذه الحيوانات
قال: بالطبع فهو أمر معروف للكافة، وطالما بقي العرب على قيد الوجود فان هذا المقص سيجوب الصحراء، وسيمضي معنا إلى آخر أيامنا.
وقد عرض على كل أوروبي للقيام بالعمل العظيم، وكل أوروبي هو بالضبط الرجل الذي اختاره القدر لهن، إن أشد الآمال جنوناً هي محط تعلقهن، هاته المخلوقات الحيوانية، وهن لسن إلا حمقاوات، شديدات الحمق، ذلك هو سبب حبنا لهن، فهن كلابنا ويفضلهن خير كلابكم، الآن راقب هذا الأمر، لقد نفق بعير ليلة أمس، قد أمرت به فأحضر إلى هنا.

أقبل أربعة رجال بجيفة ثقيلة، وألقوا بها أمامنا، فلم تكد تمس الأرض حتى عوت بنات آوى، وكما لو كن قد جذبن بحبال على نحو لا سبيل معه إلى المقاومة راحت كل منهن تتقدم باضطراب إلى الإمام، وزحفن على بطن البعير النافق.

كن قد نسين العرب، نسين مقتهن لهم، وسحرهن الحضور الذي يجب ما عداه والنابع من الجيفة كريهة الرائحة.
ارتمت إحداهن على عنق البعير، غرست أنيابها مباشرة في أحد عروقه.
وشأن مضخة صغيرة حادة تدفع بتصميم يعادل اليأس نحو إخماد نار تتلظى، التوت كل عضلة في جسم ابنة آوى، وكدحت لإنجاز هذه المهمة.
في لمح البصر كن قد اعتلين الجيفة جميعاً، و رحن يعملن أنيابهن فيها، وقد تحولن إلى جبل يعلوها.

أعمل قائد القافلة سوطه الباتر، على نحو متقاطع، فوق ظهورهن فرفعن رؤوسهن، وقد أخذ بهن الخدر من فرط النشوة، رأين العرب فوق رؤوسهن، أحسسن لسع السوط على أخطامهن، قفزن وتراجعن قليلاً لكن دم البعير كان متراكماً بالفعل في بحيرات، وقد ارتفعت رائحته زاعقة وبقرت الجيفة في مواضع عديدة فلم يستطعن مقاومتها وأطبقن عليها من جديد ومرة أخرى رفع القائد ذراعه بالسوط، فأمسكت به، وحلت دون أن يهوي بالسوط.

قال: إنك على حق أيها السيد، لسوف نتركهن عاكفات على عملهن، إضافة إلى هذا فقد حان وقت الرحيل.طيب.لقد رأيتهن، إنهن مخلوقات عجيبة.ألسن كذلك؟ولشد ما يمقتننا!

فرانز كافكا(1883-1924)
ترجمة: كامل يوسف حسين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى