البنت الصغيرة جدّاً، البنت الضريرة، تهمُّ بدخول مدرستها، بطيئة، مبتسمة. أمشي أنا باتّجاه مدرستي، وحين حاذيتها، صدرت عنّي سعلة سريعة وعنيفة، سمعتها تقول بصوت صغير: “ياه، كم تشبه هذه السعلة سعلة المرحوم أبي، أرجوك، اسعل مرّةً أخرى يا عمو”.
ابتسمت، حاولت أن أعيدها، لكنني لم أنجح؛ فالسعال ليس فعلاً إراديّاً كما نعرف، افتعلتُ سعلة سريعة، لكنها رفضتها قائلةً: “لا لا لا، مش هاي يا عمو، بدّي زي الأولى، أرجوك زي الأولى”.
مشت باتّجاهي وهي تنظر إليَّ محاولةً توقّع اتّجاه وجهي، اعتذرت منها بارتباك، ومشيت. صرت كلّما تهيّأت لسعال حقيقي في أيّ مكان، أتذكّر ملاكي الضرير وأتحسّر؛ لأنني لستُ أمامَها.
في صباح آخر، رأيتها تخطو باتّجاه بوّابة مدرستها ببطءٍ جريحٍ وناعم، بطء مليء بالنداءات، بطء يمسك بيد ابتسامةٍ غريبة، فحواها اعتذارات للشارع؛ لأنها مشت عليه، وللمارة؛ لأنها شوّشت طريقهم، ولسائقي السيارات؛ لأنها أبطأت حركتهم، وللهواء؛ لأنها قضمت منه جرعتين أو ثلاثاً، وللوجود؛ لأنها شقّت فيه حيّزاً لأنفاسها وحضورها الجسدي.
مرّةً داهمتني في الصف نوبة سعال شديدة، ركضتُ بسرعة باتّجاه مدرستها، وهناك أمام مدرّسيها وزملائها نزفتُ كلّ مقدرتي الطبيعية وغير الطبيعية على السعال. وكانت الدنيا كلّها تصرخ في أذني: لا لا، مش هاي، مش هاي عمو، لا لا، مش هاي عمو، مش هاي، بدّي زي الأولى. بدّي زي الأولى.
ـــــــــ
من كتاب: أسباب رائعة للبكاء – زياد خداش – عن دار الأهلية للنشر والتوزيع 2016
بدى زى الأولي ياعمو