صادق هدايت عن نفسه :
” . . .مهما يكن فليس في تاريخ حياتي ما يلفت النظر ، لم يحدث فيها ما هو جدير بالانتباه ، ليس لي منصب هام ، ولا أنا من حملة الشهادات العظيمة ، لم أكن أبدا طالبا بارزا ، على العكس ذلك كان نصيبي دائما هو عدم التوفيق ، ومهما كنتُ أعمل كنتُ أبقى خاملا ورؤسائي غير راضين عني ، ربما لو استقلت لرضوا .”
” أما الخلاصة فهي أنني صُدِمتُ من كل شيء وتعبت ولا مناص من أن تتحطم أعصابي ، إنني أصلُ النهار بالليل كأنني محكوم عليه بالإعدام أو أسوأ ، وقد نفضتُ يديّ من حصيلة كل شيء ، لا أستطيع أن أشتاق ثانية لشيء ، ولا أن أعلق قلبي بشيء ، ولا أن أخدع نفسي ، ولا أجد الجرأة على الانتحار .”
البومة العمياء :
” في الحياة جراحٌ كالجذام . . . تأكلُ الروح ببطء . . . وتبريها في انزواء ، هذه الآلام لا يمكن اظهارها لإنسان ، إذ أن البشر عموما ألفوا اعتبار هذه الآلام التي لا تصدق نوعا من الاتفاقات والأحداث النادرة العجيبة ، ولو أن إنسانا تحدث بها أو كتب عنها ، فإن الناس يحاولون تلقيها ببسمة شائكة ساخرة تمشيا مع العقائد الجارية ومعتقداتهم الشخصية ، وذلك لأن البشر – حتى الآن – لم يكتشفوا لها علاجا أو دواء ، ودوائها الوحيد هو نسيانها عن طريق الشراب أو النوم المصطنع بواسطة الأفيون والمخدرات . ولكن ما يؤسف له أن تأثير هذا النوع من الأدوية مؤقت وبدلا من أن يسكن الآلام يزيد من وطأتها بعد فترة .”
” هل يستطيع إنسان – في يوم ما – أن يقف على أسرار هذه الاتفاقات الميتافيزيقية ، هذا الانعكاس لظل الروح الذي يتجلى في حالة الإغماء والبرزخ بين النوم واليقظة ؟ .”
” (…) عثرتُ على حقيقة هي أن ورطة هائلة توجد بيني وبين الآخرين ، وفهمت أنه ينبغي علي أن أخلد إلى الصمت إلى أقصى حد ممكن ، وإلى أقصى حد ممكن يجب أن أحتفظ بأفكاري لنفسي ، وإذا كنتُ الآن قد قررت أن أكتب فهذا راجع إلى أنه يجب أن أُعرفَ نفسي لظلي . . الظل المنحني على الحائط وكأنه يتجرع كل ما أكتب باشتهاء بالغ .”
” أفكار فارغة ! لتكن – ولكنها تعذبني أكثر من أية حقيقة .”
” أهولاء الناس لا يخدعونني ؟ أليسوا حفنة من الظلال أتت للوجود سخرية مني ومن أجل خداعي ؟ أليس كل ما أحس به وأراه وأقومه وهماً جميعه يختلف عن الحقيقة اختلافا كبيرا ؟ .”
” بدا لي وكأنني كنتُ أعرف اسمها قبل ذلك ، كانت شرارة عينها ولونها ورائحتها وحركاتها تبدو غير غريبة عني ، وكأنما كانت روحي وروحها في الحياة الأولى وفي عالم المثال متجاورتين ومن أصل واحد ومادة واحدة ، وكان ينبغي أن يلحق كل منا بالآخر وأن نتوحد (…) ألا يشعر العاشقان دائما بنفس هذا الإحساس وهو أن كليهما قد رأى الآخر قبل اللقاء ، وأن رابطة خفية كانت قد وجدت بينهما ؟ .”
” كنتُ أريد وآمل من كل قلبي أن أسلم نفسي إلى نوم النسيان ، ولو صار هذا النسيان ممكنا ولو استطاع أن يدوم ، لو أن عيني المغمضتين فيما وراء النوم انصرفتا رويدا رويدا إلى العدم التام ، ولا أعود أحس بوجودي بعد ، ولو كان ممكنا أن يمتزج كل وجودي في بقعة حبر أو في لحن موسيقى أو في شُعاع ملون ، ثم تَنمحي كل هذه الأمواج والأشكال بكل توسعها وكبرها ، لكنتُ بلغت أملي . ”
” أستطيع فقط مع ظلي أن أتحدث جيدا ، هو الذي يحملني على الكلام ، هو فقط الذي يستطيع أن يعرفني ، إنه يفهم حتما . .. ”
” (…) أنا لا أطمئن إلى شيء . فأنا من كثرة الأشياء المتناقضة التي رأيتها ، والكلمات المتباينة المتنوعة التي سمعتها ، ومن كثرة ما رأت عيني أصبحت تحار في ظواهر الأشياء المختلفة – هذه القشرة الرقيقة الصلبة التي تختفي خلفها الروح – لم تعد تؤمن بشيء ، بثقل الأشياء وثبوتها ، وأشك الآن حتى في الحقائق الواضحة الجلية ، ولا أدري هل إذا نقرتُ بإصبعي على الهاون الحجري الموجود في فناء داري فسألته : هل أنت ثابت وراسخ وأجاب بأنه ثابت ، لا أدري – هل أصدق حديثه أم لا ؟ هل أنا مخلوق منفصم أو مخلوق بعينه ؟ لا أدري – ولكني الآن نظرت في المرآة فلم أتعرف على نفسي ، لا ، هذه الــ”أنا” السابقة ماتت وتحللت ، لكن لا سد ولا برزخ بيني وبينها . ”
” (…) الماضي والمستقبل والساعة واليوم والشهر والسنة كلها أصبحت عندي سواء – وليستِ المراحل المختلفة من طفولة وكهولة بالنسبة لي إلا حديث خرافة ، ولكنها تصدق فقط على الناس العاديين ، على ” الأوباش” . (…) حياتي كلها كانتْ فصلا واحدا يجري على نسق واحد وكأنها مضت في منطقة باردة وفي ظلام أبدي ، بينما كان هناك وسط جسدي مشعلة تحترق وتذيبني كالشمع . ”
” أليستِ الحياة بأكملها قصة مضحكة ، أسطورة حمقاء لا تُصدق ؟ . ”
” هذا الإحساس كان قد استيقظ في نفسي منذ زمن بعيد ، وهو أنني كنت أتحلل وأنا حيّ
، ولم يكن هناك توافق بين جسمي وقلبي ، وليس هذا فحسب ، بل بين روحي وقلبي – كنتُ أجتاز دائما نوعا من التحلل والفصام الغريب ، وأحيانا كنت أفكر في أشياء لا أستطيع أنا نفسي أن أصدقها . أحيانا يتولد في نفسي حسٌ بالشفقة في حين أن عقلي يلقي باللوم علي ، وكثيرا ما كنت أتحدث إلى شخص ، أو أقوم بعمل ما ، أو أدخل في مناقشة حول موضوعات مختلفة في حين أن كل حواسي في مكان آخر ، وكنت من أعماق قلبي ألوم نفسي -كنتُ كتلةً من الانفصام والتحلل . وكأنني كنت وسأكون دائما . . . مزيجا عجيبا لا تناسب فيه .”
” ومما لا يقبل الاحتمال أنني كنتُ أحس أنني بعيدٌ عن كل الناس الذين أراهم وأعيش بينهم .”
” لا أدري لماذا كانتْ حياة الآخرين ومسراتهم المتنوعة تصيبني بالغثيان في حين أنني كنتُ أعلم أن حياتي قد انتهت ، وأنها تذوب بطريقة مؤلمة وببطء . أية علاقة تجعلني أفكر في حياة الحمقى والأوباش الذين كانوا في صحة جيدة ، وكانوا يأكلون وينامون جيدا ويضاجعون جيدا ، ولم يكونوا قد أحسوا قط بذرة من آلامي ، ولم ترفرف أجنحة الموت كل دقيقة على رؤوسهم ووجوههم .”
” حياتي كانت تتغير كل يوم وكل دقيقة ، وكان يبدو لي أن طول الزمن والتغيرات التي يمر بها البشر في سنوات ، كانت بالنسبة لي في سرعة السير والأحداث مضاعفة آلاف المرات وأكثر سرعة ، في حين أن مسراتها ولذائذها كانت تسير في خط عكسي وتسرع نحو الصفر أيضا ، هناك أشخاص يبدأون الاحتضار في سن العشرين .”
” (…) الأفيون ، ياله من دواء غالِ الثمن من أجل حياتي المؤلمة ! .”
” ليس كتاب الأدعية فحسب بل كل كتب الأوباش وكتاباتهم لا تهمني ، أية حاجة لي بترهاتهم وحيلهم ؟ (…) لم يحدث لي في أي وقت مضى أن أحدث المسجد وصوت الأذان والوضوء والمضمضة والركوع والقيام أمام قادر متعال وصاحب اختيار مطلق ينبغي أن نخاطبه بالعربية ، لم يحدث ذات مرة أن كان لكل هذا أثر فيّ .”
” لم أكن أريد أن أعرف : هل الله موجود في الحقيقة أم أنه فقط مظهر لأصحاب السلطة على الأرض جعلوه لتثبيت مقام الأُلوهية من ناحية واستغلال رعاياهم من ناحية أخرى – صورة انعكست من الأرض إلى السماء – كنتُ أريد أن أعلم فقط هل سأصلُ النهار بالليل أم لا – كنت أحس أنه في مواجهة الموت كم يكون الدين والإيمان والعقيدة أشياء طفولية وتافهة وتقريبا نوع من العزاء للناس الأصحاء السعداء – وفي مواجهة حقيقة الموت المخيفة والحالات المذيبة للروح التي إجتزتها ، صار كل ما لقنوه لي بالنسبة للثواب والعقاب والروح ويوم القيامة خداعا لا طعم له ، وأصبحت الأدعية التي لقنوها لي لا تجدي فتيلا في مواجهة الموت .”
” الخوف من الموت لم يترك أبدا تلابيبي – إن الأشخاص الذين لم يذوقوا الألم لا يفهمون هاته الكلمات .”
” ولكن ما كان مخيفا أنني كنتُ لست حيا تماما أو ميتا تماما ، كنت فقط جثة متحركة لا علاقة لها بدنيا الأحياء .”
” كنتُ أحس أن كل شيء فارغ ومؤقت .”
” الظلام هذه المادة الكثيفة السيالة التي تسري في كل مكان وكل شيء .”
” ألم تكن حجرتي تابوتا . . . ألم يكن فراشي أبرد وأظلم من القبر ؟ فراشٌ كان دائما ممتدا ويدعوني إلى النوم ! – عدة مرات طرأت لي هذه الفكرة : إنني في قبرٍ – وفي الليل تبدو حجرتي في ناظري صغيرة تضغط علي . ألا يحسون بنفس هذا الإحساس في القبر ؟ . . وهل استطاع لأحد أن يعلم أحساسيس بعد الموت ؟
إذا كان الدمُ يتوقف في الجسد ، وبعد يوم وليلة تبدأ أعضاء البدن في التحلل ، ولكن حتى بعد فترة طويلة من الموت يظل شعر الرأس وأظافر اليد مستمرين في النمو – هل تذهب الأحاسيس والأفكار أيضا بعد توقف القلب أم أنها تظل فترة تواصل الحياة خفيةً من الدم الباقي في العروق الصغيرة ؟ إن حس الموت نفسه مخيف ، فكيف يكون الأمر للذين يحسون أنهم موتى ! ! هناك عجائز يموتون بإبتسامة ، وكأنهم ينتقلون من نوم إلى نوم أو كأنهم سراجٌ ينطفئ . أما بالنسبة لشاب قوي يموت فجأة وتقاتل كل قوى بدنه ضد الموت لفترة ، فأية أحاسيس سوف يحس بها ؟
مرات كثيرة كنتُ أفكر في الموت وفي تجزئة عناصر جسدي بحيث أن هذا التفكير لم يعد يخيفني ، وعلى العكس رغبتُ رغبةً حقيقية في أن أعدم وأفنى ، الشيء الوحيد الذي كنت أخشاه أن تختلط ذرات جسدي بذرات أجساد الأوباش – كان هذا الشيء غير محتمل بالنسبة لي – . ”
” إن ما كان يبعث فيّ العزاء هو الأمل في العدم بعد الموت ، كانت فكرة الحياة بعد الموت تخيفني وتصيبني بالملل – أنا حتى الآن لم أكن قد أنست إلى هذه الدنيا التي كنت أحيا فيها فبماذا تفيدني الحياة الأخرى ؟ . ”
” إن فكرة الحياة مرة أخرى كانت تخيفني وتصيبني بالملل – لا ، لم تكن بي حاجة لرؤية كل هذه العوالم المقيتة ، وكل هذه السحنات المنكوبة . (…) وإذا كان يجب أن أحيا حياة جديدة ، فإنني كنت أرغب في أن أصير ميت الفكر والإحساس وأن أتنفس دون صعوبة ، وبدون أن أحس بالألم ، (..) وبحيث لا تضر الشمس عيني ، ولا يضايق مسمعي حديث الناس وصوت الحياة . ”
” إن الضغط الذي يلصقُ شخصين ببعضها وقت المضاجعة لدفع الِوحدة ، ليس إلا نتيجة لنفس الجانب المختلط بالجنون والموجود في كل فرد ، والمختلط بالأسف الذي يميل ببطء نحو الموت . ”
” إنه الموت فقط الذي لا يكذب . . .
إنه حضور الموت الذي يقضي على جميع الأوهام ويفنيها . (…) والموت هو الذي ينقذنا من جميع خِداعات الحياة . “