أمارس لعبة اللجوء الى الذاكرة يوميا. لعبة استذكار فذة. أظنني لا ألعبها لوحدي، ولستُ الوحيد الذي يحتمي بكرمها، ويتلذذ بتلك السهوب، السهوب التي جعلت من ذاكرتي أعجوبة، ثم أحالتها الى مزار!
أراني منصفاً لنفسي في هذا الطقس الباذخ، ربما نادراً ما أشعر بذلك، لكنني على يقين أن هذه اللعبة بالذات سأبدو فيها منصفا.
هو سعيٌ لجذب العالم كله، تدفق حسي من سلالات الخيال الخفيفة، متغيرات تعانق انفعالات صامتة لتوصلني الى النقطة الحرجة، النقطة التي يتماهى فيها النهار مع الليل فيضيع الخيط الفاصل بينهما.
لا تنتمي لعبتي هذه الى يأس، ولن يزعم التشاؤم أنها من عوانسه، على العكس تماما. هي تشبه الموت الحراري، سيناريو هذا الكون المفتوح الذي سيستمر في التوسع إلى اللانهاية حتى تنخفض الحرارة فيه ويغدو أكثر خُلوُّاً وبرودة. هو يموت حرارياً بينما ينخفض في صدري الضيق، وتبتعد عني شظايا الرعب ومنغصات العيش وفساد الأمكنة. أظنني أساويه في المقدار وأعاكسه في الاتجاه، وقد أبدو أفضل منه، وفي ذلك انقلاب في خاصية حواسي التي توجه عملية الخلق وفق رؤية غير تقليدية.
سأباشر من الآن بتذكر “سمكة همنغواي” و”خامسة بيتهوفن” و”تفاحة نيوتن” و”مركب رامبو السكران” ورسالة “فيجنشتين المنطقية” و”مواكب جبران” و”تحول رورتي اللغوي” و”تجليات هولدرين” و”اعدام لوركا” و”صلب الحلاج” و”مادية كارل ماركس التاريخية” و”خيبة صموئيل بكيت بسبب قهقهات الجمهور خلال مشاهدتهم لمسرحيته، شديدة اليأس، بانتظار غودو”!
سأتذكر نهاية “أنّا كارنينا” وسحر “ليلة لشبونه” و”جحيم باربوس” و”موت توماس مان في البندقية” وحوارات “الاخوة كرامازوف” وجريمة “الغريب” الغريبة، ومأساة ” غاتسبي العظيم” و”صخب وعنف فوكنر” و”صرصور كافكا” والذي يحاور نفسه في الطرقات في “ثرثرة فوق النيل” والخنجر الذي يغرسه البطل في رواية “الياطر” وسخرية الرجل الغامض من غرور بطل “موسم الهجرة الى الشمال” العائد تواً من الغرب، وآخر جملة يطلقها بطل فيلم “الفراشة”: ما زلت حراً أيها الـ….!
سأبحر مع “بحة داخل حسن” و”نواح سيد محمد” و”بنفسج ياس خضر” و”الأوله في غرام أم كلثوم” و”جندول عبدالوهاب” و”ربيع الأطرش” و”فاتت جنب عبدالحليم” و”صباحات فيروز” و… سأكتفي أخيراً بـ “غمزة سميرة توفيق”.
ألم أقل لكم أنني منصف في هذا الطقس الباذخ؟
في ظني أن “السياب” كان منصفاً أيضا حين كتبَ ذات مرة إلى صديق له:”لم أعد أخاف من الموت، ليأت متى شاء، أشعر أنني عشت طويلا. لقد رافقت جلجامش في مغامراته، وصاحبت عوليس في ضياعه، وعشت التاريخ العربي كله، ألا يكفي هذا”؟
أظنه يكفي يا بدر.
…………