فصل من رواية شرفة تطل على بيت قديم للكاتب والمترجم المصري محمد محمد السنباطي..
أما الوجه الأكثر جمالا فتعرفت عليه بعد ذلك، وكان لصبية قاهريَّة نزلت تزور أقاربها وتقضي عندهم أيامًا أو أسابيع، هي وأمها.
انقلب الشارع رأسًا على عقب فبرزت النسوة مشدوهات يرقبن هذا اللون من الجمال بينما سال لعاب الرجال، أما الشبان الصغار فقد شعلل الغرام في أفئدتهم الصغيرة المتفتحة حديثا.
كان اسمها لوزة.
– هل رأيت لوزة؟ فاتك نصف عمرك إن لم تكن رأيتها!
وحيكت عنها الأساطير! وقالوا إنها ذهبت إلى سوريا وعادت، وركبت الطائرة مرتين، فشط بنا الخيال وركبنا الجو معها.
وتفسير ذلك أنها كانت تخدم في القاهرة بعضَ ضباط الجيش الغير متزوجين، وعندما انتقلوا للعمل في الإقليم الشمالي الذي كان اسمه سوريا أخذوها معهم لتخدمهم هناك.
وتأسفنا على الجمال الخادم!
وأكدنا لأنفسنا: “كيف يطيقون هجرها؟ كيف يتركونها ويذهبون دونها؟ لا بد من أن يأخذوها معهم!”
ولا ندري السر في كونهم تركوها بعد ذلك لتأتي إلى هنا، لكننا علمنا أنها تعيش الآن في منزل زيزو الأسمر، الكواء.
عجيبة؟! الأعجب سيأتي!
فأخيرًا دوت القنبلة. أكثر حدة وشراسة من القنابل التي أصابت مدن القناة: تم عقد قران لوزة على زيزو! وبعد يومين اختفت البنت الحلوة من شوارع البلدة فلم يعد يراها أحد.
وظل الشبان يحومون في الطرقات علهم يصادفونها، ويتجولون بالقرب من بيت زيزو عسى تهب عليهم نسائمها. أين اختفت لوزة؟
لكنهم علموا أن أمها أخذتها وعادت بها إلى القاهرة.
وتأكدت أن أحداثا كونية هائلة تقع دون أن يدرك عقلي الصغير لها تفسيرًا.
ومرّ عام على هذه الواقعة ولا أحد ينسى لوزة حتى فوجئت بها عندنا في البيت، في ليلة صيفية. هي والله في بيتنا، في الصالة!
ها هو عطرها الذي ميزها في تلك اللحظة يطاردني بعد كل هذه السنين.
وشهقت أمي: حرام!
وشخط فيها أبي: “اعملي لنا الشاي!”
وجيئ بـ زيزو الأسمر مصحوبًا بأخيه الكبير الحاج مرسال، وكانت أم لوزة متربعة على شلتة بحجم عجيزتها فلم تنهض عندما نهض الجميع لمصافحة المأذون الذي قال إن أبغض الحلال عند الله الطلاق، محاولا إثناء الطرفين عما ينتويان فعله.
وأذكر أن زيزو احتبس صوته مرات فلم تخرج من فمه كلمة الطلاق إلا بالعافية وقد أجهش بالبكاء، بينما نكست هي وجهها السماوي مخفية دموعها بمنديل قماش مطرز. وبعد أن خرج زيزو وأخوه منكسي الرأس لمحت أم لوزة تقبل ظاهر يدها وتتمتم: “أحمدك يا رب”. ويهيأ إليَّ أن بوادر فرحة سريَّة رفرفت على شفتي الفتاة وتقاطيع وجهها الجميل بعد لحظات.
ولم أفهم شيئًا في ذلك الزمن. لكني كنت فخورًا بكون لوزة في بيتنا نحن دون سوانا من الناس. يمكنني رؤيتها رأي العين. تمنيت لو جاء أصدقائي ومعارفي ولمسوا ما أنا فيه من الهناء، لكني إن حاولت محادثتها هي بكلمات انحبس صوتي.
وراح الوجه السماوي يطاردني وأنا ذاهب لأشتري المكرونة إكرامًا للضيفتين بينما لم تنتظر أمي أن تضع الدجاجة الراقدة بيضتها، بل أمسكتها وذبحتها وأخرجت مجموعة من البيض الأصفر الصغير من داخلها.
اللوحة
امرأتان في الشرفة لـ فينسنت فان غوخ