تحبُّ النوم… اليقظة المغمى عليها كحالك هذا.النوم سيِّد وسلطان.وأنت، سيِّدُ نفسك وسلطانها.حيٌّ بلا تكاليف حياة.حيّ في موت مجازي مُنْتقىً بعنايةِ ملاك، لتمرين الجسد على زيارة اللا مرئيّ بهيئة اللائق باللائق.
النائم لا يكبر في النوم، ولا يخاف ولا يسمع أنباء تعصر العلقم في القلب.لكنك تسأل نفسك قبل النوم:ماذا فعلتُ اليوم؟ وتنوس بين أَلم النقد ونقد الألم… وتدريجياً تصفو وتغفو في حضنك الذي يلمّك من أقاصي الأرض، ويضُمُّك كأنك أمُّك.النوم بهجة النسيان العليا.وإذا حلمت، فلأنَّ الذاكرة تذكَّرتْ ما نَسيتْ من الغامض.تنام، وتعلم أنك تنام فيفرحك النوم وتمدح الكسل، صديق النوم والمواهب.ولا يهمُّك أن يطيل النومُ عمرك، بل يهمك أن يطيل العمرُ نومَك.النوم ضيافة الأبيض على الحواس، وارتيادُ الأزرق أَرضَ المُطْلَقِ بلا مرشدين وكهنة وصوفيين.والنائمون سواسية على الرغم من اختلاف السُرُر والسرائر.لكن اليقظة هي التي تفرِّق بين النائمين، وتجرهم إلى حروبِ ما قبل النوم وبعدَه.لو نام العالَمُ أكثرَ لصارتِ الفوارقُ أقلَّ.
وأَنت نائم تعلم أنك نائم فتتوغَّل في النوم، وتنتشي بسحابة دافئة تحتضنك وتحتضنها، طائرين بلا موعد وبلا مقصد غير هذا العناق المجانيِّ.جناحُكَ الأيسر لك وحدك، والأيمن أيضاً.يوقظكَ شخيركَ ليذكّركَ بما أنت فيه من لهفة إلى مزيد من الخفّة:أنت نائم.قد تنسى أين أنت ومن أين أتيت ومتى وصلت، فتشعل ضوء المصباح وتعلم أنك في أرض النوم، فتشكر خفّة الريش المباركة.وتغفو غير آبه بشعاع يتلصّص عليك من النافذة، وغير آبه بصخب الشارع.فالنوم، معافىً، لا يُصغي ولا يبْصر.لكنك ترى النوم وتسمعه وتشم روائحه وتذوق نعماه وتلمسه عضواً عضواً، وتنام وتعلم أنك نائم، وأنك موغل في سفر بلا طرق وخرائط وعناوين، في نزهة منزّهة عن أية غاية.تغادر العالم، عالم الأشياء والكلمات وما يفرق بينها، ويجمع في ساعات الليل، كأن الليل سرير.وتعجب لمن جعلوا الليل نهاراً والنهار ليلاً. النوم امتلاء الجسد بالطُمأنينة والسّكيْنة،وخلوّ الذهن من الرّعب والضجر .لا ضجر في النوم ولا خطر .هو حاجة الصحو إلى غيبوبة قريبة من تشبيه الشيء بشبيهه الغائب، وتنبيه المخيلة إلى آثار الوقت السلبية فيها، إن لم نعطل الساعة.النوم يوقف الوقت عن العمل.ثماني ساعات، ثماني ساعات نائمة لا أقلَّ. فإذا نقصت لسبب ما، كأن يوقظها رنين الهاتف أو جرس الباب، كان صحوكَ دائخاً ومشوباً بالكمد.
كأنَّ الأرق الذي لم يُصبكَ في الليل قد أمسك بتلابيب النهار كلِّه.كم كنتَ تمقت الأرق!لأنه يستعصي على المحاورة، عنيد شديد المراوغة سعيد بقدرته على المناورة.كلما جاملتهُ ازداد ثرثرة واستبسالاً على وهن الجسد العاجز عن شرف المقاومة أو راحة الاستسلام، واستعان عليه، ليذلَّه، بتسليط الوعي على الحواس.
الأرق ضيفٌ ثقيل يحلّ عليك بلا موعد.يحرمك من النوم ومن اليقظة معاً.الأرق طنين بعوضة، وصراع خفي على لحاف ومخدّة وركبتين .وأنت الذي تُقتلعُ عنوةً من جسدك، وتُعاد إلى جسدك الأول مخدّراً مسهداً لا تجد وصفاً لعذاب الخدر إذا ما طال وصحا.والنوم، إذا تدخّل الأرق لا يُفاوَض، كالوحي لا يفاوض، وكأيّ عضو يأبى الاستجابة لا يُفاوَض. تحاول أن تنتشل جسدك العالق بين النُّعاس واليقظة، فتضغط على زر الضوء بصعوبة.وبصعوبة تفتح كتاباً، وبصعوبة تقرأ وبسهولة تنسى ما قرأت.تحاول أن تحلم يقِظاً، أن تحلم بأنك نائم، فتنام وتعلم أنك نائم… ولا تحلم كثيراً.منذ متى لا تحلم كثيراً؟منذ وضعت قلماً ودفتراً على طرف النوم لتدوّن أطراف كلامٍ خفيف الوزن خفيف اللحن، يهبط عليك كحبيبات الندى، لا هو شعر ولا هو نثر، لا أرضيّ ولا سماويّ.لكنه يطير بك وتطير به، فتصفو وتخفّ وتشفّ، وتفنى في معنى لا تفهمه.تستيقظ في الصباح مرحاً فرحاً كأنك تتمّم ما هبط من نداء لا تتذكر منه إلا الرعشة التي تمدُّك بطاقة إنشاد، فتدرك أن يومك هو امتداد حلمك…فاعرف-قلتَ لنفسك-كيف تحلم.ومنذ نصبت القلم والدفتر شركاً لاصطياد الحلم جفل الحلم من التدوين، ربما لأنه لا يرغب في أن يُكتب أو يُطلب عند الحاجة، فلا تنتظرهُ كما تنتظر الوحي.سيأتي هو السيّد كما يأتي الحب بلا استئذان.سيأتي هو السيّد حين لا تنتظره، شفافاً لتعرف أنك نائم لا ميت.وقد يأخذ بيدك كي تمشي معه في جوله تتفقّد فيها آثار نفسك المنسية على أرض بعيدة.تقول:أنا هو ، وهو الظل…وتركض في ذكراك.وحين يراك الحلم على وشك الانتباه إلى خارطة الذاكرة يعيرك أحد جناحيه، ويقلع بك إلى بساتين برتقال معلّقة فوق الغيوم، وإلى طيور لا تعرفها، لكنها تخاطبك بمنطقها الذي تفهمه دون مكابدة… فتولد من ذاتك ذات أخرى أعلى، وتحتضن الكون ويحتضنك الكون، فيصير داخلك خارجك، وخارجك داخلك.وتقول:أنا هو أنا!تصحو في الصباح مبلّلاً بندى يرشح من عناق الليل والنهار، وتسير إلى الغد الذي فتحه لك الحلم بكلمات مبهمة، تأخذك إلى أعلى وأبعد من هذا القاع.فاذهب معها…مع الكلمات، والعب بها لعبة البراءة والقصد.واكتب بها ما فاتك من أسماء، وتوقا إلى طيران يجعل الأرض أكثر استدارة، تفّاحةً تسقط إلى فوق، وتدور على نفسها ويدور الزمان معها،فليس كل ما كان سيكون، وليس كل ما سيكون كان.فلا تثريب عليك إذا حدث خلل طاريء في هبوط الحلم عليك.فهو مثلي ومثلك يصاب بالحمّى،فيهذي بكلمات تحتكّ بكلمات لا تنتج عبارة،ويتواصل اللامعنى مع ارتفاع الحرارة.ويأخذك الكابوس إلى مرتفع يطلّ على مرتفع بينهما هاوية لا يبلغ البصر قرارها.تحاول القفز من المرتفع إلى المرتفع فتسقط في الهاوية وتصحو على صراخك المبلّل بالعرق.ويأخذك الكابوس إلى احتفال رسمي.وحين تصعد إلى المنصة تجد نفسك حافياً عارياً دون أن تتمكن من النزول عن المنصة.ويأخذك الكابوس إلى امتحان في قواعد اللغة الصينية.لكنه لم يأخذك مرة واحدة إلى موت أكيد وإلى زواج طويل.لكنك تحب النوم.وتحَيّي هيبنوس، إله النوم الإغريقي، وتنسى أنه شقيق الموت.تحبُّ النوم…اليقظة المغمى عليها كحالك هذا، دون أن تعلم أن نومك هذا قد زاد عن حدّه.ودون أن تعلم، هذه المرة، أنك نائم!
طال نومكَ، فانهض من حُلمكَ، وأروِ لنا ما رأيت/
هل رأيت ملائكةً يعزفون على الناي ألحان موزارت/
ولا يسكرون من الخمر؟/
هل دللوك وهل أطعموك من العنب السكّريّ؟/
وهل أخذوك إلى نزهة في ضواحي البساتين؟/
هل كنت تشبههم عندما أنزلوك إلى النهر، طفلاً، كما كنت أيام رفقتهم؟/
من تغير منكم هناك، ومن قال:يا صاحبي في الطفولة؟/
هل يشبه التين تين سياجك؟/
هل يشبه الحلم، حلمك، أشياء بيضاء، خضراء، زرقاء تعرفها؟/
طال نومك، فانهض من حلمك، واروِ لنا ما رأيت؟
((هل الموت نومٌ طويلٌ، أم النوم موت قصير؟))
تأخرت في النوم …فانهض!
مقطع من نص في حَضرَة الغيَابْ للشاعر محمود درويش
الصادر عن دار رياض الريِّس في
أيلول 2006
قُل للغيابِ نَقصتَني،
وأنا أتيتُ لأكمِلَكْ
((و غائبانِ أنا وأنتَ، وحاضرانِ أناوَأنتَ، وغائبانْ / ))