لم يعد لديّ ما أفعله – غسان زقطان

أشخاص:

لم يعد لدي ما أفعله في هذه البلدة

لم يعد لدي ما أقوله لأهلها

أنا النجار الوحيد على مدى سبع قرى نبتت على ضفاف بحيرة مثل سبعة حقول من الفطر.

صنعت ألعابا كثيرة لأولادهم وبناتهم، ومحاريث لحقولهم الفقيرة، ورفوفا متينة لمطابخ النساء.

صنعت نايات من القصب الذي ينمو على اطراف السبخات الموحلة، وأعمدة لسقوف بيوتهم من جذوع الأشجار التي تقتلعها عواصف ديسمبر، وشبابيك لنوافذهم المنخفضة، وأسيجة لأحواشهم، ومقابض ملساء لفؤوس حطابيهم، وبروايز للصور القليلة الباهتة التي التقطها مصور جوال انقطعت أخباره…

ما الذي لم افعله لهم!

ها أنا أجلس منذ وصلت رياح الخريف أمام دكّاني في الساحة

أنصت لصياح الحطابين الذي لا يهدأ في الحرش

أفكّر بتنهد نساء، نسيت أسمائهن، ولكنني أتذكر أصواتهن وأميز بينها، اللواتي تمددن في عتمة الدكان قبل أن يواصلن صعودهن المبهج الى الحرش لإطعام أزواجهن.

مرّ “النور” بدناديشهم في طريقهم الى الموانىء البعيدة ولم أذهب معهم

مر تاجر الحرير وصبيانه الثلاثة ولم أذهب معه

مرّ بائع التفاح وبغلته الكهلة ولم أذهب معه

مرّت طيور “أبو سعد” ولم أتبعها

مرّ الجنود في طريقهم الى “الحرب الجديدة” ولم اتبعهم

مرّ جامعو الضرائب وجباة الحقول والصيد وساقوا الدجاج والقطعان والأولاد اليافعين الى “الحرب الجديدة” ولم أذهب معهم

مرّ الحجاج الذاهبون الى “مكة” ولم أذهب معهم.

منذ وصلت رياح الخريف وتساقطت أوراق الحور أجلس أمام دكاني في هذه الساحة المتربة أعد الأطفال وأناديهم بأسماء أمهاتهم.

أنصت لجلبة قطافي الزيتون في السفوح وهمهمة الرجال العائدين من الجبال في الليل بغلال قليلة

وأصغي لنحنحات المتوجهين الى صلاة الفجر وأصواتهم التي خشّنها النوم وشققتها الأحلام اليابسة.

مرّ الحصادون في طريقهم الى حقول الآخرين في سهول الشمال ولم أذهب معهم

مر الصيادون في طريقهم الى مواطن الغزلان ولم أذهب معهم

مر البناؤون في طريقهم الى تلال الحجارين ولم أتبعهم

مرت جنازة البنت التي قتلها شقيقها ولم أمش خلفها.

منذ أن وصل ناجون من حرائق الغابات البعيدة وناموا في الساحة، قبل أن يسلّموا، بوجوههم التي غطاها السخام، وأغطيتهم التي تفوح منها رائحة اعشاب محروقة،

وقلوبهم المفطورة أمام بوابات البيوت المغلقة، الأبواب التي صنعتها.

سمعت بكاء امرأة منهم، ألناجين، اتكأت على الجدار تحت نافذتي وحرمتني من النوم وهي تنهنه طوال الليل.

منذ تلك الليلة لم أنم، أجلس أمام دكاني اسمع البكاء ولا أرى المرأة.

مرّ قاتل شقيقته ومغويها تتبعهما شقيقتها الخرساء التي رأت كل شيء ولم أسألها.

عاد النور من الموانىء وقد دفنوا امرأة وصبيان وعرضوا في الساحة اساور وخرزا ملونا وقماشا زاهيا للعرائس

عادت طيور أبو سعد من الجزر البعيدة تتبعها صغارها

عاد الحجاج من “مكة” بلا خطايا، وخشخشت في خروجهم المسابح والخرز الملون ولمع السجاد على سروج خيولهم

عاد الجنود من الحرب الجديدة دون غنائم

عاد جامعو الضرائب والجباة دون الفتية والقطعان وكسروا ابواب البيوت وجمعوا البيض قبل ان يفقس

عاد الحصادون من سهول الشمال الخصبة بحكايات وأغان لم أصدق معظمها

مثل أن النساء، هناك، يتحسسن أجساد الفتية تحت الشمس ويضعن تعاويذ تسحبهم، الفتية، في الليل مسرنمين الى أسرتهن.

أو أن الشعير، هناك، يغطي أعناق الخيل، ومبالغات كثيرة على هذا النحو.

المرأة، من الناجين، وقلبها المفطور واصلا نسج بساط من الخذلان العميق على الأسيجة، ودمى الأطفال، ومقابض الفؤوس، والنايات، ورفوف المطابخ وبراويز الصور الباهتة.

بأصابع مجرحة غطاها السخام كان البساط يزحف في الحارات الضيقة ويصل البيوت المنفردة على اطراف الطريق الوحيد الى الحرش، ويدق الأبواب المغلقة والشبابيك الموصدة وأسيجة الأحواش.

الأبواب والشبابيك والأسيجة التي صنعتها بيدي هاتين.

(لم يعد لديّ ما افعله/ من مجموعة جديدة ستصدر عن “الأهلية” قريبا)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى