المخرج الفرنسي جان لوك جودار، تميزت أفلامه بحسٍ فلسفي وجمالي، حيث امتزجت الروح الفلسفية المحلقة في ثنايا المشهدية بالبعد الجمالي، وتداخلت الحياة الجمالية المنتشرة في أبعاد الصورة واللقطات مع اللمحة والرمزية الفلسفية، لا يمكننا القول أن جودار يمكن أن يوضع بسهولة مع كثيرٍ من المخرجين الآخرين، فهو بنفسه قال أنه لا يصنع أفلام سينما، أو سينما مثل الآخرين، إنه يريدُ التعبير عن أفكاره ورؤيته في صورةٍ سينمائية، بمعنى أنه يُحوِّلُ الجمالي البحت والفلسفي المجرد إلى صورة تعبر عن ذلك.
الفترة التي ظهر فيها جودار كانت تمثل روح الفلسفة الفرنسية المرتبطة بأفكار ما بعد الحداثة والبنيوية وتفكيكية دريدا، ولغوية بارت، وحفريات فوكو، وانثربولوجية شتراوس، هذه المساحات الفلسفية البنيوية الفرنسية كانت مناخا مواتيا لسينمائية جودار، لذا التناص والتأثر بينه وبينهم أمر مؤكد.
وقد تكون العلاقة بينهم علاقة شبحية، بمعنى أنها علاقة غير مباشرة، ويحاول المقال هنا الاقتراب من علاقة فيلسوفان في شكل تشريحي أولي، وهما جاك دريدا ورولان بارت، والصورة عن جان لوك جودار. بالاضافة الي تحليل فلسفي جمالي لاحد افلامه وهو فيلم الكشف.
دريدا يفكك صورة جودار
بين المكتوب والمنطوق في السينما دريدا يفكك صورة جودار، الكتابة عند دريدا هي روح التفكيك، فينتقل دريدا بين الميتاقزيقيا والكتابة السيئة والمنطوق المحسوس، والضمير، ومحاولات الذات للتكامل، واللوغوس المعرفي، بين حروفه توجد انطلاقات متعددة لتحليل النصوص وتفكيكه، والسينما تنبعث من سياق حروفه، وسياق ضرباته التفكيكيه الساحرة، والبلاغة المفرطة، والسياق النصي المنغزل في ذاته، فليس هناك سياق في ذاته حول النص، فالشاعرية الدريدية والصوفية والبعد الحسي لالتماس روح النص، هي غاية لا تتوقف عن الندب والانتحاب، والدعوة نحو التحليل المستمر بخفة بلاغية وتناصات متعددة وانفتاحات لا تقف عن حد واحد او حد معين، فالانفتاح الواحد يأتي ورائه انفتاح اخر، والسياق في النص يشتق منه سياق جديد، وهكذا.
الدال والمدلول لدي جواد، هل تحيز للعلاقة الشرعية بينهم، حيث يكون هناك لوغوس ينفر من الذات، فالصورة كخطاب سينمائي هو ذاتي وبها اصوات ويمس الانسان من الداخل، لذا يكون هنا ميتافيزيقيا ، ويكون الصوت المنطوق وفقا لدريدا هو المسيطر، والعلاقة المعتادة بين الدال والمدلول، حيث هناك حد للحقيقة، وهناك مقولات متفق عليها يمكن الانطلاق منها، وحيث ان السينما كصورة تغازل الوجدان والمشاعر والضمير، يكون هناك حد متفق عليه، ولكن هناك من تجاوز ذلك رغم ان هذا منطق السينما، حيث يفرق دريدا بين هذا العلاقة بين الدال والمدلول وحد الحقيقة وبين الكتابة التي تتجاوز الللوغوس، لذا جودار مثلا، يتعمد بين ثنايا الصورة الي المكتوب، وليس هنا المقصود النص السردي والسيناريو، وانما ما يحتوي في مضمون الصورة لدي جودار، فقد اعتمد جودار علي صفات الصورة ودوالها ومدولاوتها التي عبر عن الحقيقة في التعبير وكأداة، وانما الصورة الخالصة في السينما التي تحتوي علي معني ذو ابعاد جمالية هو بعيد عن هذا التوصيف الدريدي، انه يتضمن في هذه العلاقة المعتادة، انه يمثل شئ يحمل صفة الثبات في شكل كتابة غير منطوقة، وذلك يكون عند المخرجين الكبار، فمثلا عن جودار ليس هناك لقطة ليس لا تعبر عن المعني، وهذه اللحظة المتكررة في اللقطات وتعبيرها عن المعني هو دلالة علي المكتوب الثابت المتكرر، اما عدم وجود في اللقطات يعبر عن التأثير اللوغوسي للصورة.
التأثير اللوغوسي للصورة، يبتعد عن مغازلة العقل بشكل حقيقي، وصورة تحتوي لقطات تبتعد عن المعني الذي اصبح مكتوبات في العرف والمعتاد للصورة المميزة والتي تحتوي ابعاد لمفهوم الكتابة كما يشير دريدا، هذا التأثير يتضمن مغازلة مستمرة للوجودان، لذا هناك منطوق بشكل دائم، ليس هناك صمت بشكل كبير، او صورة بطيئة، او مونتاجا ذهنيا او جدليا، او مونتاجا، فمثلا يكون ابتعاد عن سينما بيلاتار المجري اوا نطونيوني الايطالي. المونتاج يكون جاذبا لسرد حكائي بامتياز، ورغم انه مكتوب الا انه ضد التوجه الدريدي لتجاوز الميتافزيقيا واللوغوس المعتاد لكل شئ الذي يحكم ويسعي للتفاعل مع المشاهد بأريحية للقيم ومفاهيم واشياء وتشكيلات وخطابات لا تدفعه نحو جماليات الهاوية التي يقبع في داخلها المنهج الدريدي للكتابة المتجاوزة لما لوغوسي.
جودار في فيلم اللهثة وهي ابسط افلامه يشير نحو الهاوية الجمالية الدريدي ذات المعني المكتوب المتكرر، التي تتفاعل مع مشاهد لديه حمل نحو تجاوز ما هو سائد لديه، فيكون هناك تكسير لديه، واشادة نحو التغيير واللذة الجمالية، والمعتادة للتذوق للصورة بشكل مختلف، فهناك الشاب الذي يريد البحث عن معني وجودي، هذا التكرار لهذا المعني يحدث تجاوز للمعتاد عن الشاب الباحث عن هويته، فهناك جدلية لخلخلة اليقين حول معني الوجودية والسائد منه، ليعبر بانطلاقية نحو الوجودية التي تتأمل نفسها وتبحث عن مساحات اخري لتناول خطاب متعدد وليس اعتيادي، وخطاب منفتح ومتغير وليس منغلق، ومعني تكراري دريدي للمكتوب، وليس الحالة اللوغوسية والمستقرة لحد الحقيقة ومقولات الوجودية المعتادة، فخطاب جودار هنا كان مختلفا عن وجودية سارتر او كامو، انها وجودية تكتشف بشكل متجدد لدي المشاهد، وليس محصورة بحد او الدال والمدلول بها ليس في علاقة مستقرة.
استطاع جودار الاستحواذ علي مساحة لنفسه في السينما تجاوزت سينمائيين اخريين، مساحة ذات ابعاد تفكيكية متعددة، فالمعني في الصورة لديه والصورة نفسها، ذات بصمة اصلية، ويمكن الانطلاق منها لاستراتيجيات التفكيك الدريدية نحو خطابات سينمائية اخري، هذه التوجه الجوداري مثير للاهتمام بامتياز، فالوجودية في الموجه اليابانية مثلا لدي كوجي واكاماتسو في فيلمه Go Go,Second Time Virgin، كانت الوجودية محددة ولكن بنسب اقل من التحديد الكامل، فهي تقترب من اللوغوس المحدد لقيم الوجودية، فهناك مساحة واضحة، والصورة رغم انها تعبر بشكل دائم عن الوجودية، الا ان الوضوح وسرعة الحدث وعناصر اخري واكاماتسو اخرجته من المنحي الدريدي، واصبح جودار معيارا للوجودية مختلف عنه ويسعي لتفكيك واكاماتسو، فالقول الجوداري ينحاز نحو المكتوب الدريدي، ويتناص مع وجودية واكاماتسو نحو رؤية جديدة للوجودية واحدة اسيوية شرقية شاعريتها وحزنها الدفين جعله محرك كبير يتعلق بفعل الانتحار الياباني المشهور والبطلة انتحرت ايضا وهو خطاب نسوي حزين شاعري، عكس جودار الذي ابتعد عن هذه المساحات القيمية، ولكن تناص الخطاب الجوداري واكاماتسو يصنع حالة جديدة من الوجودية.
نصية بارت وجودار
في سياق مفهوم بارت لفكرته حول موت المؤلف، وانفتاح النص والعمل الفني علي المتلقي والتأويلات المتعددة، تأتي فكرة التعددية والاختلاف، فلا يوجد حدث وظاهرة ولا كلمة ولا فكرة إلا ومعناها متعدد، من هنا لا يوجد معني حقيقي للشئ الواحد، هناك تعددية، وجهات للنظر، تجاوبات مع الاحداث والوقائع، فالظاهرة الواحدة لها اقنعة عديدة، وخلف كل قناع يكمن قناع أخر، وهناك شفرات وراء شفرات في العمل الادبي، لدرجة انتفاء المعني، فالمعني يتولد دائما، ونجد لدي جودار ان هناك معني متولد، وليس هناك معني واحد، لذا تأويلية بارت تكون حاضرة بامتياز لدي فيلمية جودار، ولعل ظروف ثورة الطلاب في مايو 1968، حاضرة لدي الفلاسفة الفرنسيين، وايضا السينمائيين، فهذا الحضور البارتي موجود لدي معظم جيل الموجة الجديدة، لدي اريك رومير، فافلامه ذات ابعاد متعددة لتحليل العلاقات بين الرجل والمرأة، فهناك حالة من السيمائية والتأويلة المتعددة دائما في افلامه، خاصة رباعية حكايات الفصول، وايضا المخرج لويس مال، وافلامه كانت حول العلاقات، وافلام فرانسو ترفو، وافلام موريس بيالا.
جودار كان ضد سلطة المعني في افلامه، وكانت ضد السلطة، فكانت شارك في مظاهرات مايو، فكان تأثير بارت عليه او تناصه مع افكار بارت حول تعدد المعني موجوده في افلامه، ففي فيلمه اللهثة او اخر نفس، هناك استعراض لحياة شاب يبحث عن معني حياته، فكان الفيلم عن تحديد ما معني، دون الوصول الي معني واحد، بجانب ان الفيلم رغم وجود حدث وقصة الا انه لم يشير الي معني واحد وراء هذه القصة، وكانت لديه افلام ذات صبغة فلسفية معقدة مثل فيلم نهاية الاسبوع وفيلم الكشف وموسيقانا وفيلم وداعا للغة، كل هذه الافلام، تتعدد فيها المعني بكشل مكثف ومتعدد، وهناك شفرات وراء شفرات في المعني، فكان جودار يقصد الي تعدد الحقيقة، واستحضار المجاز والاستعارة، فهناك دعوة دائما الي التحرك وراء المجاز.
قراءة لفيلم الكشف
فيلم الكشف المعنون بـ Détective (1985) لجودار بعيدا عن القصة الفيلم التي تدور حول مساعدة في التحقيق مقدمة لشرطي تم استبعاده لفترة من عمله وذلك من ابن اخيه للتحقيق في جريمة قتل في فندق وتداخل اطراف اخري وشخصيات وهي للوهلة القصة واضحة، وليس المهم القصة او الافكار الفلسفية في التحليل الان ولكن ما استخدمه جودار من تعقيدات تقنية في التصوير والزمن والمونتاج والاخراج، اشبه بحالة صعبة التفسير والتفكيك، فأولاً، هناك ثقل في اللقطة ثقل زمني ونفسي وبصري، هذا الثقل يتجدد مع كل لقطة وينتقل ليعبر عن ما تحتويه من رموز فلسفية وبعد قصصي واحالات وجودية كما هي عادة جودار، قد يكون جودار في هذا الفيلم اتجه للقطلة الثقيلة التي تزامنت مع المونتاج الجاف الذي هي سمة في افلامه، وهو القطع مرة واحدة دون وجود علاقة مؤسسة بين اللقطة او اللقطة الاخري.
وتشابك اللقطة الثقيلة والمونتاج الجاف أحدث نوعا من الصرخة البصرية والعمق في الرؤية، كأن الامر اشبه بكثافة جمالية فلسفية محملة بأبعاد تتجاوز القصة بمراحل حيث يأتي التشتيت والتشويش الناتج عن هذا الاندماج بين اللقطة الثقيلة والمونتاج الجاف، وهذا التشويش ليس تشويشا في القصة او السرد او حتي اللقطة بشكل مباشر، ولكنه تشويش انعاكسي معقد للغاية يشعر به المشاهد كلما حاول التعمق في اللقطة، هذه التشويش الانعاكسي ينتج عنه شاعرية جمالية هادئة ليست منفعلة، لنتيجة لثقل اللقطة، وهي شاعرية جودار بشكل عام، فليس هناك انفعال او الوصول الي مراحل نفسية مضطربة تغازل المعاني بشكل مباشر والحواس، ولكنها شاعرية عميقة بها تعقيدات حول المعاني داخل النفس البشرية، وهي ميزة مستمرة في شاعرية جودار، الشاعرية الهادئة المعقدة.
زوايا التصوير رغم انها بسيطة للنظرة الاولي، الا انها تتعقد مع التركيز في اللقطة، فهناك عدة تقنيات استخدمها جودار حول تداخل المشاهد في مشهد واحد، فهناك ثنائية المشهد، حيث يتداخل مشهدين في مشهد واحد، وهذا التصوير مركب من حيث الزوايا له ابعاد هندسية، حيث حركة الكاميرا تجمع بين حركتين منفصلتين في نفس الكادر، وايضا ثلاثية المشاهد حيث يكون حركة لثلاثة مشاهد يقوم جودار بالجمع بينهم في مشهد ولقطة واحدة، ورغم صعوبة تفسير قدرة جودار علي هذه التجميعات لعدة مشاهد، الا ان هناك حالة مسرحية واضحة ولكنها مسرحة جودارية مختلفة عن تداخل المسرح في السينما كما هو يحدث بشكل معتاد لدي بعض المخرجين وفي الافلام، وهي مسرحة سينمائية بامتياز، مسرحة تخرج من الصورة، وليس تأتي متكلفة علي الصورة، وتفرض نفسها كبعد مسرحي له خصوصيته تفوق الصورة
وتأتي الجماليات الواضحة التي تجمع الشخصيات والاشياء داخل الفيلم من حيث ملامح الوجه، وتداخل الوجوه مع بعض، وايضا التركيز علي تفاصيل معينة، مثل حركة اليد، وحركة الارجل، وايضا التركيز علي اخد لقطات من الجنب، او من اسفل، او انخفاض زاوية التصوير، وكانت هناك لحظات كثيرة تكون فيها زوايا التصوير من الاسفل، او هناك تصوير تحت ارتفاع 100 سنتميتر، وهو ارهاق بصري، حيث يحتاج المشاهد الي النظر الي مستوي منخفض عن مشاهداته في الحياة كما هو معتاد، وهذه الانخفاض يحمل ابعاد فلسفية تتعلق بصعوبة وثقل الحدث، وارهاق الشخصيات في البحث عن الجريمة، وايضا يشير الي جماليات مرهقة في اللقطة.
يمكن الاشار هنا الي ان الحدث يحمل شئ عبثيا فهناك بحثا عن تورط اطراف في جريمة قتل، ولكن رغم ذلك الشخصيات قد تبحث عن داخلها وحياته الخاصة، فهناك تداخل بين احداث الجريمة كبعد وجودي، وحياة وعوالم الشخصية كبعد ذاتي، فيتداخل البعد الذاتي في الوجود، وهي سمة لفلسفة الوجودية لدي جودار التي يلاحظ انه لم يتخلص منها منذ افلامه اللهثة وتعيش حياتها، فهناك امتداد للذات في العالم المرسوم في الفيلم.