السعيد عبد الغني يكتب:
يخاف الجاهل من التفكير فى معتقداته الوراثية ومن ما هو مختلف عنه، سواء كان مختلفا تماما أم قريبا من معتقداته ومن الأيدلوجيات التى توقر النفس المتمردة ومن الأسئلة الطبيعية الكامنة فى كل إنسان. وهذا الخوف سببه طبيعي جدا لأن القلق الوجودى والميتافيزيقى يفرد قلقا على الإنسان فى كل جوانبه الإنسانية وفى دينه وفى ثقافته ووعيه، فلا توجد لديهم القدرة على الحياة فى قلق، والغريب أن القلق يشكل الهوية بشكل كبير وينتج المعرفة بشتى ألوانها، فالجميع يفضل التخصص فى أى درب علمى كالهندسة وغيرها والإبتعاد عن الفلسفة ويتهمونها أنها تفسد العقل وتذهب الدين، لا كبح للذات فى القلق بل استمرار لغاياته فى الوجود. فالحياة فى القلق ممتعة، فهى تكون فى البداية مخيفة ولكنها فى النهاية ممتعة فالأسئلة ليست مفيدة فقط للعقل بل مفيدة أيضا للروح والحياة النفسية والتأملية والخيالية للإنسان، والحياة فى الذهن لها أسسها ولها معتنقيها وهم – الأفكار- من يمثلون النص المقدس للمخيلة حيث يقول الجاهل واقعي هو كتابى المقدس ولا أريد أن أفكر ولا أن أقلق لأنه يخاف من المعرفة أكثر مما يخاف من الجهل فالخوف إما أن يؤدى إلى السكون والعجز، وإما أن يؤدى إلى البحث.
ومن المتعارف عليه أن الخوف يؤدى إلى اليقين ولكنه يقين زائف جدا، يبدأ الإنسان فى الشك ويجب علينا أن نكون على وعي بشكنا وتأويلاته، وأن نطلع على شكوك غيرنا، لكى ينشط شكنا أكثر. فالشك يفتعل حركة داخلية ويحرك قنينة الذات، ونحن بحاجة إلى هذه الحركة ومدينين لها بالكثير، فحاجتنا للحركة النفسية والفلسفية أكبر من حاجتنا للسكون والركود النفسى والفلسفى، فلا نمو فكرى إلا بالشك والسؤال، لذلك احرص دائما على أن تسأل فى إجابتك، ولا تنهى السؤال أبدا، ويجب أن تسأل فى ما تؤمن به وما لا تؤمن به، وابحث عن الشك أكثر من بحثك عن اليقين، فالشك إدراك وجودى تلقائى بدون هوى معين، وليس ترفا فكريا ولكنه تحدث مع النص والعقل وجدال مع الحياة ومكوناتها وصعود لسلالم المعرفة حيث يقول ابن رشد
“الجهل يقود إلى الخوف، الخوف يقود إلى الكراهية، والكراهية تقود إلى العنف، هذه هى المعادلة”
ويقول أدموند بيرك
“ليست هناك عاطفة تسلب العقل كل قواه للعمل والتفكير مثل ما يفعل الخوف “
ويقول برتراند راسل
“الخوف هو المصدر الرئيسي للخرافة وأحد أهم مصادر القسوة. هزيمة الخوف هي بداية الحكمة”
ويقول عمرو بن كلثوم فى معلقته الشهيرة
“ألاَ لاَ يَجْهَلْنَ أَحَدٌ عَلَيْنا فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينا”
هناك نوعان من الشك لمؤسس مذهب الشك و هو الفيلسوف ديكارت، شك مذهبى وشك منهجى، الأول هو شك فى كل شىء وآخره ليس اليقين، والثانى هو الشك بحدود للوصول إلى اليقين وهذا الشك موجود فى الأديان السماوية فى بدايتها حيث يبث الدين الشك فى نفوس بيئته، ليهديهم إلى الحقيقة عن وجود إله واحد. وقد فعل ذلك النبي إبراهيم عندما شكك فى قدرة الله على إحياء الموتى حيث قال الله
“وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي”
فهاهنا نلاحظ أن الشك ابن الدين وآداة من أدواته للوصول إلى الحق، فازدياد الشك يؤدى إلى ازدياد اليقين، ورغم غلو المفسرين أن ابراهيم لم يشك كالطبري، فالآية واضحة، إنهم يحاولوا تأويل الآيات على ما تحتمله الآية.
للإنسان فطرة شكاكة، فبمجرد أن يسأل يبدأ فى خلق معتقداته بسلاسة، وهذا طبيعى فى فترة المراهقة الفكرية، وهذه المراهقة ليس لها عمر معين فى الإنسان، فهى تبدأ منذ أن يسأل الإنسان، وقد يكون السؤال متأخرا جدا، فغالبية القراء تذهب إلى قراءة ما يفيد معتقداتهم الوراثية، وما يثبتها ولا يقرءوا كتب الشك أو يذهبون لقراءة الروايات والأدب، والأهم من القراءة والكتابة هو التفكير، فلا تجعل أحدا يفكر عنك أو يفكر لك فهذا احتقار كبير لنفسك.
من مساوىء الشك المشهورة هو أنه يخلف فوضى فكرية وأنطولوجية، ويهدد عقيدة الإنسان ولكن هناك جانبان للإيمان، جانب قلبى وجانب عقلى، فربما يكون المرء مؤمنا قلبيا ولا يعرف شىء عن استخدام العقل فى العقيدة ويستخدم التفكير العاطفي، ولكن نحن لا نستطيع إجبار أحد على الشعور بشعور معين نشعره نحن فلا فكر فى القلب، يعنى لا تستطيع أن تنقل لى يقينك القلبي ولكنك تستطيع نقل يقينك الفكري لى وأنا أمرره على عقلى وعلى سجية الشك واختبره لكى أصل إلى يقينك وأقاربه، وهذا إيمان ضعيف جدا -الايمان القلبي- لأنه لا يعتمد على المنهج العلمى ولكنه موجود ويؤمن به أغلبية العامة، ممن لا يقرءون أو يفكرون، فقد تجد أحدهم متفوق فى فرع من العلوم ولكن فكره الدينى ضحل جدا، وهناك إيمان عقلانى يستند إلى البراهين العقلية التى تريح جدا العقل، وهناك الإيمان بالعقل والقلب وهذا هو المراد.
إيمان الإنسان فى عصور ما بعد الرسالات أصعب من إيمان الأنبياء أو أبناء زمنهم، فنحن لم نر أنبياء ولم نر أية معجزات فلذلك من المستحيل أن لا يخالط يقيننا شكا، غالبا أشد المتعصبين لأى فكر أو لأي دين يكونون جاهلين به، فالمعرفة تخلق تسامحا رهيبا والحياة فى مجتمعات مختلفة الأطياف الفكرية والدينية والمذهبية أيضا، فالذى يعتقد أنه يدافع ويحرس الفكرة أو الدين بالتعصب والجمود ورفض الشك فيها ونقدها هو من يدمر هذه الفكرة نفسها أو هذا الدين، فالنقد يحرر الفكرة ويجددها ويحيى فضائها وخطاها فى العقل البشرى، فذبول الفكرة وموتها إنما يأتى من الإيمان المتعصب بها فقط فلا حياة للأفكار فى أرض التعصب.
هناك لذة معينة فى الشك، لذة البحث عن جذور كل شىء فلا تجعل الفكرة يغلبها النعاس فى ذهنك، فالجاهل يخاف من لمس الأفكار ويريد دائما تذهيب كاتبها لكى يستطيع أن يمارس ارهابه، فلا ترهب أي فكرة فى رأسك ولا تخاف منها ولا تبقيها داخلك لأنها سوف تتعفن وإن لم تستطع إيصالها لاى أحد اكتبها حتى لا تموت، فيجب أن تخلق فكرة كل يوم على الأقل أو أن تهيىء لفكرة أو أن تدحض فكرة وأن تؤول كل ما تقرأه وأن تفكر فى النص أكثر من الوقت الذى تقضيه فى قراءته، فالتأويل قراءة ثانية للنص فلا يوجد تأويل صحيح وآخر خاطىء، فكلنا نشد النص لثقافتنا وشكنا، فحتى كاتب النص لا يمتلك التأويل الوحيد للنص والقصد المريح لأن النص ليس ملكا لكاتبه ولكنه ملكا للقراء، وقد يكون كاتبه ملكا له إن كان قارىء لنصه ولكن ليس له سلطوية عليه أكثر من سيطرة أي قارىء آخر، من مميزات الشك أيضا أنه يستنطق الفكرة والمناطق الخطرة بها ومواقع تدفقها وموتها وحياتها وتخاطبها مع العقل وتخاطرها مع الواقع وجرحها فى الثقافة وأنها ضمادة أفكار أخرى سابقة أو درك أسفل لوعود الحدس فلو كنت فكرة -وأنا أتمنى ذلك- لطرت إلى كل العقول الممكنة، لكى أتحرش بها ولا يهم إن آمنوا بى أو لم يؤمنوا، فقط أكون قد حركت رؤوسهم الساكنة الاسنة، فالشك يحدث جلبة رهيبة فى ماء الذهن ويمحى ظلام التفكير الخرافى، فالمتدين له نفس خيال الطفل حيث يقتاد الخرافة من كل مكان فى رأسه ولا يريد أن يعكر صفوه أي شك، فيبكى فكريا بسرعة كما يبكى الطفل.
من المتعارف عليه أن الدين وبعض أنواع الأدب تخدم الخرافة بشكل كبير، ولا نسعى لعالم ليس به خرافة ولكن لعالم لا تصدق الخرافة فيه، وأخذها على أنها لون أدبى موجود ومنتشر، فالأديان تعطى قوة كبيرة للوهم والخرافة. ومن أهم مميزات التفكير الدينى هو إتاحة القدرة للمخيلة لتصور طاقات الخيال الدينية من تصورات العالم الآخر .. إلخ ، فيبدأ الانسان فى الشك الدينى وهو أول أنواع الشك الموجودة وبعدها يبدأ فى التشكك فى جدوى الحياة وأهميتها.