نأتي من هاوية مظلمة وننتهي الى مثيلتها .. أما المسافة المضيئة بين الهاويتين فنسميها الحياة .
لحظة ان نولد تبدأ رحلة العودة . الانطلاق والعودة في آن . كل لحظة نموت .. لهذا جاهر كثيرون إن هدف هذه الحياة هو الموت .
ما أن نولد حتى تبدأ محاولاتنا في ان نخلق ونبتكر ، ان نجعل للمادة حياة .. كل لحظة نولد .. لهذا جاهر كثيرون إن هدف الحياة الدنيا هو الخلود .
في الأجسام الحية الفانية يتصارع هذان التياران :
الصاعد ، نحو التركيب ، نحو الحياة ، نحو الخلود.
الهابط ، نحو التحلل ، نحو المادة ، نحو الموت .
صوت في داخلي يصيح آمراً :
احفر .. ماذا ترى ؟
ـ بشراً وطيوراً، مياهاً وحجارة .
احفر أيضا .. ماذا ترى ؟
ـ أفكاراً .. وأحلاماً.. بروقاً .. وخيالات .
احفر أيضا .. ماذا ترى ؟
ـ لا أرى شيئاً..!! ثمة ليل عاصف غليظ كالموت ، لعله الموت .
احفر أيضا..!!
ـ آه لا أستطيع أن اعبر شبه الجدار المظلم ..!! اسمع أصواتاً ونحيباً ، اسمع حفيف أجنحة آت من الضفة الأخرى .
لاتبك .. لاتبك .!! إنها ليست من الضفة الأُخرى . كل هذه الأصوات والنحيب وحفيف الأجنحة هي قلبك .
بعيداً عن العقل ، وفي الهاوية المقدسة للقلب أتوازن مرتجفا .
إحدى قدميّ تحط على تراب حقيقي ، والأخرى تبحث عبر الظلام عن الهاوية .
أستشعر خلفي كل هذا الجوهر المكافح يصارع من خلف الظاهر ليلتحم بقلبي ، لكن الجسد يقف حائلا بيننا ليفرقنا ، والعقل يقف حائلا بيننا ليفرقنا .
ما هو واجبي ؟
واجبي أن أحطم الجسد ، أن أتدفق وألتحم باللامرئي، أن يصمت العقل لكي اسمع صياح اللامرئي .
أسير على حافة الهاوية وأرتجف.. هناك صوتان في داخلي يتهدجان .
ـ يقول العقل : لماذا نتوه بحثاً عن المستحيل ؟ يجب ان نعترف بحدود الإنسان داخل السور المقدس للحواس الخمس .
لكن صوتاً آخر بداخلي ولنسمِّه الحاسة السادسة او لنسمِّه القلب يقف معترضا ويصيح:
لا، لا / لا تعترف أبداً بحدود الإنسان ..!! عليك ان تحطم الحدود ان تنكر ما تراه عيناك ..!! ان تموت وأنت تردد لا يوجد موت .!!!
…
أنا مخلوق مؤقت وضيف ، مصنوع من طين وأحلام لكني أدرك أن في داخلي تصطخب كل قوى الكون .
أريد للحظه واحدة ، وقبل أن تحطمني هذه القوى ، أن افتح عينيّ فأراها أمامي .. هذا هو هدفي الوحيد في الحياة .
أريد أن أجد مبررا لكي استمر على قيد الحياة ، ولكي أتحمل المشهد اليومي المرعب للمرض والقبح والظلم والموت .
بدأت من نقطة مظلمة هو الرحم، وأسير نحو نقطة مظلمة أخرى هي القبر.. إحدى القوتين تقذفني من هاوية مظلمة والأخرى تسحقني، بلا انقطاع ، في هاوية مظلمة .
…
عليك أن تموت كل يوم .
وأن تولد كل يوم .
وأن ترفض ماعندك كل يوم .
فالفضيلة الكبرى ليست في أن تكون حراً .. وانما في أن تناضل من أجل الحرية .
لا تتواضع وتتساءل (( هل سننتصر ؟ هل سنهزم ؟ )) بل حارب .
وفي كل لحظة من حياتك أجعل من مغامرة العالم مغامرتك .