– “كافكا تامورا؟”
– “نعم. هذا هو اسمي”
– “اسم غريب نوعًا ما”
– “إنه اسمي”، أصر.
– “أظن أنك قرأت بعض كتابات كافكا؟”
– أومئ موافقًا، “أجل قرأت القلعة والمحاكمة والتحولات، وتلك القصة الغريبة عن آلة الإعدام”.
– “مستعمرة العقاب”، يقول أوشيما “قصة كهذه لا يكتبها إلا كافكا”.
– “إنها المفضلة لدي بين قصصه”.
– “حقًا؟”
– أجيب بإيماءة رأس.
– “ولم؟”
– أستغرق وقتًا لاستجماع أفكاري. “أظن أن ما يفعله كافكا هو شرح ميكانيكي محض لتلك الآلة المعقدة كبديل ما عن سرد واقع نعيشه نحن … أعني … “، أحتاج إلى التفكير أكثر في هذا، “أقصد أن هذه الآلة هي أداته لشرح الحياة التي نحياها. ليس عبر الحديث عن أوضاعنا نحن، بل عبر وصف تفاصيل تلك الآلة.”
– “وجهة نظر معقولة”، يقول أوشيما هذا ويضع يده على كتفي، في إيماءة طبيعية، وودودة. مضيفًا “أتصور أن هذا هو أيضًا رأي فرانز كافكا”. ويأخذ جهاز اللاسلكي ويعود ليختفي في المبنى. أبقى على الشرفة قليلا. أنهي غدائي وأشرب مياهًا معدنية، وأتأمل حركة الطيور في الحديقة، والتي هي طيور الأمس نفسها. السماء مغطاة بالغيوم، فلا يظهر منها شق أزرق واحد.
الأرجع أن أوشيما وجد تفسيري لكافكا مقنعًا، نسبيًا على الأقل، ولكنني لم أستطع التعبير عما أردت قوله حقًا، لم أقصد قول نظرية عامة عن روايات كافكا، بل كنت أتكلم عن شيء حقيقي جدًا. آلة الإعدام التي يصفها كافكا، تلك الآلة المعقدة الغامضة، والتي ليست مجرد مجاز أو كناية – إنها هنا بالفعل. أشعر بها حولي، ولكني لا أتصور أن يفهم أي شخص هذا. لا أوشيما، ولا سواه.
أعود إلى قاعة القراءة، أغوص في الأريكة وفي عالم ألف ليلة وليلة. وببطء، كما تتلاشى الصورة في فيلم سينمائي، يبدأ العالم الحقيقي في التبخر من ذهني وأصبح وحيدًا. داخل القصة. وهذا هو إحساسي المفضل.
*** *** ***
وفجأة يقول أوشيما: “بمناسبة التناقضات، عندما قابلتك أول مرة شعرت أن فيك نوعًا من التناقض، كما لو كنت تسعى إلى شيء ما، ومع هذا تهرب من كل ما أنت جدير به”.
– “وما الذي أسعى له؟”
يهز أوشيما رأسه. ويلقي نظرة سريعة على المرآة الخلفية ويقطب حاجبية ويجيب: “لا أدري، إنني فقط أقول انطباعي”.
– لا أرد.
– “من خبرتي الخاصة، عندما يسعى أحدهم للحصول على شيء ما لا يحصل عليه، في حين أنه عندما يهرب قدر الإمكان من شيء ما، فغالبًا ما يسعى هذا الشيء وراءه، هذا تعميم طبعًا”.
– “ما دمت تعمم بشأني، فماذا عن مستقبلي؟ ما دمت أسعى وأهرب في الوقت نفسه”.
– “سؤال صعب … “، يجيب أوشيما مبتسمًا. يصمت برهة ثم يردف، “إذا كان عليَّ أن قول شيء ما فهو التالي: أيًا كان ما تسعى إليه، فلن يأتي بالشكل الذي تتوقعه”.
– “هذه نبوءة متشائمة”.
– “كاسندرا”.
– “كاسندرا؟” أسأل.
– “في التراجيديا اليونانية كاسندرا هي ملكة طروادة التي تتنبأ بالأقدار. كانت كاهنة في المعبد، ومنحها الإله أبولو القدرة على التنبؤ بالأقدار، وفي المقابل، حاول إغواءها لتنام معه، لكنها رفضت، فأنزل بها لعنة. إن الآلهة اليونانية شخصيات ميثولوجية أكثر منها دينية، أقصد أن بها نفس عيوب البشر، تثور ثائرتها وتهتاج وتغار وتنسى، وكل ما يمكن أن يخطر ببالك”.
يخرج علبة من حبوب الليمون الصغيرة من التابلوه ويلقي واحدة في فمه، ويشير لي بأن آخذ واحدة فأفعل، ثم أسأله: “وما اللعنة التي أنزلها بها؟”.
– “لعنة كاسندرا؟”.
أومئ.
– “كانت أن كل ما تتنبأ به يتحقق، لكن لا أحد يصدق تنبؤاتها أبدًا. والأهم أنها كلها مشؤومة – خيانات، وحوادث، وموت، وانهيار ممالك. نبوءات من هذا القبيل. ولم يكذبها الناس فحسب، بل احتقروها أيضًا … إذا لم تكن قرأت بعد مسرحيات أيروبيديس أو أسخيلوس، فأقترح عليك أن تقرأها، لأنها تتناول الكثير من المشكلات الأساسية التي نعاني منها حتى في يومنا هذا. وخاصة في الأجزاء التي يلقيها الخورس”.
– “الخورس؟ ما هو الخورس؟”.
– “الخورس في المسرحيات اليونانية هو ما نسميه الكورس اليوم. أي المنشدون الذين كانوا يقفون في خلفية المسرح ويشرحون بصوت واحد الموقف الدائر أو المشاعر العميقة للشخصيات. وأحيانًا أيضًا يحاولون التأثير على الشخصيات. إنهم أداة ممتازة، أحيانًا أتمنى لو كان يقف ورائي كورس خاص بي أنا”.
– “هل تستطيع التنبؤ؟”.
– “لستُ محظوظًا إلى هذه الدرجة”، يجيب مبتسمًا. لحسن الحظ أو لسوئه، لا أملك هذه المقدرة. إذا بدوت أنني أتنبأ باستمرار بحدوث أمور مشؤومة، فهذا لأنني براغماتي أستخدم الاستدلال لأصل إلى العموميات، وهذا حسب ظني غالبًا ما ينتهي إلى نبوءات مؤسفة. أتعرف لماذا؟ لأن الواقع ما هو سوى تراكب للنبوءات المشؤومة التي سبق أن تحققت بالفعل. اقرأ صحيفة صادرة في أي يوم وقارن بين كم الأخبار الحسنة وتلك السيئة وستدرك ما أعنيه”.
*** *** ***
– “لقد خبرت مختلف أنواع التمييز”، يقول أوشيما، “وحدهم الذين عانوا من التمييز يعرفون جيدًا كم هو مؤذ وجارح، وكل يتألم بطريقته، ولكل ندوبه. ولهذا أظن أن المساواة والعدالة يهمانني تمامًا بقدر ما يهمان أي شخص آخر، ولكن أكثر من يثير اشمئزازي أولئك الذين ليس لديهم خيال، ممن يسميهم ت. إس. إليوت “المجوفين”، من يسدون هذا النقص في الخيال بأكوام قش خالية من الأحاسيس، حتى أنهم لا يدركون ماذا يفعلون، قساة يقذفونك بالكثير من الكلمات الفارغة ليحملوك على فعل ما لا تريد فعله، كهاتين السيدتين الظريفتين”، يتنهد ويبرم القلم الرصاص الطويل في يديه. “هناك مثليون وسحاقيات وطبيعيون ونسويون، وخنازير فاشستيون وشيوعيون وهاري كريشناويون، لا يزعجني أحد منهم، ولا أبالي أي شعار يرفعون، ولكن ما لا أتحمله أبدًا أولئك المجوفين. لا أطيق التواجد معهم وينتهي بي الأمر إلى قول أشياء لا ينبغي قولها، كان علي أن أدع الأمر يمر مع هاتين السيدتين، أو أن آتي بالآنسة ساييكي، كانت ابتسمت لهم ومررت الأمر بسلام. ولكنني لا أطيق الأمر، فأتفوه بأشياء لا يجب أن أقولها، وأفعل أشياء لا يجب أن أفعلها. إذ لا يمكنني التحكم في نفسي، وهذه إحدى نقاط ضعفي، وتعرف لماذا؟”.
– “لأنك لو أخذت جميع من هم بلا خيال على محمل الجد، فلن ينتهي الأمر”، أجيبه.
– “تمامًا يقول أوشيما، وينقر على صدغه بممحاة القلم الرصاص. “ولكن، هناك شيء أريدك أن تتذكره يا كافكا .. هؤلاء بالضبط من نوع الأشخاص الذين قتلوا حب طفولة الآنسة ساييكي. أفق ضييق بلا خيال، لا تسامح، نظريات منفصلة عن الواقع، مصطلحات جوفاء، مثل مغتصبة بغير حق. نظم متكلسة. تلك هي الأشياء التي ترعبني، وتثير ذعري واشمئزازي. مهم طبعًا أن تميز الخطأ من الصواب. والأخطاء الفردية في الحكم على الأشياء غالبًا يمكن تصحيحها. وطالما لديك الشجاعة للاعتراف بالأخطاء، يمكنك دومًا أن تحول الأشياء للاتجاه الآخر، ولكن الأفق الضيق اللامتسامح الذي بلا خيال، مثل الطفيليات التي تغير الجسد المستضيف وتغير تكوينه وتواصل هي النمو. إنهم فاشلون، ولا أحب أن يدخل أمثالهم هنا”.
يشير أوشيما إلى الطاولات بطرف القلم الرصاص، لكنه بالتأكيد يعني المكتبة برمتها.
– “أتمنى لو أنني لا أفعل شيئًا سوى أن أهزأ بهؤلاء، لكنني لا أستطيع”.
*** *** ***
– “حتى يومنا هذا لا أحد يعرف إذا ما كانا قد اختفيا هكذا ببساطة أم هربا. الغابات من حولنا هنا عميقة بشكل لا يصدقه عقل، وبالكاد يوجد ما يمكنك الاعتماد عليه كغذاء”.
أومئ.
– “هناك عالم آخر مواز لعالمنا هذا، وإلى حد ما يمكنك أن تخطو إليه وتعود منه آمنًا. طالما كنت حريصَا. ولكن تجاوز هذا الحد وستضل الطريق. إنها متاهة. أتعرف من أين نشأت فكرة المتاهة في الأصل؟”
أهز رأسي.
– “سكان يلاد ما بين النهرين القدامى كانوا يخرجون أمعاء الحيوانات – وأحيانًا أمعاء البشر، كما أظن- ويستخدمونها للتنبؤ بالمستقبل. كانوا معجبين بالتكوين المعقد للأمعاء، ولهذا فإن أساس كلمة المتاهة، هو كلمة الأمعاء. مما يعني أن مبدأ المتاهة بداخلك، ويتداخل هذا مع المتاهة الخارجية”.
– “مجاز آخر”، أقول
– “صحيح. مجاز تبادلي. الأشياء خارجك ليست سوى انعكاس ظاهري لما بداخلك، وما في داخلك انعكاس لما هو خارجك. ولهذا فحين تدخل متاهة في الخارج، تكون في الوقت نفسه قد دخلت إلى متاهة الداخل. وهو بالتأكيد، أمر ينطوي على خطر”.
– “مثل هانسل وجريتل”.
– “صحيح – تمامًا مثلهم. تنصب الغابة فخًا، ومهما فعلت، مهما بلغت درجة حرصك، ستأكل بعض الطيور ذات النظر الثاقب كل فتات الخبز الذي تضعه كعلامات لطريق العودة”.
– “أعدك أنني سأكون حريصًا”، أخبره.