ياسين عاشور – المالينخولي السّعيد (5) – اعتزالُ الفِتَنٍ

أشخاص:
بلدان:

“تُحدّثُونني عن أنباءِ السّياسةِ. لو عرفتُم كمْ أنا غير عابئٍ بها! لم ألمسْ صحيفةً مُنذُ أكثر من سنتين. كلّ هذه السجالات تبدو لي الآن متعذّرة على الفهم …” – آرثر رامبو 

“أيّها المالينخولي السّعيد، توقّف عن حيادكَ الجبان، وجِدْ لكَ موقفًا من هذه الحرب القائمة بين قوى الظّلام وقوى النّور في عالمنَا، إنَّ عالمنا هو الأفضل بين العوالم الممكنة، وليس بالإمكان ما هو أبدع منه، فدعْ عنكَ جُبنكَ وسلبيّتكَ وخُضْ الحرب إلى جانب الحقِّ، إلى جانبنا نحنُ، وإلّا فإنّكَ محسوبٌ على أعداء الحقّ، أعدائنَا …”

كثيرًا ما يسمع المالينخولي السّعيد مثل هذه الخطب الوعظيّة من أصحابه ومعارفه، محاولين استدراجه إلى اتّخاذ موقفٍ سياسويّ مباشرٍ أمام ما يحدث في العالم من أهوال، مُوهمين إيّاه أنّ الحقَّ في قبضة طرفٍ بعينه، وأنَّ الشرّ من اختصاص عدوّ ذلك الطّرف، وأنّ الحرب بينهما حربٌ بين حقّ و باطلٍ، وإذا لم تخترْ الحقَّ فإنّكَ حتْمًا من أهل الباطل.

هكذا يتمُّ تصنيفُكَ والانتهاء منكَ بوضعك في أحد رفوف البؤس الإيديولوجيّ، فصمتُكَ يثير رعدتهم، إنّهم يهابُونَ غموضكَ وفرادتكَ ولا تقرّ لهم عينٌ إلّا بعد التَّأكّد من موقعكَ: إمّا معهم أو ضدّهمْ. لا يمكنكَ أن تقطُنَ خارج منطقتهم المانويّة، ومنطقهِمْ الثَّنائي القائم على تقسيم العالم تقسيمًا بدائيًّا لم يتجاوز ثنائيّات نحنُ وهُم والخير والشرّ والنّور والظَّلام والرَّحمن و الشَّيطان …

إنّ كمّاشة “الإحراج الُّثنائي الزّائف” آلةٌ ذهنيّةٌ صدئة، بها يحاولونَ اقتلاع المالينخولي السّعيد من الموقعْ الَّذي تخيّرهُ لنفسه حتّى يتسنّى لهمْ رؤيته بوضوحٍ، فإذا كانَ ضدّهم يُحاربونَهُ، وإذا كان معهُم يجنّدونهُ كي يُحارب إلى جانبهم، لكنَهم لا ينالون مُرادهُم لأنّهُ عصيٌّ على التَّصنيف، إنّهُ كائنٌ مُوغلٌ في فردانيّته ولا يستطيع أن يكونَ حطبًا في محرقةٍ لا تعنيه، ولا جنديًا في حربٍ يُعلِنُها الأباطرة ويُسحقُّ فيها سِفلةُ النّاس ومُغرَّرُوهم.

يُشدّدُ المالينخوليُّ السَّعيد على فردانيّته، فهي تُعدُّ من فضائله الَّتي يسلُكُ حياتَهُ وفقهَا، فصاحِبُنا منهمٌّ بذاته مُنشغلٌ بها، لا يطلب غير ملذّاته وسكينته، ذلك أنَّ حياته قصيرةٌ ولا تتّسعُ لأنْ يُهدرها في النّضال من أجل قيمٍ ومُثلٍ مُحالٌ إشاعتُها في عالمٍ تغلبُ عليهِ نزعاتُ العُنف والجشعِ، كيف يُمكنُ الاصطفاف خلفَ قائدٍ، أو زعيمٍ، أو سياسيٍّ يتبنّى مقولات مثل الأمّة والقوميّة والهويّة والدّين وصناعة المجد ويُتاجر بها في سوق المُثل العُليا والقيم الخالدة؟ لقد اُستغلّت هذه المقولات طيلة تاريخ النّوع الإنسانيّ من طرف أصحاب السّلطتين الزّمانيّة والرّوحيّة، وكُتبتْ الملاحم والأمجادُ بدماء الجماعات الَّتي وهبت نفسها فداءً لانتماءاتها، لكنَّ المالينخولي السّعيد يأبى أن يكونَ بيدقًا يخدمُ لحساب الشّاه على حسابِ سعادتهِ الفرديّة.

لن ينتهي بُؤسُ الإنسانِ إلّا بانقضاء نوعه، ولنْ تخمُدَ نارُ المحرقة دون التَّوقّف عن إيقادها، ولنْ تنتهي “الفِتَنُ” إلّا باعتزالها، هذا ما استقرّ عندهُ رأيُ صاحبنا، لمْ يتراجع المالينخولي السّعيد عن مواقفه الَّتي سجّلها في مناسبات سابقةٍ: مُعاداةُ التّناسل واليأس من الإنسان وإرادة الفناء والاستقالة من الحياة العامّة واعتزال القضايا الكُبرى والتَّمسّك بملذّاته الفرديّة البسيطة، تلكَ هي فضائله الَّتي يُصرّفُ من خلالها حياتهُ العرضيّة.

المصدر: الأوان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى