قبعة لينكولن – صالحة عبيد حسن

الميتروبوليتان
نيويورك – نوفمبر 2021

كنتُ أقف مباشرةً أمامه، إبراهام لينكولن البرونزيّ، ولسببٍ ما؛ كان ذهني يَرى قُبّعته في الحيِّز أعلى رأسه، لم تَكُن هُناك، لكنَّها كانت أمامي، كنتُ لألتفتَ لأحدِهم سائلةً إن كان يستطيع أن يَرى القُبعةَ معي لولا أنَّني كنتُ وحدي في قاعة الـ “MET” كنتُ أفكّرُ في الصَّمت الذي يَلفّنا معاً مُتقابلين أنا ولينكولن، أحركُ يدي أمامه، ويبقى له ذات الوجه الوادع مُحدّقاً في الفراغ، كنتُ أنا الفراغ في تلك اللحظة، وكان يَراني ويَتَجاوزني، وكلانا شَبَحان، اعتاد هو على الفكرة فاستكان فيها، وأَربكتني، فحرَّكتُ يدي بعصبية لكي ألمس تلكَ القُبعة التي لم تَكُن.


فكرتُ حينها في يدكَ، في الحيّز الذي تقبض فيه على الفراغ بيننا، أفكرُ بأصابعكَ وهي تلمس الهواء لتمنحه البُعد اللازم حتّى يتَمدّد فيصلني، أفكُّر بيدكَ، وهي تبتر ذلك الفراغ لتشدّ على يَدي لأنتبه لعبورنا الشارع معاً، أشرُدُ كثيراً، تقول، وأُفكّر داخل فكرتي بشرودي، هل أفعل؟ أنتبه لسذاجة الفعل، فأضحك وَحدي، وتضحك بدورِكَ دون فهم، تتداخل الأصوات وتقتل الشرود والفراغ في اللحظة.


هناك أيضاً، ذلك الفراغ الذي يفصلكَ عن الكمال، لتبقى مدركاً دائماً بشكلٍ أقل، مُمتن أنتَ في آنها لنقصكَ الذي لطالما كنتَ تخشاه، وممتنٌ الآن للحظة المُعطَّلة التي لطالما كنتَ خائفاً من أن تبقى عالقاً فيها إلى الأبد، لم أعرف كيف أشرح لكَ ذلك وأنتَ تتحرك بين الحشود المُتسارعة، كنَّا نعبر في ثقبنا الزَّمني الخاص، هناك تلاشت الجموع في الفَراغ، وبقيت أنتَ، مُلتفتاً نَحوي لكي أتحرّك أسرع، متحدثاً بحماسٍ وعصبيةٍ معاً، تطايرتْ حولكَ الأشياء، والمكان الذي كنا نعبر تجاهه، فقد قدرته على الانسجام مع الجاذبيَّة، كان خللاً طائراً وطارئاً معاً، وأحببتُ أنا ذلك لأنَّنا توحَّدنا في الرَّبكةِ.. أحببتُ خوفكَ من التيه، يُشبه خوفي الأبدي من التَّفكّكِ والهَشاشة.

قلتُ لكَ بعدها:

بثلاث قفزاتٍ
ستصلُ إلى القمر
وبثلاث قفزاتٍ
ستحفرُ قبركَ
في الذهن
لأن أحداً لن ينتبه لكيانكَ
ستكون دائماً في الحدث ذاته
الحدث الجامد في الزمن
مجرَّد مومياء ميّتة في فضاء
التاريخ.
بتر أحدهم الفراغ الضروريّ
الذي كنت ستكتب من خلاله
حكايتكَ الخاصة.

في مطار شيكاغو، ودعتُكَ قبل أيام، كان الوَداع هو الفراغ بيننا في التاكسي، المسافةُ بين حقيبة يدي وحقيبة سفركَ الصغيرة، ثم الخطوات الهائلة العابرة بكَ نحو الضفَّة الأُخرى من العالم.


*نص: صالحة عبيد حسن

زر الذهاب إلى الأعلى