أزهار اللحظة، حلم الشاعر بقلوب ملؤها الشعر – كو أون

مقدمة ديوان: ألف حياة وحياة، للشاعر الكوري كو أون.

ترجمة: تشوى جين يونج – تحرير ومراجعة أشرف أبو اليزيد

لستُ أدري ما السبب، غيرَ أنَّ الليلةَ ساكنةٌ، هامدةٌ تمامًا.

سكونٌ محيطٌ وكأني أكادُ أسمعُ رمالاً تذروها الريحُ تُغنـِّي على مدارجِ جبل “مينجشا” الزلقة في “دون هوانج”، بعيدًا علـى طريقِ الحرير، تخترقُ كلَّ تلك المسافات.

آلافُ الأميالِ الصامتة!

هل يكونُ ذلك صوتُ فراغٍ ينادي على فـراغ، أم صـدى أسماءٍ تستدعي أسماءً؟

هذا الصوتُ الساكنُ لشخصٍ ما، يشقُّ الطريقَ الـذي يقبـعُ وراءَ الخيرِ والشر، صوتٌ بلا صوت، كما لو كان ينادي علـى النيرفانا. صوتُ الدائرةِ المفرغة، لما وراءَ البهيِّ والقبيح، لمـا وراءَ الطيبِ والشرس، بل هو صوت يتجاوزُ كلَّ ما يشبِهُ ذلك، ربما كي يصلَ إلى الحالةِ التي قد يختفي فيها ذلك الصوت.

ها أنذا أتجرَّأُ لأحرِّكَ هذا السكون.

ربما كان سؤالُ العالمِ الأول: “ما القصيدة؟” ولعل ذلك كـان وراءَ – أنه خلال العصورِ المتوالية، وعندَ لحظـاتٍ حرجـةٍ – لايزالُ هذا السؤال: “ما القصيدة؟” يطرحُ نفسَه دون كللٍ أو ملل.

منذ ستينَ ألفِ سنةٍ مضت، كانت شعوبُ “الناندرثال” تحرِقُ موتاها، وتُزَيِّنُ نعوشَهُم بغصونٍ خضراءَ، وسـنابلَ أرجوانيـةٍ وأقحوانٍ ذهبيٍ مُتوَّج، وعراقيبَ مقدسةٍ، وسواها، ثم يضـعونَ الجسدَ فوقها. هذا ما اكتُشِفَ في كهوفٍ بالعراق. وكـان جسـدُ صبيٍ من العصرِ الحجريِّ، قبلَ عشرين ألفِ عام، قد اكتُشِفَ

في كهفٍ بكوريا، بمقاطعةِ تشونجي هونج، وعلى حاجبيهِ أقحوانٌ مُتحجِّرٌ. 

الأمرُ نفسُه في مصر، حين عثروا على أكاليل زهـورٍ على رأسِ الفرعون الصبي توت عنخ آمون، الذي مـاتَ قبـلَ ثلاثةِ آلافٍ وثلاثمائةٍ سنة خلت.

أنا على اقتناعٍ تام، بأنَّ طقسَ تقديمِ هذه الزهور هُـوَ لُـبُّ الشعر. فالشعريةُ، ونظرياتُ الشعرِ التي نشـأتْ فـي الشـرقِ والغربِ، منذ العصور الكلاسيكية، تتشابهُ فـى كونِهـا مـرَّت بتطوراتٍ جمةٍ. ومنذُ الأزل، كانَ الناسُ يتلونَ صلواتِهم، بقلوبٍ مِلؤُها الشعرُ، على موتاهم، لكي يبعثوا في العالم الآخرِ، عالمـًا من الأزهار، حيث تمثِّلُ تلكَ الجنان، الأسى الطالعَ بين الحضور والغياب.

وكما انحازَ الشعرُ للإنسانيةِ على مدى عشراتِ الآلاف من السنين، فقد أصبحَ، بمرورِ الزمن، أصدقَ ما يُعبِّرُ عن كنه ذلك الزمن. إن بيتًا واحدًا من الشعر، بل ربما كلمةً واحدةً منهُ، قـد تبُعثُ في عشرةِ آلافِ زهرة!

الشعرُ، دونَ شكٍّ، عهدٌ نقطَعُه على أنفسنِا للمستقبل. لـذا يُعلِنُ عن لُبِّ خلوده كما لو كان حلمًا. وبعـددِ البشـر، تتعـددُ الأحلام.

اكتشفتُ أننى مفتونٌ باقتفاءِ آثار الخطى الروحانية، تلك التي تركَها الشعراءُ السابقون عليَّ. أحلامُ هؤلاءِ الشـعراء لا تـزالُ تضيء. نبوءاتُ بعضِ الشعراء تبدأُ في أحلامهم.

يُقالُ إن شاعرًا استعارَ من حُلمِه خمسَ ريشاتٍ للكتابة، كلٌّ منها ذاتُ لونٍ مختلف، وكتبَ بها قصائدَه. ثُمَّ إنَّهُ، أعادَ الريشاتِ لأصحابها خلالَ الحلم، فلم يأتِهِ إلهامُها أبدًا! وحينَ وجدَ نفسَهُ بلا قصيدةٍ، لم يجد مُبرِّرًا لاستمرارِ حياته، فرحلَ عن عالمنا.

شاعرٌ آخر بدأ – بالمثل – بالأحلام.  في أحدِ أحلامِه وجـدَ نفسَهُ يتقيأُ عنقاءَ لها ذيلانِ؛ طارتْ وحلَّقتْ عاليًا، وفـي اليـوم التالي وما بعدَه، انهمرت القصائدُ المجنَّحةُ من تلقاءِ نفسها. بينما شاعرٌ آخر، بدأ، أيضًا، حياتَه عبرَ الأحلام. ذاتَ مرةٍ، تفتَّحَ

في حُلمِه بُرعمُ زهرةِ “الفاوانيا” على طَرَفِ غُصنٍ، غيرَ أنَّهُ بينَ الرؤيا واليقظة، كتبَ عشرةَ آلافِ قصيدةٍ تجعلُ كـلَّ الأرواحِ – في السماءِ وتحتها – تبكي. لم يكن الأمـرُ متعلقـًا بالقصـائد فحسب، لأنَّهُ احتسى أيضًا عشرةَ آلافِ كأسٍ من الخمر، أثنـاءَ كتابَتِهِ تلكَ القصائد. في حياتِه كانَ هو العَالَـم، وفي مماتِهِ تَجسَّدتِ الأكوانُ فيه.

ثُمَّ إنَّ شاعرًا آخرَ بدأَ كذلك بحلم، كان يمضي على طريـقٍ بَرِّيةٍ، زَلقةٍ، وصخرية، إلى حيثُ ينبتُ العشبُ في الأعالي. كانَ هناكَ راعٍ قد وصلَ إلى قمَّةِ الجبلِ مع قطيعِ أغنامه. وحين نظرَ إلى العالمِ من عَلٍ، غلبَهُ سلطانُ النوم، فجاءتهُ في الحلـمِ تِسـعُ حورياتٍ، فاستيقظَ، فإذا به في الواقعِ حولَه الحورياتُ التسـعة.

وفي صوتٍ رائقٍ، كَـمَا لو كانَ صوتَ حجرٍ كريمٍ يـرنُّ فـي الهواءِ الشفيف، قالت إحداهنَّ: “منذُ الآن، ستكونُ شاعرًا، ستكونُ شاعراً يُغنِّي الحقيقةَ كُلَّها للعالم.”

حينئذٍ، بدأ الراعي الأمِّي، الذي كان يجهلُ معنى القصـيدة، حياتَهُ كشاعر. واندفعت من بين شفتيهِ نافورةٌ لا تتوقـفُ مـن القصائد. وعلى الرغمِ من تدوين تلك القصائد، فإنها لـَمْ تـَكـُنْ مُصطَنَعةً، بل وهبت ذاتهَا حياتَها.

أتكونُ كلُّ هذه الأحلام، لكلِّ أولئك الشعراء، ملكًا لي، فأكونُ حَلُمتُ بها أيضًا، في هذا العالمِ، وسواه؟

إن عددًا من قصائدي – دونَ شكٍّ – كانت الأحلامُ أجنَّتَهَا.

في الليلةِ الماضيةِ، نهضتْ قصيدةٌ في أحلامي – هي من بناتِ أفكاري، بالقدرِ الذي قد تكونُ قصيدةَ سواي. هذا الشخصُ المجهولُ ربما يكونُ كذلكَ هو أنا في حيواتٍ سابقةٍ. وربما يكونُ شخصًا سأصبِحُهُ في عالمٍ آت.

هاهي القصيدة:

“قدِّمي حياتَكِ كُلَّها قربانًا للظُّلمَةِ،

أيَّـتُـها الرقطاءُ،

أيَّـتُـها الموجاتُ المتسارعةُ،

الساحقةُ الماحقةُ النافذةُ،

الضاربةُ منحدراتِ الصخرِ في الظلام.

سيولدُ الضوءُ، وسيأتي الفجرُ.”

حينَ تذكرتُ القصيدةَ بعد استيقاظي، وجـدتُها اسـتثنائية.

بعضُ قصائدِ الأحلام طويلة، وتتلاشى تمامًا لحظةَ الاستيقاظ، لكنهَّا على الأغلب تكونُ مثلَ تلك القصيدة، هي قصيدةٌ ليسـت طويلة. 

جذورُ قصائدي الموجَزَةِ تنبتُ في حُلُمي.

تخيَّل أنَّ شاعرًا يكتبُ قصائدَهُ وهو على ظهرِ حمار.. إنَّـهُ حين يسعلُ، فإنَّ بُصاقَهُ سيكونُ قصيدة. بعضُ الشعراء يقولـون إنَّهم يشربونَ الشعر. أحدُهم قالَ مرةً: إنَّهُ يتنفسُ الشعر.

توقفتْ في طريقِها سحابةٌ تجرُّها الريح.

في ليلةٍ مقمرةٍ، كانَ العالمُ على اتساعِ مئاتِ الأميـالِ مـن حولنا بيتـًا. في ليلةٍ مقمرةٍ كتلك، قد تُنشِدُ قصيدةً، ثم تعزفُ على الناي، فيتوقفُ القمرُ في مدارِهِ السماويِّ، ويسكنُ هنيهاتٍ ممتدةٍ، يُنصِتُ إلى قصائدِ الأرض.

أيكونُ ما حدثَ شأنـًا سماويـًا؟ كيفَ يكونُ ذلك شأنُ السماءِ والشمسِ والقمرِ والنجومِ فحسب؟ اعتادت القصائدُ أن تُضَفِّرَ العوارضَ الخشبيةَ فى البيوت الكورية، وأن تتردَّدَ أصداؤها بعيدةً وعالية. 

في البَدءِكانَ الشعرُ في السماء، ثـم هـبطَ إلــى الأرض. وكذلك الشاعرُ، الذي حطَّ من، أو نُفِيَ عن السماءِ، ليلاقيَ قدَرَهُ الأرضي.

لا يحدثُ هذا – بالطبعِ – دونَ صراعٍ داخليٍ أليم، حـــينَ تواجِهُنَا أسئلةٌ من قَبِيلِ: ماذا يعني الشعرُ في مواجهةِ العُدوانِ والقهرِ والفقر؟ وماذا يعني الشعرُ في عالمٍ مِلؤُهُ الجشعُ والجهلُ والمرض؟” حتَّى مع مواجهةِ تحدِّي السؤال، ما إذا كانت كِـتابةُ الشِّعرِ ممكنةٌ بعد التطهيرِ العرقي، حين يفقدُ الشعرُ جَلاَله. لقد بدأتُ كتابةَ أولى قصائدي كما لو كانت فسائلَ عُشبٍ، تنمو من بين الأنقاضِ التي خَلَّفتَها الحربُ الكورية، التي خَلَّفت ورَاءَها زُهاءَ أربعةِ ملايين فقيد.

لقد مزجَ الراهبُ البوذيُّ الكوريُّ القديم “وونهـــو” الحقيقةَ التي تعتمدُ على الكلماتِ، والحقيقةَ الصامتة. هنا تبدأُ إمكانيــةُ دخولِ الشعرِ إلى المفازاتِ الغامضةِ التي تتجاوزُ حدودَ الـحَـكي.

وفي علاجِ الوَسَاطةِ الروحانية للبوذي شيون، ثَـمَّةَ إنكارٌ تامٌّ للكلماتِ والكتاباتِ على الرّغمِ من ذلك، وبعدَ إصابةِ المرمى، تتفتحُ أزهارُ الكلامِ من براعمها تمامًا.

لقد كتبتُ قصائدَ مُطَوَّلاتٍ للغاية، وسطَّرتُ عدةَ ملاحـم، لكنَّ قصائدَ: “أزهارُ اللحظة” هذه تأتي على النقيضِ منها:

سِر في طَرِيقِكَ،

أنتَ الأوَّلُ، والآتي بعدَ الأوَّلِ.

فامضِ، وامضِ..

حيثُ ستبدو خطواتُكَ السريعةُ في المرآةِ،

أنتَ لسانٌ صغيرٌ لنرجسِ الربيعِ 

في قلبِ عاصفةٍ ثلجية.

زر الذهاب إلى الأعلى