ملف خاص: لذكرى بسام حجار (في كلِّ قصيدةٍ قبر)

c56c2ef52581e6f519273e323d688fc5 ملف خاص: لذكرى بسام حجار (في كلِّ قصيدةٍ قبر)

“في كلِّ قصيدةٍ قبر (..) كانت القصيدة تربة لاستحداث شيءٍ يخصّ العَدَم، حتّى في أعلى درجات التَّجلي في الغرام والحب”

*محاورة افتراضية أجراها أسعد الجبوري مع بسام حجار
(منشورة في الناقد العراقي)


صحراء:
ما لا يوجد في الفهارس جميعاً.
ربّما فقط،
في قلب امرأة وحيدة،
في قلب رجل وحيد.

كتاب الرمل/ المعْجم (متبوعاً بالفهرس) في اثنتي عشرة مفردة


فهرس بسَّام حجَّار الشعريّ

 

قرب البعاد…

أغيبُ، فيُفني الشّوق نفسي، فألتقي،
فلا أشتفي، فالشوق غيبً ومحضرا

(ابن عربي، “ترجمان الأشواق”)

أشتاقُ من أحبّ وأشتاقُ إليه. وما تبرأ حالي من تلفٍ وافتقاد. فالشوق أمارة الحبِّ في الغيبة والحضور لأنّه حال الرّغبة واسمها الآخر.

يبْرَحُ من أحبّ جواري، أيّ يصيرُ منّي في البراحِ، في المتّسع من الأرض والخلاء، أو أخاله كذلك إذ يرحلُ، فيشوقني وألتهف، كمثل النّار إذ التهبتْ، تستبدّ بي التباريح. تباريح الشّوق. ومن معنى الشّوق الافتقاد. أو نزاع النّفس إلى مفتَقَد. أمّا الافتقاد له من الرّغبة. إذا كانت الرّغبة بالحد الأغسطيني، «اشتهاء ما هو غائب»، فإن افتقادي الشّيء، لغةً، هو طلبي إياه عند الغيبة، عند غيبته. ويزداد تطلّبي إيّاه إلحاحًا كلّما نأت به الغيبة عني.

أشتاق من أحبّ، تشوقًا واشتياقًا وتلهّفًا وافتقادًا، ويقيني أن لقاءَه لن يرضيَ فيَّ إلا الشّوق مستبدًّا بی نزاعًا إلى لُقياه. أمّا اشتياقي إليه فلا يستكين باللقاء، بل يزيد التهاف القلب، أي تحرّقه. إذ يغيب من أحبّ يُبَرّحني الشّوق إليه وينالني منه التبريح والسّقام المتوّلد عن “إدمان الفكره” (ابن حزم). وهو إذ لا يحضر لا يحضر على تمام تطلّبي إيّاه ورغبتي فيه، لأنّ في تمامهما زولًا لما يتقوّم بِهِ الطّلب والرّغبة. أي زوال شروط المحبّة وعلاماتها. لذلك يشوقني على الدّوام، وقبيل التلاقي، ولا يستكين اشتياقي أوان اللقاء ولو كان اللقاء وصلًا ومداخلة.

ألقاه ملهوفًا (حزينًا) لاهف القلب (محترقه)، أسيان غير صابر ومظلومًا، ويلقاني على صورة حاله. فمن الشهوة (وهي حركة النفس طلبًا للمُلائم) معنى المشاهاة، أي المشابهة، وما يسري في رغبات المحبين ويعتمل أشبه بالتقاء الشبيهين اللذين لا يكتمل نقصان حالهما إلا تدريجًا عبر إضافة النّقصان إلى النّقصان.

في لقائي من أحبّ أوّل ما يبدر مني تبديد الغيبة بأن أشتمل على حضوره كاملًا بالنّظر. وبالإفصاح عَن مقدارِ شوقي. ثمّ المخاطبَةِ التي تهمس في العناق المتعجّل. وكأنّ العناق استدراك غيبة المحبوب في كلّ سعي قد يستردّه إلى حالة الغياب. وتصبح المسافة ماثلة ولو كانت “قاب قوسين أو أدنی…” (على قولة المتصوّفة). ذلك أن الفترة (ومعناها الحرفيّ: من الغيبة، المؤقّت) التي تسبق اللقاء، تدرج الزّمن، مهما كان بطيء التّصرّم، في حساب الانقضاء الذي يقرّب نوال الوصل، أما اللقاء فيدرج زمن الوصل، الذي يريده العاشق دوامًا، في حساب الحيّز والمكان.

فالمسافة مهما قَصُرت بين المحبّين هي اتساع وبراحٌ. والقربُ ليس القرب المُرتجی بل حسرة لأن في حال القرب ثمّة ما هو أقرب. واللمسة الأعمق، إذ توقظ الرغبة إنّما توقظُ اشتهاء الغائبِ وتشيع الإحساس بالنّقصان. والعناق لا يكفي لأنّه احتضان لا مداخلة، واللثمة والتّطاعم والاحتضان، وكلّها كنايات لامتزاج ذاتين في جسدين. فلا يزول من يحب، لأنّ العاشقين اثنان لا واحد. لأنّ المحبّ ليس المحبوب، ولأنّ المحبوب ليس المحبّوب لا فَناء يمزج الجسدين على تمام ما تصبو إليه رغبتهما. فيرقى الاشتياق في وصل اللقاء حدًّا لا تصحّ معه إلا الغيْبة. غيّبة المحبّ عن ذاته إصغاءً لذات المحبوب ولو بالوهم والتمنّي: لو أكون جسد من أحب! فأجاور رغبته، ويجاور رغبتي. وأحمل ذاته في كَنَفي.

من أحكام اللغة قَوْلنا: شاقَني الشّيء، يشوقني، فهو شائقٌ وأنا مشوق. فالعاشق كائن من الأشواق لا تعثر، الدهر، على ترجمانها. وليس غريبًا أن يكون الشّوَّقُ في لسان العرب، هم العشاق.

*من ديوان: معجم الأشواق
“بسام حجار: الأعمال الشعرية الكاملة – دار الرافدين ومنشورات تكوين”

 

حينَ تكونُ السماءُ ليلاً.. حينَ يكونُ الليلُ سماء

خُذني الآن
إذا كُنتَ لا تَأنفُ الرُّكامَ
ولا تُمهلني عَاماً آخر.

ها أنَذَا
حُفْنَةٌ رَمادٍ باردٍ
نَثرَةُ ضَوء
عَلِقَتْ في شِقِّ الجِدارِ
وجَمَدَت هُناكَ
كالكسورِ المُبعثَرةِ لزُجاجٍ مُحَطَّم.

بَلی.
خُذني الآنَ
فما يُجديني عامٌ آخر
أو ثَلاثة
لم يَبقَ شيءٌ
إلا وهبتُ رُفاته
لِظلِّ سَروَةٍ
لظِلِّ جِدارٍ
أو ضَريح.

ها أنَذَا
حُفنَةٌ من التَّعَب والهُزال
قَصَبَةٌ یَبِسَتْ بقُربِ جَدْوَلٍ
ناضبِ
ودُخانٌ
وسَرابٌ
تُبدِّدُه النَّجَواتُ إلى
استراحاتٍ بعيدة.

يَدي تلكَ
مَلمَسُ الرُّخامِ الذي هو البياضُ
الميتُ
أو
صَفْوَةُ السَّواد إذا
أعْتَمَت العيونُ
ونَوَّرت الغِربانُ
صباحاتِ هذا العَياء.

وَرَأسي،
وَعَينايَ،
وفَمي
وقلبي ذاكَ
إلى أين أفضى
عُلبة في
جَوف عُلبة
في جَوفِ
عُلبَة…

بَلی
خُذني الآنَ
وإلّا أفسَدَ هَواءُ الصَّفصافِ
رُوحي
والأسقاطُ جَميعُها كَمِثلِ
رُوحي
عَتَّقَها الغُبارُ وصَمتُ الغُبارِ
في أَقْبية
هذه المَشَقّات.

ولا تُمهلني عاماً آخرَ
ضَجِرَتْ مِنّي الكَراسي والأوراقُ
والنَّوافذُ،
ضجِرَتْ منِّي الأَفكار التي أَخَافَتْني
وضَجِرَ منّي خَوْفي،
وأَسلَمتني الدُّروبُ إلى الدُّروبِ
وأسلمتني الأبوابُ إلى الأبوابِ
وما ظلَّلتني البيوتُ
وما آوتني الظّلال
وكُلُّ مَائدةٍ بلا ملْحٍ
كانَت.

ولي في الأرجَاءِ خُطواتٌ
ضالّةٌ
يَجمَعُها الصّدى في المكانِ
البَعيد

ولي أصداءٌ أَعَارَتْني خُفَّيها
وسرتُ بها
وما أيقَظتُ السِّرَّ
في قَلب السَّماء الَّتي هي اللَّيلُ
وفي قَلبِ اللَّيلِ الَّذي هو
السَّماء.

خُذني الآنَ
لَم يَبقَ شيءٌ
أصَابِعي تِلكَ،
لمَسَاتٌ مُسنّاتٌ،
أيبَستِ الشَّفَةَ المُبلَّلة بِقُبلةٍ
نَاصعَةِ،
بضحكة نَاصعة
وبَوحٍ أعمقَ من أسرارِ
روحي.

وعينايَ،
محاجرُ لزُجاجٍ مُطفأ
كالنَّوافذ في أسوار الحصونِ،
وعينايَ
عمياوان لا تُبصِرانِ
وإنْ أبصرتَا
صارَ النَّبات مِلْحاً
أو صارَ كُلَّ رَقرَاقِ
جَماداً

ولا تُمهِلُني عَاماً آخرَ
أفنَيتُه في الانتظارِ
قَبلَ أنْ يَأتي
وصَارَ مَاضيَّ
كاليومِ الشَّاغر الَّذي
يَدفَعُ اليَومَ الشّاغرَ إلى
عتبةٍ
أجهل ما الذي يقيم وراءها

بَلى.
أحبَّني المَلاكُ وأَحبَبتُه
وكُلَّما أحبَبتُه
لم أعثٌر في حُطامي على اليَدّ
التي كانت تَدُلُّ،
على الأنفاسِ الَّتي كانت
تُحيي فما الذي يُحيي الحُطَّام؟

وأحببتُ الوردةَ ولشدَّةِ
ما أحببتُ
جفَّت البتلاتُ
وما عَلِمتُ قَبل الآن أنَّ
يَدي البلا مَلمَسٍ
هي يَدُ الميّت الذي كنتُهُ
وقلبي قِربةٌ من البَّكاء،
وجسمي فزَّاعةُ طَيرٍ
نُصبَتْ في بَريَّةٍ مُوحِشةٍ
حَيثُ لا تَنضَجُ ثمار.

خُذني الآن،
إذا كُنتَ لا تَأنَفُ الحُطَّام
اجمَع ما استطعتَ مِنهُ
ما عادَ يُجديني،
اجمَعْ ما تَبقى:
صورةٌ لي مُمَزَّقَةٌ بَين أرضِيَّة
البَلاط
وسَلَة المُهمَلاتِ،
حٌفنة تَعَب وهُزال
ورَعَشةٌ في اليَدَيْن،
ضَجَرٌ واشتهاءٌ عَاجزٌ
وقَسَوة أنْ أريدَ ما أُحبُّ
وأن أفقد ما أحبُّ
وأن أجعلَ البَقاء
تمارينَ عادَةٍ
كالعيشِ
أو التَّدخين
وأودُّ الشِّفاء مِنها
ولا شِفاء.

خُذني الآن،
بلا ألمٍ
بلا حَيْرَة
أغلَقتُ المَناوِرَ والكُوى
وأشعَلتُ نَاراً
في حَطَبِ الانتظار،
فليس مُحزِناً
أو كئيباً
أو مؤلماً
أن تقطعَ الأرومَةَ المُهمَلَةَ
في وَعْرٍ مُهمَلٍ
وأن تُطفئَ
الهَواءَ
والفراشَةَ
وشَبَحَ الضَّوءِ
والنّافذةَ
والبصرَ
والشَّمَّ
واللَّمْسَ
والإصْغاء.

اجمَعْ ما استَطَعْتَ منِّي،
ما تَبَقَّى:
العينُ التي تُبصر،
اليَدُ التي أَيْبَسَتِ الوَردَةَ ويَبِسَتْ
حُزناً عَليها،
والفَمُ الذي مَا أَعَانَه النُّطْقُ
يوماً
وما أعانَه الصَّمت.

بلی.
هي البئر العميقة
وأحببتُ أن أسقُطَ فيها،
وهي السَّماء حين تكونُ ليلاً
وهي الَّليلُ حين يَكونُ سماءً
ولا أدري،
بين العَتمتَيْن كيف أقمتُ
أربعينَ عاماً
وما انتبهتُ
وما أيقَظني أحَدٌ
إلا المَلاك.

خُذني الآن،
فمَا يُجديني عامٌ آخر
أو عامان
أو ثلاثة.

لم يَبقَ شيءٌ
إلا وَهَبْتُ رُفاته
لظلِّ سَروَةٍ
لفَيءٍ
جدارٍ
أو ضريح.

ألهوَ الضَّريح حقاً أم إنَّ
ذاكَ طيفيَ الحَجَرِي.

وما كُنتُ أراه

وما كُنتُ أَعلَم.

*من ديوان: بضعة أشياء 
“بسام حجار: الأعمال الشعرية الكاملة – دار الرافدين ومنشورات تكوين”

 

لا تذهبي إلى الجوار المخيف

(لذكرى دلال، أختي)

تضجرين كثيراً هناك
أعرف،
ربّما تشعرين الآن بالقيظ،
وغداً بالبرد
وثقلِ الأبوابِ الضيّقة.
هل نسيتِ سترةَ الصوف
وفرشاة الأسنان
موعد نوم الأولاد
دفاتر التلاميذ
والضحك الكثيرَ في الأمسيات
التي ترتجلها
ابتسامتك الغامضة؟
نادي عليّ لكي أفتحَ الباب
أم إنّكِ الآن بعيدة؟
أوصيك ألا تذهبي إلى الجوار
الذّي أخافُه
كم أغضبُ منكِ لأنّك فعلت
قولي إنّك أسأتِ استخدامَ الوقت
ما بعدَ الظهيرةِ

وإنّك ذهبتِ
أبعدَ ممّا أظنُّ
أبعدَ ممّا أعرف.
ولكن قولي هل بيتُك الآن أرحبُ؟
هل ثوبُكِ يرضيك؟
هل اشتريت الكعك المثلّجَ والشموع
وزينةَ الميلاد المبكرِ هذا العام؟
أم إنَّك وحيدة؟
هل يأتي من يفتحُ النوافذَ في الصباح
وينفضُ غبارَ الأواني والستائر
ويقول: صباح الخير؟
أم إنّك تنتظرين بصمت؟
هل أغمضت عيناً بالرّقةِ التّي تُؤنسُ
الأمسيةَ
أم إنّك الآن ساهمة؟
نادي عليَّ لكي أستيقظ
أو أسمع صوتاً
قولي كيف الصباحاتُ هناك،
أودّ أن أذهبَ
لكنْ لا أعرفُ من يأخذني
ـ هل تأخذني يا سيّد؟
وحين تعتادين العتم أخبريني

إذا سيّاراتُ الأجرةِ تمرُّ بجوارِ
نومِك،
أو إذا كان الطريقُ سهلاً
لكي لا أضيع.
صباح الخير.
أين أنتِ؟
هل نهضت من الزنبق الذابل عليك،
هل كان نومك هادئاً؟
أعرف أنّك ما زلت نائمة
وأنّك الآن تحلمين بالأولاد
والأمسياتِ
والأثوابِ الزاهيةِ،
أغمضي عينيك واستريحي
غداً سيأتي صباحُ الخير،
هل تكونين هنا؟
أنتظرك،
في البيتِ، على الناصيةِ، أمامَ البيت
فقط اقرعي البابَ
أو نادي عليَّ
نأخذُ كأساً واحدةً ونغيب
فقط اقرعي البابَ
لكي تخبريني ماذا حدثَ في غيابِك

لكي أخبرَك ماذا حدث في غيابي
لكي أراك قبل أن تذهبي
على عَجَلٍ كأنّ عمرَك هُنيهة.
اسمعي،
كوني للحظةِ في مكانِ واحدِ،
توقّفي مرّة عن الضحك،
لا تحبّيني إذا أردت
لكن اسمعي
هل أحضر لك سترة الصوفِ من الخزانةِ
أو ربّما كوبَ ماءِ
سيكارة؟ أعرف «فايسروي لايت» أو
ربّما زجاجة كونياك في عيدِ زواجِك.
لا تقولي كلاماً سأندمُ عليه
لم يعدْ لديك وقتٌ
دعيني أراك:
جميلةً، لكنّك لستِ هنا
رقيقةً، لكنّك لستِ هنا
أين أنتِ؟
قولي لكي أرسلَ لك ورداً
في الصباحِ وفي السماء،
لأن السير يتعبُني.
أنتِ وحيدةٌ الآن؟

لا تغضبي منّي،
لم أحسبْ أنّ الهواءَ قليلٌ هناك،
وأنّ نومَك يستغرقُ كلّ هذا الوقت،
لن أطرقَ البابَ طويلاً
سأعود في وقتٍ آخَر
في يوم آخر
علّني أجدُك
لكن نامي الآن
نامي الآن
لكي لا أجدُك متعبةً في الصباح
صباحُ الخير.
حقاًّ؟
أعدُك أن أنسى،
عديني أنّك، في الحجرةِ الضيقةِ
وحدَك،
لن تخافي.

(۲۹/۹/۱۹۸۸)

*من ديوان: مهن القسوة
“بسام حجار: الأعمال الشعرية الكاملة – دار الرافدين ومنشورات تكوين”

 

نهارات 

-1-
لفرطِ ما أحذفُ النهاراتِ لم يبقَ مني إلا كائنُ الأرق، شبيهي، الذي يحسبُ أنَّ الوقت يمضي إذا مَشيتُهُ مراراً من البابِ إلى النافذة، من النافذة إلى النافذة، ولا أُدركُ جَدواه. لفرطِ ما أحاولُ نسيان الوقتِ أقعُ في خطأ الانتظار، وأعلمُ أنَّ من هو مثلي لا ينتظرُ شيئاً ولا يرغبُ في شيء، لأنَّ الأشياء قاطبةً تُقيمُ في نهارات أحذِفُها لكَي لا يبقى مني إلا رميمُ الأرقِ، شبيهي، الذي ما عرفتُ سواه.
هذا نهارٌ.
وتلكَ مشاغلهُ.
أدَعهُ لابنتي لكي تفرحَ به. لجاري الذي يُشغلهُ بضحكتهِ الصباحية وبمئة وعشرين كيلوغراماً من الرضا والعافية والسعادة الغامرة، وبمئةٍ وتسعين سنتيمتراً من التفاؤل والإدراك والتعقّل.

هذا نهارٌ
قال اللهُ.
وبَعد؟

-2-
مُياومونَ
يحتشدونَ تحت شمسهِ الواضحة.
عُمَّالُ مرافئ وأُجرَاءُ
عاشِقونَ وقُساة وتُعساء.
عجائز وفتيان. أحياءٌ وأحياء. وأحياء.
كُثرٌ وصاخبون.

هذا نهارٌ آخرٌ
قال الله.
وبَعدُ؟

-3-
قلتُ لابنتي: لا تَرفعي السِّتار.
لا تفتحي الباب.
لا تُعلِّقي هذه الشمس الغبيَّة على باب غرفتكِ، فالشمس
التي تُعلِّقينها
على الباب أو عند زاوية المكتبة
أرَقُّ من تلكَ التي ستُضيءُ
نَهاري، نهارَكِ،
نهارَ الباعةِ والموظَّفين،
نهارَ العَرَقِ والروائح والاختناقِ
والسَّعي والصُّداع والمُحادثة.

قلتُ لابنتي: لا تَرفعي السِّتار.
لقد متُّ في ساعاتِ اللَّيلِ
الأخيرة،
ولن أستفيق
متُّ ضَجراً
ومتُّ حزناً
ومتُّ سَهواً
ومتُّ موتاً
لا تَرفعي السِّتار أو تفتحي الباب
أو تُعلِّقي ما يُشبِهُ الضَّوءَ في أرجاء الغابة.
فهذا نهارٌ آخرُ،
أعلَمُ،
وآخرُ أيضاً،
أعلَمُ،
وماذا بَعدُ؟

*من ديوان: بضعة أشياء 
“بسام حجار: الأعمال الشعرية الكاملة – دار الرافدين ومنشورات تكوين”

 

ضعي زرافةً في إناء، سمكةً في حديقة

هل نُقيمُ في السّحابة الزّرقاء
التي تَرسُمـُها مروی قُرب اسمي

حينَ يَقتَرِبُ الدَّويّ من النّافِذَة
وَحينَ يَقْعي الأثاثُ في الزّوايا
أو تَخافُ الستائر

لا السّحابة تُمطرُ
ولا اسمي يجعلُ العالمَ جميلًا

لذلك نامي يا ابنتي، أنت
وحين أغفو قليلًا
أَعدكِ أنْ أحلُمَ بكِ
أَن أُفرغَ رَأسي من خردَتِهِ الثَّقيلةِ
وأفكِّر في السّحابة الزّرْقاء
في البيت

في العتبة

في الثّمار التي تُشبه الفراشات
والفراشات التي تشبه الثّمار

فقط

حين ترسمينها.

أسألكِ إذن
لماذا لا ترسمين العالم كلّه
لكي يُتاح لهُ أن يشبهَ شيئًا
ضَعي زرافةً في إناء

سمكةً في حديقة

ضعي عصفورًا ووحيد قرن
في قفصٍ واحدٍ

وصدّقي
أنّهما سيتحابّان
لأنّك تريدين ذلك
بالعنادِ الذي يجعلُكِ تحسبينَ النّومَ
عطلةً زائفة

ضَعي، حينَ ترسمينَ وَجْهي،
قَليلاً من التَّعبِ في مَلامِحي
خَطًّا واحداً على جَبيني
لِكَي أَحسِبَ أَنّني في مُنْتَصَفِ العُمْرِ
ولَيسَ في آخرهِ

ضَعي بريقًا باللّونِ الذي تَخْتارين
لِكَيْ لا يظلّ الجَفافُ في عَيْنَيّ
وضَعي كثيرًا من الماءِ
لِكَيْ تبقى لي يَدانِ قويّتان
وشاربان
وقلبٌ صغيرٌ لشدّة ما يَصفُر صَدْري
مِنَ الخواء

لا تَنسي الأسرَّة لكي نَنام
والأفواه لكي نَبْتَسِم
وقليلًا من الدُّموع
فقَط
لِكَي نَتَذكّر بين حينٍ وآخر
-قَبْلَ أنْ نَنْسى-
كيفَ يَبْكي رجلٌ كامرَأةٍ
كيفَ تَبْكي امرأةٌ كامرأةٍ
كيفَ يبكيانِ لشدّة ما يَجمعُ البكاءُ بَيْنَهُما

هل نُقيمُ بالعُلبةِ الصَّغيرَةِ
التي تؤثِّثينها بالورقِ المَقْصوصِ
وعيدانِ الثقابِ والمَلاعِق
ثُمَّ تأْتي ابْنَتُكِ -الجَميلَةُ كَدُميةٍ-

لتعلّمنا
كيفَ تكونُ الدُّمى سعيدةً وهيَ لا تَحكي
رقيقَةً وهي لا تَفْتَقِدُ أحَدًا

ثمَّ تُغلقينَ الباب

فيما الرَّجُلُ يتَذكَّرُ أنَّه رجلٌ
والمرْأةُ تتذَكَّرُ أنّها امرأةٌ

يتذكّران أنّهما يَبْتَعِدانِ معًا
كلٌّ بِمُفرَدِهِ
إلى عتمةٍ مُخيفَةٍ
ضَعي رفًّا لمِصباحٍ

ومِشجبًا لمعطفي أو قُبَّعتي
وضَعي ليلًا دافئًا بعدَ كلِّ نَهار
ومسافرين
لا يُخطئونَ موعدَهُم
ولا تفوتُهم طَرْقَة الباب

وركضكِ خَلْفَ الباب

فرْحَتكِ خَلْفَ الباب

*من ديوان: فقط لو يدكِ
“بسام حجار: الأعمال الشعرية الكاملة – دار الرافدين ومنشورات تكوين”

 

ألبوم العائلة 

“ومساء ذلك اليوم, قال يسوع للتلاميذ:
[اعبروا بنا إلى الضفّة الأخرى ]”
(مرقس 4; 35)

1
لم أكن ضالّاً فاهتديت
لم أكن سائلًا فوجدت
كنتُ في شرقِ الحكاية أو غروبها
في مطالعها أو في الختام
لم أكن

2
الجهة الّتي أفضت بي،
انمحتْ
أرى حجرًا على التلّة
كأنّه ينتظرني

3
المدينة لم أعرف اسمها
و الشارع، ككلّ الشوارع، طويل ومزدحم و قاس
لم يفتح الباب الّذي طرقته
إذ لم يكن بابٌ يفتح في جدار يترامى إلى السماء
عدتُ أدراجي
فربّما غدًا

4
سألت الرجل الّذي كنته قبل عام
لم لا أراني بينهم؟

5
تلك زوجتي و هؤلاء أولادي
وتلك هي الحجرة
وشخص الزينة الغريب
والأريكة المزركشة و الضياء المصبّر للمبة الألّوجين
والباب المغلق
والأمسية الّتي صارت صاخبة
لم أسأل عن قرص الأسبرين و لم يلتفت أحد

لمّا غادروا أبقت اللمبة مضاءة
واستلقت على الكنبة
لم تسألني قبل أن تنام:
أتحبّني؟

6
لا أجدني واقفًا أو جالسًا أو ساهيًا
لا في أبيض الصورة ولا في أسودها
ويخيّل إليّ، إن شئت انتشال الوقت
من بئره، أنني ربّما كنت خيال ذاك
الشخص المغادر، تاركًا وراءه دخان
سيكارة و كأسًا نصفها فارغٌ من النبيذ

7
منذ عام لم تكن الصورة قد أصبحت قديمة بعد
كانت منار في عامها الأوّل
وكان الرجل الّذي كنته في عامه الأخير
وكانت كلّ سماء صافيةً و كلّ نهار مشرقًا
وكان للرجل متّسع من الوقت لكي يقبّل قدم
ابنته الصغيرة،
يقول لها قبل أن تغفو:
أحبّك

8
كنت في الصورة الكبيرة على الجدار الغربي
لردهة الجلوس
مبتسمًا
محدّقًا في الجدار المقابل
وحدي
معهم أو من دونهم
وحدي

9
لم أجدني في ألبوم العائلة
حين قال أحدهم هاتوه من الصندوق
وراح آخر يمسح الغبار والنسيان عن جِلدِه

10
كانوا من حولها كثرًا
وكانت تنظر، ساهية، إلى مكان ليس في
الصورة
إلى مكان بعيد

11
كانت تحدّق في المكان البعيد
كأنّها تراني
وكنت أعلم أني، هناك
في المكان البعيد،
حيث تراني

*من ديوان: ألبوم العائلة يليه العابرُ في منظرٍ ليليّ لإدوارد هوبر
“بسام حجار: الأعمال الشعرية الكاملة – دار الرافدين ومنشورات تكوين” 

 

مزارٌ بجنب الطريق

إنّي لا شيء
وحديثي عابرٌ،
مِثْلي،
بين عابرينَ،

لذلكَ
أتحدّثُ عنكَ

إنّي أتحدّث عنكَ
لا عن ظلّكَ الجالسِ –
وحيداً –
تحت سكون الشجرةِ
عند المفترَق
حيث أعمدة تلغراف قديمة منزوعة الأسلاك،
وعابرون يمرّونَ بِسَهْوِكَ
ولا يلتفتون

إنّي أتحدّث عنكَ
لا عن خيالك الماثل أمام عينيّ أو منامي
أتحدّث عنكَ
لا عن المصباح الذي يرفع الظلَّ إلى مصافِ الساحرات
اللواتي كُنّ
ظلالاً ماكرة
ولا عن الأعراقِ التي استخرجتها الأيدي الحاذقةُ
من جوفِ الأرض،

ولا عن المناجم التي كانت تُسمّى،
في حياةٍ أخرى،
مملكةُ الكدّ وأهراء الشقاء

لم يبق أحدٌ

لا أحد هنا سوى أنتَ
ملاذ الهَاجرين بيوتهم إلى الأبد،

لا أحد هنا،
وملاذُكَ أنتَ مثل هذا الأرق الطويلْ

لا أحد هنا يحبّ الحجَرَ
أو يأنَس إلى برودتِه
وصمتِه
حتّى المناماتِ المُرعِبَةِ لم تُبقِ للحجَرِ معنىً
حتّى الشجرة العاقر
لم تثمر يوماً حصاة

إنّي أتحدّث عنكَ،
بفصاحةِ التوهّمِ،
أنتَ
وحدك الحقيقي،

صامتٌ وباردٌ ومزهوّ بصمتِكَ وبَرْدِكَ،
أنتَ
وحدك الحقيقيّ

وإذا أعيتنا الحيلةُ في أمرِ موتانا
جئنا بتقوانا إليكَ
ورِعينَ، مُطرقينَ،
مضمومي الأيدي،
متوسّلينَ
أن تكون ملاذاً لذكرياتنا
وحسراتنا
وخشيتنا من كونكَ الملاذ الأخير

إنّي أتحدّث عنكَ
– كما يتحدّث أحياءٌ عن أحياءٍ مثلهم –

وأتحدّث عن جوفِكَ
الذي هو نارٌ خامدة،
نارٌ باردة،

عن ملمَسِكَ الخشِن الذي يشبه الضغائن الدفينة،
ملمَسِكَ المخادِع
الذي يسري خدراً في الجسم

إنّي أتحدّث عنكَ
أنتَ الحقيقي

عن كتابك الغامض كالمتاهِ

إنّي أتحدّث عنكَ،
لا عن الشواهد والجدران والبيوت والمزارات والصروح

عن الحكمة الموروثة عن سلالتكَ الحجريّة

أتحدّث عنكَ

عن المأثور على قوسِ بابِك:

هنا
جانبُ الظلِّ رَحْبٌ وأبوابُه واسعةٌ والقاصدون كُثُرٌ
وما من طريقٍ إليه
كمنزلٍ ريفيّ وسطَ المروج
لا درب يهتدي إلى بابهِ الضيّق
المتوحّدِ فوق العتبة
لا أنا ولا أنتَ ولا المُبصِرُ في منامِه
ندري ما الخيالات المترائيّة عند مفترَقٍ قريبٍ
بعيدٍ
عائمٍ على صفحةِ السرابِ الذي ترفَعُه العيونُ المترقّبة
المتعبة
المتوهّمة:
شخوصٌ نابتةٌ في الوعرِ كمخلوقاتِ التوهّم،
– ليست من الأنس وليست من الجنّ –
كأشجار سروٍ مُستنفَدٌ هواؤها
كأعمدة تِلِغراف صامتة،

كأناسٍ ليسوا مثلنا،
نحن أرواح البيوت المطمئنّة،

كأناسٍ
ليسوا مثلكم، أنتم
روّاد السُبُل الزائلة،

بل كمِثْلِ المقيمين عند المفترق،
جنبَ الطريق،

أهل المزارات التي لا يأتيها إلاّ غرباءُ
حاملين باقاتٍ وزاداً،
وشموعاً توقَدُ مرّةً وحيدة لكي تأخذ الريحُ،
إذا هبّت ريحٌ،
شعلتَها،
وتبقى، هناك، شموعاً كأعواد البلّور
المطفأة

سكينةٌ مُطبقةٌ يرجّها زعيق السيّارات المسرعة إلى حطامها

إله ساذَجٌ
إلهٌ ساذَجٌ وفتيٌّ وميت
إله ساَذَجٌ – وفتيٌّ
لأنّه ميت –

جَعَلتْ له الأيدي الغريبةُ مزاراً عند المفترق،

كومة أحجار رُفِعَت، مُرتَجَلةً،
بجانبِ الطريقِ،
مطوّقة بباقات وعباراتٍ خُطّت على لوحٍ مُرتَجل،
وصورة –
ما كانَ لبعض الوقت صورة –
في إطارٍ مُرتَجَل

لا أحد هنا،
وهنا
لا تُسمّى القبور –
ولو مأهولةً بالموتى –
تلك التي يخلّفها المسافرون –
قبوراً
بل علامات
لمسافرين سوف يمرّون بها
من بعدهم
ويتركون بجوارها قِربَةَ ماء وأطعمةً وأغطيةً وآثار أقدام،

هنا
لا تُسمّى المواكبُ إليها جنازاتٍ بل
أسفار،

لا تُسمّى القبور إلى جانبِ الطريق
– ولو غير آهلةٍ –
قبوراً
بل مزارات

بيوتٌ مُرتَجلةٌ في العراء
لم تكتمل بعدُ
ولم يقطنها بعدُ
أحدْ
لكنّها، منذ البَدءِ، مأهولة بشخصِ الذكريات

ولا تُسمّى أضرحةً فلا مَن يرقد فيها
مجرّد علاماتٍ يلتفت إليها العابر بسيّارته مُسرِعاً
أو المارّ بها سائراً على القدمين،
ساهياً،

لا أشجار باسقة شاكيةً تحيط بها أو تظلّلها،
لا شواهدَ
لا أسماء
لا أسوار
لا شارات
لا دروبَ

أنصابُ عبورٍ خاطف
إذ تمرّ بها مبتعداً
تتضاءلُ رويداً قبل أن يحجبها المفترق عن عينيك

قبل أن يحجبكَ عنها،
المفترق

أنتَ لا شيءَ
وحديثُكَ عابرٌ، مثلك،
بين عابرين

لذلك
أتحدّث عنّي،
أنا،
العابرُ قليلاً
في ظنِّك

*من ديوان: تفسير الرخام
“بسام حجار: الأعمال الشعرية الكاملة – دار الرافدين ومنشورات تكوين”

 

أَيُّنا، يا أيُّها الطّيفُ، يَحيا

(فَإنَ رؤيةَ الشيء نفسه ما هي مثل رؤيته نفسه
في أمرٍ آخرَ يكونُ لهُ كالمرآة)

*ابن عربي: فصوص الحكم

أَيُّنا، أيُّها الطّيفُ، شَقيقَ غُربَتِك؟ إنّي أُبصِرُ مَن يُشبهني سائِرًا بَينَ وَحشةِ الحصاة ويُتمِها، وأُبصرهُ مُقيمًا في الضَّوءِ الماصِلِ بَينَ أَشجانِ المُقيمينَ هُنا دونَ رَجاء.
الحُفاةُ جَعلوا الطريقَ إليكَ متاهًا والحَزانى أَنفَقوا الصَّلواتِ وما قَرَّبَ الدُّعاءُ إلينا مِنكَ إلا الاشتياق .
رَأيتُني بَينَ يَديكَ ورأيتُني مَنفيًّا عَنك ورأيتُني بَيني وبينَكَ بَحرٌ ولَمَسَت يدي ثَنيّات ثوبِك. ثُمّ رَأيتُني بَعيدًا وهالَةٌ مِنكَ تَصحَبُني، ثُم رَأيتُني بَعيدًا ولا شَيءَ مِنكَ يَصحَبُني فَأدرَكتُ أَنّي في حُلمٍ لا صَحوةَ مِنهُ إلّا الحُلم. وقلتُ: أيُّها الطّيف، أَسلِكُ طريقًا أنارها العابرون بِلَهفِ أَبصارِهم وأَوْدَعَتْها القِفارُ وَحشَةَ أسرارِها، ومَشيتُ وما خاطَبتُ أَحَدًا إلّا أَشارَ عَليّ بالمشيرِ حَتّى انهكني المَسيرُ فَلاقَتني ظِلالٌ ليسَ لَها شَجرٌ ولا تَدري بِمَ تُورف، لكنّها ظَلَّلَتني بِثقلِ الغَفوةِ إِذ أَطبَقَت الغَفوَةُ على عينيّ فَرأيتُني بيني وبينكَ جَبلٌ ومُنحدَرٌ وسَهلٌ وشعاب، ورأيتُني بينَ يديكَ ومَنفيًّا عَنك ولَمَسَتْ يدي ثَنياتُ ثَوبِكَ فَأدرَكتُ أَنِّي في الحُلمِ الذي أَسلَمَني إلى حُلمٍ لا يَقَظَةَ مِنهُ وإنّما الحُلمُ الذي يَليه. وقلتُ: أيُّها الطّيف، أَسلِكُ شعابَ الجَبلِ والمُنحَدَرِ وإذا لاحت طَريقٌ أَودَعتُها رَجائي، ومَشيتُ ولَم أَعثُر عَلى الهَواءِ في أَعلَى الجَبلِ ولَم أَعثُر عَلى الينبوع في أسفلِ المُنحدَر بل تراءت لي الوَحشَةُ في هَيئةِ الشّوكِ وترامي الوعرُ كالمفازات لا تَحدُّها العَينُ أو جناحُ الطّير. فَأسلَمتُ جِسميَ للتَّعبِ يُحسِنُ وفادتي كالبيتِ وليسَت له جدرانٌ وليسَ لَهُ سَقفٌ وبابٌ ونافِذة. وغفوتُ ورأيتُني بَينَ يَديك، عَلى مَقرِبَةٍ مِنكَ ومَنفيًّا عَنك، ولَمَسَت يدي ثَنيّات ثوبِك وأدرَكتني الطّراوةُ، أعرفُ أنّها ليست في شيءٍ إنّما يجدُها النّائمُ واقفةً في الحُلمِ الذي أسلمني إلى حُلمٍ لا صَحوةَ مِنهُ إلّا إذا تَلَمَّسَتْ يداكَ الباب الذي مِنهُ أدخَلَكَ الطَّيفُ وأَضَلَّك، وقالَ لا تَبحَث عَنّي لِئلا تجدني، وما وجدني العابرونَ إلا في حُلمٍ لا يَقظَةَ منه لأنّهُ لَيسَ حُلمَ النّوم بَل حُلمُ اليَقَظَة، ولا ينهَضُ اليَقظانَ مِن نَومٍ ولا يَنهَضُ النّائمُ مِن مَوت. وليسَ إلّا النسيان.

قُلتُ: أيُّها الطّيفُ، أيّنا يَحيا؟ إنّي أُبصِرُ مَن يُشبِهُني في الحُلمِ الذي يُبصِرُني فِيه. أَراني ضَلَلتُ الطّريقَ تُسلِمُني الشّعابُ إلى شِعاب، وأَراهُ ضَلّ الطَّريقَ تُسلِمُهُ الشّعابُ إلى شعاب. وما ظَنَنتُهُ العَيشَ كانَ حُلمًا أَبصرتُهُ، وما ظَنَّهُ العَيشَ كانَ حُلمًا أُبصره. أَبصرناهُ مَعًا، الحُلمَ الذي ما كُنتُ فيهِ وكانَ عَيشي، والحُلمُ الذي ما كانَ فيهِ وكانَ عَيشه. وحسبنا، معًا، أَنّ الآخَرَ مِنّا يَحيا، وأَنّ الآخَرَ مِنّا أَضَلَّهُ الطّيفُ إِذ أَدخَلَهُ إِلى الحُلمِ الذي لا يَقَظَةَ مِنهُ إلّا الحُلم الذي يليه.
فأَيُّنا، أيُّها الطّيفُ، شَقيقَ غُربَتِك؟
الحفاةُ جَعلوا الطّريقَ إليكَ مَتاهًا، والحمّالونَ أَنفقوا الحَياةَ سَعيًا وراءَ الحُلمِ الذي يُفضي بِهم إليك.
والأحياءُ، أشقّاءٌ لَنا، حَلموا ذات يومٍ أنَّهم يحييون وصدّقوا، وما زالوا، أيُّها الطّيف، يُصدِّقون.

*من ديوان: مجرد تعب
“بسام حجار: الأعمال الشعرية الكاملة – دار الرافدين ومنشورات تكوين”

 

مُجرَّدُ تَعَب

(التَّعَب: هُوَ الملاك الذي يَلمس إِصبعَ مَلِكٍ نائِم، فيما يواصل الملوك الآخرون نومهم الخلوَّ مِنَ الأحلام)
*بیتر هاندکه

بارِقَةٌ واحدةٌ، ليسَ، بِالضَّرورةِ، مِن عِندِ الله.
إشارةُ يدٍ. مُجرَّدُ تَلميحٍ. حتّى ولو كانَ الإِلماحُ كاذِبًا.
فَأُصدِّقُ أنَّ كُلّ هذا تَعَبٌ.
تَعَبٌ فَقَط، تَعِبَ الرَّجُلُ يَتعَبُ تَعَبًا. فَقَط. كَمِثلِ ما يُصرَفُ عَليهِ الفِعل. أو كَمِثلِ ما يُضني جُسومَ الحَمّالينَ وعُمَّالُ المناجِم والسّائِرين أبدًا، والمَحكومينَ وبِغالُ المُهرِّبينَ والقادةَ، والقانِطين والمريدينَ كافَّةً في دروبِ المشقّات.
فَأُصدِّقُ أَنّ كُلّ هذا تَعَبٌ ويَزولُ، كَما تَزولُ الأَعراضُ مِن كُلِّ شَيء، لِأنّها الأعراضُ ولَيسَت الشَّيء وإن كانت توهمُه (أيْ الشَّيء) لِبَعضِ الوَقتِ أنَّها هو لِشِدَّةِ ما تُساكِنهُ فَيُصبِحُ مَظهرًا لَها وتصبحُ مَظهرًا لَه. كَما يكونُ الصُّداعُ انفِجارًا كَونيًّا مُتواصِلًا في الرَّأس، والعياءُ رَغبَةً في التَّلاشي. تَعَبٌ فَقَط. لَيسَ عِلَّة وأوجاعًا تُروِّضُ جِسمَكَ عَليها، وتَبرَأُ مِنها بِعُبوّاتِ الكِيمياءِ المُلوَّنَةِ، وإرشاداتِ الطَّبيب، وزَمِّ النَّفسِ تُكابِدُ أَهواءَها. ليسَ الألَمُ الذي يَجعَلُكَ تَشعُرُ بِشِدَّةِ ما يُؤلِمُك. تُصبِحُ يَدُكَ، مَثَلًا، هي اليَدُ ولا شَيءَ سِواها. الرِّئَةُ هي الرِّئَة. والقَلبُ هو القَلب. فالمُؤلِمُ هُوَ الماثِلُ في جِسمِكَ، مُستحوِذًا عَليهِ، مُمتلِكًا إِيّاه، ويَجعَلُ مِن روحِكَ مُجرَّدَ وَعي لَه.
ولكِنَّ التَّعَب…
أَحسَبُ أَنَّهُ مُجرَّدَ فِكرةٍ خاطِئَة. عَياؤُها في أَن تَكونَ سَبَبًا لِزوالِها، لا بَل رَغبَةً فيه. مُجرَّدَ فِكرَةٍ. كَأَنْ تَرغَبَ، بِالفِكرِ وَحدَهُ، أَن تَتَلاشَى، أَن تَتَخَفَّفَ مِنَ الأَحمالِ التي أَصبَحَت، فَجأةً، ثَقيلَة. فوقَ طاقَتِكَ، فوقَ احتِمالِكَ. حَتّى الخُطواتِ تَكتَسِبُ وَزنًا. فِكرَة النّهارِ، مَثَلًا. لا تَجِدُ، مَهما اجتَهَدتَ، في مصنّف للثّقات أَنّ النَّهارَ جِسمٌ مِنَ الأَجسامِ التي يَتقدَّمُ بِها الكَون في وجودِهِ المادّي. وإن فَعلتَ، سَخرَت مِنكَ القواميسُ وازدَرَتكَ المعارِف، حتّى ما لا يُجاوِزُ دَرَجَةَ الصِّفرِ مِنها. فِكرَةُ النّهارِ، إذًا. حِينَ يُحصي وَعيكَ الشَّقيُّ مَواقيتَهُ بِأعشارِ الثّانيَةِ، لا الثّانيَة. وبِالأمتارِ والسّنتيمترات مَسارَ شَمسِهِ الهائل بَينَ الشُّروقِ والمَغيب. وبِالأطنانِ، آلافها المُؤلَّفَة، الأجسامَ التي تَدُبُّ عَليهِ، مِن إِسمَنت ومَعدَن وبَشَر ودواب. وبِالأرقامِ الفَلكيَّةِ مِقدارَ ما يُقالُ فيهِ مِن كلامٍ وما لا يُقال. وما قَد يَحدُثُ فيهِ أو لا يَحدُث. وعَدَدَ الولاداتِ وعَدَدَ الوفيّات. والرَّقمَ الهائِلَ في حِسابِ الأكاذيبِ والمُفارقاتِ والمُصادفات.
ومِقدارَ ما فيهِ مِنَ الحَياةِ، ويُخيفُك.
فِكرَةُ النّهارِ، إذًا. أَحسَبُ أَنّها ما يفوقُ صَخرَة. لكنّها مُجرَّدَ فِكرَة. وتَحمِلُها في رَأسِكَ، في مَكانٍ ما مِن دِماغِك. وتَنهَضُ بِها، وتَسيرُ بِها، وتَعمَلُ بها، وتُحبُّ وتَكرَهُ وتَحزَنُ وتَفرَحُ بِها. ولا تَشعُرُ حتّى بِثِقلٍ في أَجفانِك. ثُمَّ يَأتي التَّعَب. يَأتي، ويَقولُ لَكَ أَحدُهُم: إِنَّهُ مُجرَّدَ تَعَب.

م.ج.ر.د. ت.ع.ب. أَمرٌ بَسيط. فَقَط سَتشعُرُ لِبَعضِ الوَقتِ، أَنَّ كُلّ شَيءٍ هُنا، أَقصدُ في العالَمِ مِن حَولِك، صارَ لَهُ حَجمٌ وثِقل. لَن تَرى الشُّروقَ أو الغُروبَ كَما كُنتَ تَفعَلُ في السّابق. وإِن صادَفتَ أَحَدًا، في الشّارعِ أو المَقهَى أو في مَكانِ عَملِكَ، لَن يَكونَ كَما اعتَدتَ أَن تَرى أَحَدًا في وَقتٍ آخَر.
ولا بَأسَ إذا جَعلتَ تَبكي، بَينَ الحينِ والآخَر، لِأسبابٍ تافِهةٍ، أو بِلا سَبَبٍ، هَكذا تَبكي، لِأنَّكَ أَصبَحتَ العِبءَ الذي سَتحمِلُهُ طِيلَةَ العُمرِ عَلَى كَتفَيك. أَو لِأنَّكَ أَحبَبتَ ولا تَقوى عَلى العَيشِ لِأجلِ مَن تُحِبّ، لِشدَّةِ ما أَوهَنَكَ التَّعَب، لِشدَّةِ ما لاشَاكَ وبَدَّدَكَ وغَيَّبَكَ وجَعَلَكَ رُكامًا. فَكيفَ تَقوى عَلى العَيشِ حُفنَةُ الرُّكام؟
لكِنَّهُ مُجرَّد تَعَب.

تَعَبٌ كَمِثلِ أَن تَنتَبِهَ فَجأَةً وتَجِدَ أَنَّكَ في المَكانِ الخَطأ، في اليومِ الخَطأ. وتَجِدُ أنَّكَ، نَفسَكَ، الرَّجُلَ الخَطَأ. ومَعَ ذلِكَ تَتَظاهَرُ بِأنَّ ما وجدتَهُ في هذهِ الأخطاء كُلّها هُوَ الصّوابُ الذي أَتاحَ لَكَ أَن تَحيا إلى الآن، وحِينَ تنهارُ الأشياءُ مِن حَولِكَ، وتُقيمُ عَلى العَتبةِ طَويلًا وكَثيرًا وبإفراطٍ ما بَعدَهُ إِفراط، تَحسَبُ أنّه مُجرَّدَ تَعَب. تَعِبَ الرَّجُلُ يَتعَبُ تَعَبًا. كَمثلِ ما يَتعبُ الحمّالون… إلخ. وإنّ التَّعَبَ فِكرَةٌ خاطِئة، لكنّها لا تَزول. القَليلُ مِنها وَهَنٌ يُلاشيكَ عِندَ اليَقَظة. والمِقدارُ مِنها إنهاكٌ يُلاشيكَ عِندَ النّوم. لَيسَت العِلَّة أو المرض الذي يقتلك. بَل الفِكرَةُ التي تُحْييكَ، إذا كان إِحياءُ الرَّميمِ حَياةً، والفكرة التي تحيا معك، في داخلك. ليس الموتُ الذي يُميتُكَ بل الموتُ الذي يَحيا في داخِلِك. الموتُ الذي يَحيا بِك.
وتُصدِّقُ أنَّ كُلَّ هذا تَعَبٌ.

*من ديوان: مجرد تعب
“بسام حجار: الأعمال الشعرية الكاملة – دار الرافدين ومنشورات تكوين”

 

حكاية الرجل الذي صار ظلَّاً

ما كنتُ منذ البداية هكذا. أقصد لم يخلقني الله هكذا، وحيداً ومتروكاً للحيرةِ، إذ لا أجد من يَصحبَني وأكون ظلّهُ. ولكن ليتني أذكُر بالدقَّة التي تَتَوخُون كيف جَرَى لي ذلك فأصبَحتُ ما أنا عليه الآن، أو منذ بعض الوقت.

أَجدُني لا أَقوَى على الحَرَكةِ، مُقيماً سوية البَلاط لا أبرح. وما يدور عليَّ من مواقيت يبدِّل من أحوالي وهَيئتي، فلي مع تبدلات الإضاءة بين مواقيت النَّهار والليل قصص أعجب من أن تُروى هنا، ولا يَتسع لها مصنف كامل من ترهات بورخيس. فالصباح يَجعلُني منبسطاً على سويَّة الأرضية المُلمَّعة، والظهيرة تُلصقني بالأشياء العمودية الواقفة ولا تتعب، ثم تتدرج بي الحال إلى استطالة تشوُّه قواميّ الطيفيّ حتّى يَكسرني الغُروب بانعكاسهِ الشَّفقي إلى نِصفين. نصف من أسفلِ الرَّكبةِ إلى القَدمين، والنصف الآخر من أسفل الرُّكبةِ أيضاً إلى هَامتي، فأقف بانحرافٍ ظاهرٍ على جدار ولا شيء يَسندني، إلى أن يحلّ الظَّلام فيذيبني في كنفهِ كأنَّنَي قطرات حبرٍ أو ماءٍ ملوَّن تمتصُّهُ ممحاة غريبة لا قوام لها.

بلى، ما أخطأتُم الحسبان، فما أتحدثُ إليكم عنه هو الظلُّ الذي صرتُه منذ بعض الوقت، لذلك يَصعبُ أن يَبصرني أحدُكم في الليلِ أو في عَتمة المَكان. كأنَّني أنتمي إليه أو أصبحتُ مِلكاً لهُ مذ غَادرني صاحبي وانتظرتُه طويلاً هنا ولم يعد. فقط بوسع واحدكمٍ أن يَراني في الضوء. في ضوءٍ فاضحٍ لا أَرى منهُ شيئاً. وطبعاً لن أشرَحَ لكم هُنا ما تَعرفونه جيداً بأنَّ الظلّ لا يَراكم حين ترونه جيداً لكنَّه يُلازم حركاتكم وسكناتكم ولا يغادركم إلا حين تلوذون بأسرّتكم الدافئة وتحلمون.

ألمعيٌّ هناك يقول: وماذا عن السير في الظلمة حيث لا ظلّ يَتبعُنا؟ فأقول من فم الظِّلال إياها إذا جاز لي أن أقول: يكون من هو مِثلي فدية نجاتكم من العبور إلى الجهة الأخرى. ليتخيل أحدكم الظَّلام مرآة، ولو معتمة، يسير بمحاذاتها على وجه الدِّقة، ويَصحبه الظل، في الجهة الأخرى من المرأة حيث يسود الظلام، ولن يخطر ببال أحدكم الأهوال التي يصادفها من هو مثلي هناك. ولكن لندع هذا الأمر جانباً، فليس في نيتي أن أشكو أو أن أجعل من ذاتي المعدومة رمزاً لبطولة الخوض في عالم الظُّلمات وإلا لأدركني المساء قبل أن أروي على مسامعكم ما صرتُ إليه منذ بعض الوقت.

ذات يوم ألفيتُني وحيداً. كان الوقتُ مساءً والظُّلمة حَالكة فلا يَبصر صاحبي إصبعه حتّى لو ألصَقَها بعينه الحَاذِقة. كان مُستلقياً على الكَنَبَةِ في ثيابهِ المُعتَادة وكان يَجهشُ في البُّكاء. يَشرب كأساً تلو الأخرى، ويشعل سيكارة تلو الأخرى، ويجهش في البُّكاء. وكانت الظلمة قد أذابتني في كنفها وامتصَّتني لكنَّني، في هيئتي السائلة، كنتُ أقعي عند قدميه لا أُغادر. أشبهُ صَاحبي في كلِّ شيء، أَقصد في ما عدا التشوُّه الذي يُسببه لي تبدَّل الضُّوء فيقرُّ منّي أو يمطني لكي أبدو دميماً، أُشبه صَاحبي إذًا في كلِّ شيء ولكنَّني ما سَلكتُ نعمة البكاءِ أو عَرفتها من قبل. وعلى الرغم من وَفائي لصَاحبي ما تمكنتُ يوماً من مُجارَاته أو إبداء التَّعاطف بدمعةٍ أذرفها حتى ظننتُ يوماً أنني من الغلظة والفظاظة ما يفوق الوصف. كان صاحبي يجهش في البكاء. ثم غادرني. سمعت دوياً أو ربما جلبة ارتطام هائلة، لست أدري. وفي اليوم التالي وجدتني هنا وحدي. وفي اليوم الثالث أيضاً. وفي الأيام التي أعقَبت ذلك إلى اليوم، بتُّ وحيداً لا قُدرة لي على الحِراك من مكاني. زوجة صاحبي وابنته لا تُعيران انتباهاً إلى الثَّكنة الطفيفة التي تبقع البلاط وموضعاً واطئاً من الجدار. وذات يوم، جاءت الزوجة بالممسحة وعدة التنظيف وحاولتْ أن تَمسَحني بكلِّ ما أوتيت من قوَّة وعَصَبية ولم يمح من هيئتي شيء. فحسبت أنَّني مُجرَّد بقعة من الرطوبة تسرَّبت من أسفل الحائط إلى البَلاط. وكفَّت عن المحاولة. وأصبحت تُحاذر إذا مرَّت بقربي أن يداني ظلّها ظلّي خَوفاً من بلل الرطوبة وشؤمها وكم وددتُ أن يألفني ظلّها فأصبح ظلًا له عَلَّني أجد من أتبعه في روحاتِهِ وغدواتِهِ. حتّى الابنة لم تَتَعرف إليّ وكنتُ دائماً في صُحبة ظلّها حين يرافقها صاحبي في نُزهة قصيرة في الجوار. ليس بِوسعي أن أكون شبيهاً به لأنَّ لا مظهر ولا هيئة له. كان وسيماً، مُستقيم القامة إلى نحول، عصبيّ المَزاج والحركة. وكنتُ أُحاكي حركاته وسكناته ثم غادرني ولا أعلم إذا كان يصحبه ظلٌ آخر هناك.

وأصبحتُ هُنا بلا نفعٍ أو قيمة حتّى وددتُ لو تمرّ بي سُلحفاةٌ فأكون ظلّها، لو يمر بي كلبٌ فأكون ظله، أو حصاة فأكون ظلّها. ذلك أني بتُّ أخاف أن تَمتصّني الظُّلمة مرة واحدة وإلى الأبد. ماذا أفعل بالضوءِ الذي يطلع كلَّ صباحٍ إن لم ينهض صاحبي من نومه، بجسمه كاملاً. الرأسُ والذراعانُ والجذعُ والساقان، لكي أتبعه فتدوسني أقدام السَّابِلة ولا ينال مني ألم، بل أواصل زَحفي الخفيف بين الحصى والنَّقح والعَجلات والنفايات، لا تعيقني أو تلوِّثني، خفيفاً وقانعاً لا أعرف لسعادة الصُّحبة مثيلاً.

ماذا أفعلُ الآن إذ غَادَرني وانتظرتُ طويلاً وما عاد بعد؟ كيف أقضي مَلاوة الدَّهر، فلا عُمر لي، في الركن وحيداً؟ ما الذي يُبقيني على قيد الحياة؟ آسف، لا بد أنكم أدركتم خطأ العبارة. أقصد ما الذي يبقيني، على أن تكون الحياة لكم ولسواكم ولمن يرغب أيضاً. لا تزيلني أحماض ولا يُحطّمني ثقل ولا يَطمرني تراب. رحماك أيُّها الضَّجر!

*من ديوان: مجرد تعب
“بسام حجار: الأعمال الشعرية الكاملة – دار الرافدين ومنشورات تكوين”


قصيدة (حينَ تكونُ السماءُ ليلاً.. حينَ يكونُ الليلُ سماء) مصورةً:


“أراني الآن غير قادر على فهم التعبير إلا بصفته تعبيراً نثرياً محضاً، وأحسب أن هذا المفترق قد يكون خطراً وقد يليه صمت لعجزي عن الكتابة بطريقة أخرى، لكنه في الوقت نفسه درب جديد لأحاول أن أكتشفه بصرف النظر عن قبول الآخرين أو رفضهم، إنني أبحث عن شكل نثري خالص وقد يكون سردياً لقول ما اتضح لي أنني لم أوفق في قوله بعد، وقد يكون هذا الشكل هو الصمت. الصمت المطبق.”

-بسام حجار في حوار مع صالح دياب
(منشور في «السفير»، بتاريخ 27/02/2009)



شهادات:


فهرس ترجمات بسَّام حجَّار

 

ثورة

 

سلافومير مروجك – ترجمة: بسام حجار

في غرفتي كان السرير قد وُضعَ هنا والخزانة هناك وبينهما الطاولة.

إلى أن مللتُ المنظر ذات يوم. فنقلتُ السرير من مكانه ووضعته هناك، ونقلتُ الخزانة إلى هنا. 

ولبعض الوقت سَرَت في كياني رعشة التجديد المُنعشة. ولكنْ في غضونِ بضعة أيّام عاودني الضجر.

واستنتجتُ أنّ مصدر سأمي هو الطاولة، أو الأحرى موقعها الوسطي الثابت.

 فنقلتُ الطاولة إلى هناك وقرّبتُ السرير إلى وسط الغرفة. وبدا الترتيبُ الجديد غير تقليدي. 

مَنحتني لمسة التجديد هذه بعض الحيوية والانتعاش وأذعنتُ، ما بَقيتْ، لبعضِ الإرباك الذي سبّبته. فالحقيقة أنني أصبحتُ عاجزًا عن النوم موليًا وجهي شطرَ الحائط وهو الوضعُ الذي اعتدته في نومي.

إلاّ أنّ لمسة التجديد لم تبقَ جديدة في غضونِ أيّام، بل أصبحت مصدر ضيق وإزعاج. وعندئذٍ نقلتُ السرير إلى هذه الناحية ووضعتُ الخزانة في الوسط.

وهكذا بدا التغيير، هذه المرّة، جذريّاً. فالحقيقة أنّ وضع الخزانة في وسط الغرفة بفوقُ أيّ نزعة غير تقليديّة. إنّه عملٌ طليعي. 

ومع ذلك، في غضونِ أيّام. . . آه، تبّاً لهذه العبارة اللعينة! . . . باختصار، حتّى الخزانة في وسط الغرفة راحت تفقد عنصرَ الجدّة غير المألوفة.

وكان عليّ أن أُحدثَ قطيعة جذريّة، أن أتخذ قراراً أساسيّاً. فإذا كان يستحيل التجديد داخل الإطار الموصوف أعلاه، فينبغي إذاً الخروج نهائيّاً منه وعليه. إذ بدا أنّ كلّ تغيير يخرج عن المألوفِ لا يكفي وحده، وأنّ الطليعيّة لم تؤدّ إلى أيّ تحسُّنٍ ملموس. فأصبح الموقف الثوري ضروريّاً.

عقدتُ العزم على النوم في الخزانة. ويعلم كلّ الذين حاولوا النومَ واقفين داخل الخزانة أنّ مثل هذا الموقف غير المريح سيؤدّي حتماً إلى الأرق، فضلاً عن الإرهاق الذي يستبدّ بالساقين وأوجاع العمود الفقري.

بلى، كان ذلك هو القرار المناسب. وأخيراً، النجاح، النصر التامّ. ذلك أنّ التجربة لم تعترضها هذة المرّة عبارة «في غضون أيّام». فبعد وقتٍ طويل من مزاولةِ هذة التجربة كنتُ لا أستطيع القول إنني لم أعتد التغيير وحسب، أيّ أنّ التغيير ظلَّ على حالهِ تغييراً، بل وأحسَستُ بوطأته في تزايدٍ مستمرّ؛ إذ كانت الأوجاع تتعاظمُ وتشتدّ مع مرور الوقت.

وبدا أنّ الأمور تسير من حسنٍ إلى أحسن، لولا أنّ قوّة احتمالي البدنيّة كانت محدودة جدّاً. وذات ليلة لم أقوَ على الاحتمال. فغادرت الخزانة واستلقيت فوق السرير.

وغفوتُ طيلة ثلاثة نهارات وثلاث ليالي. وعندما استيقظت أزحتُ الخزانة ووضعتها بمحاذاة الحائط، ونقلتُ الطاولة إلى وسط الغرفة، لأنّ وضع الخزانة في الوسط كان يُربك حركتي. والآن تجد السريرَ هنا، حيث كان مِن قبل، والخزانة هناك وبينهما الطاولة. وعندما يستبدّ بي الضجر أذكرُ الحقبة التي كنتُ فيها ثوريّاً.

 

شمس آل سكورتا


لوران غوده – ترجمة بسام حجار

عندما رأى روكو جمهرة الفضوليين، أنهضَ جذعه عن السرير واستوى جالسًا. بذل آخرَ ما تبقّى له من قوّة. كان وجهه شاحبًا أبيضَ، وجسمه هزيلاً ضامراً. راح يتأمّل الناس من حوله، واحتقنت عيناه بشرَر الغضب، فجَمُد الجميع لا يحرّك أحدٌ منهم ساكنًا. عندئذ شرع المحتضر في الكلام:

((إني موشكٌ على ولوج القبر. قائمة جرائمي هي أذيال طويلة أجرجرها خلف عقبيّ. أنا روكو سكورتا مسكالزوني. أبتسم بكلّ فخر. تتوقّعون منّي ندمًا على ذنوبي. تتوقّعون أن أركع على ركبتيّ داعيًا مُستَغفرًا. أن أتوسّل رحمة الإله الربّ طالبًا الغفران  ممن أسأت إليهم. أقولُ لكم تُفًّا. إنّ رحمة الله مياه وديعة يغسل بها الجبناء وجوههم. أنا لا أطلب شيئًا. وأعلم جيّدًا ماذا أصنع. أعلم ما الأفكار التي تراودكم. تذهبون إلى كنائسكم وتشاهدون لوحات جهنّم الجداريّة التي رُسِمت خصّيصًا لمخاطبة عقولكم الساذجة، حيث صغار الشيطان يجرّون الأرواحَ المدنّسة من أرجلها، وحيث المسوخ المقرونة، المفلوقة الرأس، ذات أظلاف الكَبش، تمزّقُ بغبطةٍ أجساد أهل النار، تخوزقهم، تنهشهم، وتلوي عظامهم كأنّهم دمى. يسأل الملعونون الغفرانَ، يركعون، يتوسّلون كالنسوة. غير أنّ الشياطين ذوي العيون البهيميّة لا يعرفون الرحمة. وهذا ما يُثلِج صدوركم، لأنّ الأمور ينبغي أن تكون على هذا المنوال. يُعجِبُكم ما ترونه فيها لأنّكم تؤمنون بأنّها تجسّد العدل والإنصاف. إنّي موشكٌ على ولوج القبر، وأنتم تعتقدون أنّني مقبلٌ على السقوط المتمادي في لجّة الصراخ والعذاب هذين. سوف يُبتلى روكو قريبًا بمثل عذاب اللوحات الجداريّة التي نراها في كنائسنا، تقولون في قرارة أنفسكم. وإلى أبد الآبدين. ومع ذلك لا أرتعد. أطالعكم بابتسامة؛ تلك الابتسامة التي طالما جمّدت الدماء في عروقكم، حين كنت لا أزال حيًّا. أنا لا أخشى جدارياتكم. وصغار الشياطين لم تسكن ليالي يومًا. ارتكبت الذنوب، قتلتُ ونهبت. فَمَن ردّ عنكم قضاء يدي؟ ومَن أعدمَني ليٌنجّي الأرضَ من وجودي؟ لا أحد. لَبِثَت الغيوم عابرةً سماءها، وكانت مشرقةً تلك الأيّام التي لٌطّخت يداي فيها بالدماء. كانت مشرقةً بذاك النور الذي يُلوح ميثاقًا بين العالم وبين الرب. أيّ ميثاق ممكن في عالم أعيش فيه؟ كلاّ، السماء خاوية وأستطيع أن أموت متبسّمًا. أنا مسخ بخمسِ قوائم. لي عينا ضَبْعٍ ويدا قاتل. حيثُ أكون ينكفئ الله. لقد اخلى السُبُلَ التي سلكتها، كما اخليتم أنتم أزقة مونتيبوتشيو، متشبّثين بأولادكم بين أحضانكم. المطر يتساقط اليوم، وإنّي أغادر العالم غير آبهٍ. لقد سكرتُ، وانتشيت، وجشأتُ في صمتِ الكنائس. التهمت بنهمٍ كلّ ما طاولته يداي. وينبغي لليوم أن يكون يوم عيد. كان ينبغي للسماء أن تشرع بابها وأن تصدح جوقة الملائكة بالأبواق مرنّمة، احتفاءً بنبأ موتي، ولكن لم يحدث شيء من هذا. إنّها تمطر. كأنّ الله حزين لغيابي. ترهات. لقد طال عمري لأنّ العالم على صورتي. كل ما فيه يٌمثل رأسًا على عقب. أنا إنسان. لا رجاء لي. آكلُ ما أستطيع. روكو سكورتا مسكالزوني. وأنتم يا مضن تحتقروني، وتتوقّعون لي أبشع العذاب، جعلتكم الأيّام معجَبين باسمي إذا نطقتم به. لأنّكم إذا بصقتم على جرائمي، فلن تقمعوا في قرارة أنفسكم ذلك الاحترام العريق المقيت الذي يكنّه الإنسان للذهب. أجل. أنا أملك ذهبًا، أكثر مما يملك أيٌّ منكم. أملك ذهبًا، ولا أورث شيئًا. سوف تضمحلّ معي سكاكيني وضحكات المغتصب التي هي ضحكاتي. لقد فعلتُ ما كان يحلو لي أن أفعل، طوال حياتي. أنا روكو سكورتا مسكالزوني. فابتهجوا، إنّي موشكٌ على الموت)).

عندما أنهى عبارته الأخيرة، تهالك فوقَ الفراش. خارت قواه. ماتَ ولم يغمض عينيه. في غمرة الصمت الذي خيّم على أهل مونتيبوتشيو المذهولين. لم يطلق حشرجةٌ. لم يئنّ. ماتَ وبقيت عيناه شاخصتين. 

 

النهاية 

 

خورخي لويس بورخيس – ترجمة: بسام حجار 

فتح ريكا بارين عينيه وهو مستلقٍ على ظهره ورأى سقف القصب المنحرف. كانت تتناهى إلى مسامعه، من الغرفة المجاورة، أنغام عزفٍ رديء على القيثارة؛ نوع من الأصوات البائسة الجوفاء التي تتردد وتتردد إلى ما لا نهاية. وشرع يتذكّر، تدريجاً، حقيقة الأمور اليوميّة التي بات لا يطمح إلى استبدالها بأخرى. نظر من دون إشفاق إلى جسده الناحل وإلى غطاء الصوف العادي الذي كان يغطّي ساقيه. وفي الخارج، خلف قضبان النافذة، كانت تمتدّ البراري والمساء. كان قد غفا ولكن السماء يكتنفها كثير من الضوء. مدّ ذراعه اليسرى متلمّساً حتى تحسس جلجل البرونز على مقربة من سريره النقّال، وحرّكه مرّة أو اثنتين. وكانت الموسيقى لا تزال تترامى من خلف الباب. كان العازف زنجيّاً، ظهر فجأة ذات ليلة يدّعي أنّه مغنّ وتبارى مع غريب آخر في أداء أغنية مصاحبة ثنائيّة. وبعد أن ربح عليه منافسه ظلّ يرتاد الحانة وكأنّه ينتظر أحداً ما. وكان يعزف على قيثارته لتمضية الوقت ولكنه لم يعاود الغناء أبداً. فقد تكون هزيمته قد أكسبته مرارة ما. وكان روّاد الحانة قد اعتادوا على هذا الرجل المسالم.

 إلاّ أنّ ريكا بارين لن ينسى أبداً ليلة المباراة تلك. ففي اليوم  التّالي، وفيما كان يغلّف الشاي، شعر فجأة أنّ النصف الأيسر من جسمه قد أصبح بلا حياة كما فقد قدرته على النطق. ولشدّة ما نشفق على مآسي أبطال الروايات ينتهي بنا الأمر إلى أن نشفق على مآسينا الخاصّة. ولكن على العكس من ذلك، فقد رضخ ريكا بارين الصبور لحقيقة شلله كما سبق له أن قبل طوعاً بمصاعب وعزلات أميركا. فهو المعتاد على أن يحيا الحاضر، كما تفعل الحيوانات، كان ينظر إلى السماء ويفكّر في أنّ الهالة الحمراء التي تحيط بالقمر أمارة على المطر. 

جاء ولد ذو سحنة هندّية (قد يكون ابنه) وفتح الباب. أشار ريكا بارين بعينيه يسأله عمّا إذا كان ثمّة روّاد في الحانة. فأشار إليه الولد، متجهّمًا، أن لا. فالزنجي لا يعدّ من الزبائن. وظلّ الرجل الممدد وحده. وظلّت يده اليسرى تداعب الجلجل لبعض الوقت، كما لو أنّها دلالة على سلطته.

 كان السهل، في لحظات الغسق الأخيرة، شبه امتداد مجرّد وكأنّه يرى في حلم. انبثقت نقطة من الأفق وأخذت تكبر حتى اتخذت هيئة فارس كان متّجهاً، نحو هذا البيت. رأى ريكا بارين القبّعة الواسعة الأطراف، والبونشو الفضفاض القاتم والحصان الأدهم ولكنّه لم ير وجه الرجل الذي في اقترابه كبح من عدو دابته وبات يتقدّم خببا. وعندما أصبح على مسافة مئة وخمسين متراً تقريباً عدّل من وجهته. لم يعد ريكا بارين يداه ولكنّه سمعه يتكلّم، يترجّل عن صهوة حصانه ويربطه إلى الوتد ويدخل بخطى واثقة إلى الحانة. 

  ومن دون أن يحيد بنظره عن قيثارته حيث بدا أنّه يبحث عن شيء ما، قال الزنجي بنبرة دقيقة: 

– كنت أعلم، يا سيّدي، أنّك أهل للثقة.

فأجاب الآخر بصوت فج: 

  ـ وأنا أيضاً كنت أعلم أنّك كذلك أيّها الخلاسيّ. لقد جعلتك تنتظر بضعة أيّام ولكن ها أنذا أخيراً. 

رام صمت. وفي النهاية أردف الزنجيّ قائلاً:

ـ أنا معتاد على الانتظار. لقد انتظرت طوال سبع سنوات. 

فأجاب الآخر متمهّلاً:

ـ أمّا أنا فقد مضى عليّ أكثر من سبع سنوات من دون أن أرى أولادي. واليوم رأيتهـم ولـم أرد أن أبدو لهم بمظهر الرجل الذي يتجوّل حاملاً خنجره بيده.

ـ أفهم ذلك، قال الزنجيّ. آمل أن تكون قد غادرتهم وهم في صحّة جيّدة.

استرسل الغريب الذي جلس إلى المشرب في ضحك صريح من القلب. وطلب كأساً لم يلبث أن احتسى بعضه بتلذذ من دون أن ينهيه.

ـ لقد وجّهت لهم نصائح مفيدة، قال، نصائح صائبة لا تكلّفهم شيئاً. قلت لهم، بين أشياء أخرى، إنّ الإنسان لا ينبغي أن يهدر دم أخيه الإنسان.

وسبق جواب الزنجيّ عزف بطيء على القيثارة:

-حسناً فعلت. فبهذه الطريقة لن يكون عليهم أن يشبهونا بشيء.

ـ أن يشبهوني أنا على الأقل، قال الغريب، وأضاف وكأنّه يفكّر بصوت عالٍ: لقد حتم عليّ قدري أن أقتل وها هو الآن يضع الخنجر في يدي من جديد.

ولفته الزنجيّ كما لو أنّه لم يسمع أقواله:

-تقصد النّهارات في الخريف. 

ـ ما تبقّى من ضوء يكفيني، قال الآخر وهو ينهض.

 وقف قبالة الزنجيّ مباشرة وقال له في شيء من الإنهاك:

-دع قيثارتك وشأنها، إذ تنتظرك اليوم صحبة ألحانٍ مختلفة.

  اتجه الرجلان نحو الباب. وفيما يهمّ بالخروج أسرّ الزنجيّ في اذن الآخر:

ـ قد يكون حظّي من هذا أشبه بحظّي من ذاك.

فأجابه الآخر بنبرة جادّة:

     ـ لقد تدبّرت أمرك في المباراة الأولى. ولكن ما حدث هو أنّك كنت تستعجل الوصول إلى الثانية. ابتعدا قليلاً عن البيوت وهما يسيران جنباً إلى جنب. كان كلّ مكان في البرّية يشبه أيّ مكان آخر وكان القمر ساطعاً. فجأة نظر واحدهما إلى الآخر، توقّفا ونزع الغريب مهمازيه. وكان كلّ منهما قد رفع البونشو الذي يرتديه كاشفاً عن ساعده حين قال الزنجيّ:

     ـ أودّ أن أطلب منك شيئاً قبل أن نبدأ. حاول في هذه المبارزة أن تبذل كلّ بأسك وبراعتك كما فعلت، لسبع سنوات خلت، حين قتلت أخي.

     ولعلّ مارتن فييرو سمع في تلك اللحظة، وللمرّة الأولى، منذ بداية حوارهما، كلّ الحقد الذّي كان يتوقّعه. وأحسّ دمه كالنابض. ثمّ بدأ العراك وغطّى النصل الفولاذيّ وجه الزنجيّ بالندوب.

   ثمّة برهات من أوقات العشيّة تهمّ البرّية فيها بقول شيء. ولكنّها لا تقوله أبداً. أو لعلّها تقوله بلا انقطاع ونحن لا نسمعه، أو نسمعه، ولكن هذا الشيء يبدو ممتنعاً على العبارة كالموسيقى.

وهو ممدد على سريره النقّال، رأى ريكا بارين ما حدث. هجم الغريب فتراجع الزنجيّ، وتعثّر وتهدد خصمه وهو يرمقه ثمّ انطلق وأصابه بضربة سكّين في بطنه . . . ثمّ ضربة ثانية لم يستطع صاحب الحانة أن يراها. لم ينهض فيرو. وظلّ الزنجيّ بلا حراك يراقب احتضاره المضني. مسح سكّينه المدمّى بالعشب النابت وعاد أدراجه متباطئاً إلى الحانة، من دون أن يلتفت وراءه. كان قد أنجز مهمّته كقاض وجلاّد ولم يعد، منذ ذلك الحين، أحداً. بل كان الآخر. لم يعد قدره على الأرض. لقد قتل رجلاً.

 

مديح العمى


خورخي لويس بورخيس – ترجمة: بسام حجار 

    خلال محاضراتي العديدة – العديدة جدّاً – لاحظت أنّ المستمعين يؤثرون الخاص على العام، والملموس على المجرّد. لذلك سأتحدّث، بداية، عن عماي الشخصي المتواضع. وأقول فوراَ إنّه عمى متواضع، لأنّه كامل في عين واحدة وجزئيّ في العين الثانية. فما زلت أستطيع أن أميّز بعض الألوان كاللون الأخضر والأزرق. وثمّة لون هو الأكثر وفاء لي، إنّه الأصفر. وأذكر طفلاً (ولو كانت شقيقتي هنا لتذكّرت أيضاً)، كنت أقف طويلاً أمام بعض أقفاص حديثة الحيوان في باليرمو، وتلك أقفاص النمر والفهد. كنت أقف طويلاً أمام اللونين الذهبي والأسود في جلد النمر. واليوم أيضًا اللون الأصفر يوافقني. وكتبت قصيدة بعنوان: ((ذهب النمور)) إحياءً لتلك الصداقة.

    لننتقل إلى واقع نجهله عادة ولا أعرف هل هذا الواقع ينطبق على الجميع. يتخيّل الناس أنّ الأعمى رهين عالم من الأسود الدامس. وهناك بيت من الشعر لشكسبير يبرر هذا التصوّر، حين يقول: ((ناظراً إلى الظلمة التي يراها العميان)). وإذا كان المقصود من الظلمة الأسود الدامس، فهذا البيت لشكسبير ليس صحيحاً على الاطلاق.

    إنّ أحد الألوان التي يأسف العميان (أو الأقل الأعمى الذي يحدثكم الآن) لأنّهم لا يرونها، هو اللون الأسود، وكذلك الأمر بالنسبة للون الأحمر. ((الأحمر والأسود)) هما اللونان اللذان نفتقدهما. أنا نفسي معتاداً النوم في ظلمة كاملة، وعانيت كثيراً من اضطراري للنوم في مثل هذا العالم الضبابي، عالم من الضباب الذي يميل إلى الخضرة أو الزرقة والذي يكتنفه بصيص من الضوء، هذا هو عالم العميان. كنت أودّ لو أستريح على سطح العتمة، وأن أستند إليها. أرى الأحمر كأنّه نوع من اللون البني. فعالم الأعمى ليس الليل الذي نفترضه. أتكلّم، على الأقل، باسمي وباسم والدي وجدتي، ماتا هما أيضاً ضريرين مبتسمين شجاعين، كما آمل أيضاً أن أموت. فواحدنا يرث عدداً من الأشياء (العمى مثلاً…) ولكنّه لا يرث الشجاعة، وأعلم أنهما كانا على قدر كبير من الشجاعة.

    يحيا الأعمى في عالم غير مريح. عالم غير واضح تنبثق منه بعض الألوان: وفي حالتي هناك اللون الأصفر واللون الأزرق (لكنّه الأزرق الذي يميل إلى الاخضرار)، وكذلك الأخضر (لكنّه الأخضر الذي يميل إلى الزرقة). الأبيض تلاشى أو يختلط بالرماديّ. أمّا الأحمر فاختفى تماماً ولكنّني آمل – فأنا أتبع علاجاً – أن يطرأ تحسّن ويصبح في مقدوري أن أرى هذا اللون العظيم، هذا اللون الذي يتألّق في الشعر وله عدد من الأسماء الجميلة في كلّ اللغات. أفكّر في sharlach، بالألمانيّة, وscarlet بالإنكليزيّة، وescarlata بالإسبانيّة وécarlate بالفرنسيّة. وكلّها كلمات يبدو لي أنّها تليق بهذا اللون العظيم. أمّا الأصفر فله في المقابل هذا الاسم الباهت amarillo بالإسبانيّة وyellow بالإنكليزيّة وهما كلمتان تشبهان amarillo، وأحسب أنّه في الاسبانيّة القديمة كان يقال: amariello.

    أحيا في عالم من الألوان وأودّ أن أقول، في البداية، أنّني إذ تحدثت عن عماي الشخصي فلأنّه ليس ذلك العمى التام الذي يفكّر في الناس، ثمّ لأنّ الأمر يتعلّق بي. إنّ حالتي ليست دراماتيكية بصورة خاصّة. بل إنّ الحالة الدراماتيكية الحقّة حالة أولئك الذين يفقدون البصر فجأة ودفعة واحدة: هنا يبدو الأمر كأنّه فرقعة مفاجئة، أو كسوف. أمّا فيما يعنيني فبدأ هذا المغيب (هذا الفقدان البطيء للبصر) منذ ان أبصرت النور. وتفاقم منذ 1889 دون أي لحظات دراماتيكية، أنّه مغيب طويل دام أكثر من نصف قرن.

    للضرورات التي تقتضيها هذه المحاضرة، يتوجّب عليّ أن أجد لحظة مؤثّرة. فلنأخذ اللحظة التي علمت فيها أنّني بتّ فاقداً للبصر، فقدان بصري كقارئ وككاتب. ولم لا نحدد تاريخاُ دقيقاً يستحقّ أن نحفظه جميعاً، أي سنة 1955؟ وهنا لا ألمح في كلامي إلى أمطار أيلول الملحميّة بل أشير إلى مناسبة شخصيّة.

    لقد حظيت في حياتي بكثير من مناسبات التكريم لشخصي، وهناك مناسبة واحدة أؤثرها على غيرها: إدارة المكتبة الوطنيّة.

    تمّ تعييني في هذا المنصب أواخر عام 1955. تسلّمت وسألت عن عدد المجلّدات التي تحتويها المكتبة فقيل لي إنها تقارب المليون. ثمّ لاحظت فيما بعد أنّها تسع مائة ألف مجلّد، وهو عدد أكثر من كاف. (وربّما الرقم تسع مائة ألف يبدو أكثر من الرقم مليون، فالأوّل يستغرق لفظه بعض الوقت بعكس الثاني: يلفظ بسرعة).

    وشيئاً فشيئاً تيقّنت من سخرية الأقدار، فلطالما تخيّلت الفردوس على هيئة مكتبة. فيما آخرون يتخيّلون أنّ الفردوس حديقة أو قصر. وكنت هناك، في فردوسي. في وسط تسع مائة ألف كتاب بلغات مختلفة. ولاحظت أنني لا أكاد أستطيع أن أميّز العناوين. فكتبت عندها ((قصيدة الأعطيات)) التي أستهلها بما يلي: ((ألا لا يذهبن أحد منكم لذرف الدموع أو اللوم/ على ضربات سيد القمر/ الذي في سخريته الرائعة/ أعطاني الكتب والليل معاً)). وأعطيتان تتناقضان: كل ما أشتهي من الكتب والليل، أي عدم قدرتي على قراءتها.

(…)

    لم أدع للعمى فرصة أن يرميني في غمار اليأس. وأرسل ناشري ليخبرني أنّني إذا استطعت أن أسلمّه ثلاثين قصيدة في السنة فسوف يصدرها في كتاب. ثلاثون قصيدة في السنة، تعني أن أضع نظامّا للتأليف خاصّة إذا كان عليّ، في حالتي الراهنة، أن أملي كل بيت منها على آخر ليكتبها. ولكنّها أيضاً مهلة تمنحني بعض الحرية، إذ يستحيل أن لا أصادف ثلاثين مناسبة في السنة لكتابة قصيدة. لم يكن العمى لي كارثة لا تعوّض. ولذلك لا يجب أن ننظر إليه بطريقة مؤثّرة. يجب أن نعتبره نمط عيش، إنّه أسلوب في الحياة من بين أساليب أخرى.

    أن تكون أعمى، فهذا يعني أيضاً بعض الامتيازات. شخصيّاً أدين للظلّ ببعض الأعطيات: أدين له بمعرفتي الإنكليزية، وبعض الايسلندية، كما أدين له ببهجة بعض العبارات، وبعض الأبيات وبعدد كبير من القصائد، كما أدين له بتأليف كتاب آخر، عنونته، ليس دون بعض الزيف، وكأنّه تحدّ، ((تقريظ الظلال)).

    أودّ الآن أن أستعيد حالات أخرى، حالات أخرى معروفة. وأبدأ بالمثل البديهي للصداقة وللشعر و… والعمى، أبدأ بذاك الذي يعتبر أكبر الشعراء قاطبة: هوميروس. (نعلم أنّ هناك شاعراً يونانياً آخر هو تاميريس، وكان أعمى هو الآخر، مؤلّفاته كلّها ضاعت ولا نعرف شيئاً عنه إلاّ عبر ما كتبه ملتون، ذلك الشهير الأعمى، الذي يقول إنّ تاميريس هزمته ربات الشعر في مبارزة شفويّة، فكسرت أرغنه وأفقدته البصر).

    لقد طرح أوسكار وايلد فرضيّة تثير الفضول على ما أعتقد، وبرغم أنّها غير صحيحة تاريخيّاً فهي تبقى جميلة من الوجهة الفكريّة. فالكتّاب، عامّة، يجهدون أن يظهروا مظهر العمق. وايلد كان رجلاً عميق الفكر وكان يحاول أن يظهر مظهر الإنسان السطحي. إلاّ أنّه كان يريد أن يعتبره الآخرون مجرّد ((راوي نكات))، وأن ينظر إليه كما نظر إلى أفلاطون الذي كان يؤمن بأن الشعر هو ((هذا الشيء الخفيف، المجنّح والمقدّس)). إذن، هذا الشيء الخفيف والمجنّح والمقدّس الذي كان أوسكار وايلد يقوله، هو عينه ما جعل العصور القديمة تصوّر هوميروس على هيئة شاعر أعمى، وفعلت ذلك عمداً.

    ونحن لا نعرف هل وجد هوميروس فعلاً. إذ يكفي أن نعرف أنّ ست مدن مختلفة تتنازع مكان ولادته لكي يتبادر لنا الشكّ في تاريخيّته. ربّما لم يكن هناك هوميروس واحد وإنّما العديد من اليونانيين الذين نخفيهم خلف اسم هوميروس. فالمصنّفات القديمة تجمع على وصفه بأنّه شاعر أعمى. إلاّ أنّ شعر هوميروس شعر بصريّ، وأحياناً يكون بصريّاً في شكل رائع، كما كان، إلى درجة أقلّ طبعاً، شعر أوسكار وايلد.

    أيقن وايلد أنّ شعره يفرط في بصريّته وأراد أن يصحّح هذا الخطأ: أراد أن يكتب شعراّ سمعيّاً أيضاّ، شعراً موسيقياً على غرار ما كتبه تنيسون أو فرلين, هذان الشاعران اللذان أحبّهما وأعجب بهما. قال وايلد محدّثاً نفسه: ((لقد قال اليونانيون إنّ هوميروس كان أعمى لكي يؤكّدوا أنّ الشعر لا ينبغي أن يكون بصريّاً بل يكون سمعياً)). ومن هنا قصيدة ((الموسيقى قبل كلّ شيء)) لفرلين، ومن هنا أيضاً رمزيّة وايلد المعاصر.

    ربّما لم يكن هوميروس موجوداً ولكن اليونانيين أحبّوا أن يكون أعمى للتأكيد على حقيقة أنّ الشعر، قبل كلّ شيء، موسيقى؛ أنّ الشعر، قبل كلّ شيء، الأرغن؛ وأنّ العنصر البصريّ يمكن أن يوجد في قصيدة الشاعر وقد لا يوجد. أعرف أنّ هناك شعراء كباراً من البصريين وآخرين ليسوا كذلك: بل هم شعراء ذهنيون، عقليون، ومن غير المفيد هنا أن نذكر أسماء.

    وإلى ملتون، وهو مثل آخر. ونقول إنّ عماه كان إرادياً. لقد علم منذ البداية أنّه سيصبح شاعراً كبيراً. وثمّة شعراء آخرون كانوا يمتلكون مثل هذا الحدس. فــ ((كولدرج)) و((دو كوينسي)) كانا يعرفان، قبل أن يكتبا بيتاً واحداً، أنّ مصيرهما سيكون للأدب. وأنا أيضاً إذا جاز لي أن أتحدّث عن نفسي. فلطالما أحسست أن مصيري سيكون، قبل كل شيء، للأدب، أي أنّني سأصادف بعض الأمور الجيدة والكثير من الأمور السيئة. ذلك أنّ السعادة ليست في حاجة لأن تموّه: السعادة غاية في ذاتها.

    نعود إلى ملتون، لقد أفسد بصره في كتابة كرّاسات دفاعاً عن قرار البرلمان إعدام الملك. وهو يقول إنّه فقد بصره طوعاً دفاعاً عن الحرية. يتحدّث عن هذه المهمّة النبيلة ولا يشكو من عماه: يفكّر أنّه ضحّى بملء إرادته ببصره ويتذكّر رغبته الأولى: الرغبة في أن يكون شاعراً. واكتشف مخطوط في مكتبة جامعة كامبردج يحتوي على عدد من الموضوعات التي فكّر فيها ملتون في شبابه لتأليف قصيدة طويلة.

    قال: ((أريد أن أترك للأجيال القادمة شيئاً لن تستطيع أن تنساه بسهولة)). وكان دوّن عشراً أو خمس عشرة موضوعة. ومن بينها موضوعة دوّنها دون أن يعرف أنّه يفعل ذلك بصورة نبويّة. إنّها موضوعة شمشوم. فملتون لم يكن يعرف، آنذاك، أنّ مصيره، سيكون، على نحو ما، مشابهاً لمصير شمشوم، الذي في استشرافه لمجيء المسيح في العهد القديم كان يتنبأ بمصير ملتون بطريقة أدق. عندما لاحظ ملتون أنّه أصبح أعمى، شرع في تأليف كتابين تاريخيين: ((تاريخ موسكوفيا)) و((تاريخ إنكلترا))، وبقي الكتابان غير مكتملين. وكذلك قصيدة ((الفردوس الضائع)) الطويلة. سعى لإيجاد موضوعة تعني كلّ البشر وليس الإنكليز فقط، فوجد موضوعة آدم، أبينا جميعاً.

    كان ملتون معظم أوقاته في عزلة تامة، يؤلّف شعراً ويحفظه فنمت ذاكرته بصورة مدهشة، كان يحفظ أربعين أو خمسين بيتاً ثم يمليها على من يأتي لزيارته. هكذا استطاع أن ينظم قصيدته. كان يتذكّر ويتأمّل في مصير شمشوم، الذي يشبه مصيره هو، لأنّ كرومويل مات وعودة الملكيّة باتت وشيكة. لقد كان ملتون مطلوباً للسلطات ويفترض أن يكون محكوماً بالإعدام لدفاعه عن قرار إعدام الملك. ولكن تشارلز الثاني – ابن تشارلز الأوّل الذي أعدم – تصرّف بنبل كبير حين جاء من يقدّم له لائحة المحكومين بالموت لتوقيعها، فرفض وقال ((هناك ما يجعل يدي اليمنى ترفض توقيع وثيقة إعدام)). وهكذا كتبت النجاة لملتون ولآخرين غيره.

    عندئذ كتب ((شمشوم الأغونيسي))، لقد أراد أن ينظم تراجيديا يونانية. تدور أحداث المسرحية في يوم واحد، آخر أيام شمشوم، وفوجئ ملتون بتشابه مصيريهما. لأنّه كان، شأن شمشوم، الرجل القوي الذي هزم في النهاية. كان أعمى. وكتب هذه الأبيات التي تكتب في شكل سيء. بحسب تحقيق لاندور، وينبغي أن تقرأ هكذا: ((أعمى في غزّة، على رحى المطحنة، مع العبيد)). إذ كأنّ المآسي كانت تجتمع واحدة تلو الأخرى على كاهلي شمشوم.

    ثمّة قصيدة (من اثني عشر بيتاً) يتحدّث فيها ملتون عن عماه. ومن أبياتها واحد من الواضح أنّ الذي كتبه أعمى. عندما يبدأ بوصف العالم يقول ملتون: ((في هذا العالم المعتم والشاسع). إنّه، بالضبط، عالم العميان حين يشعرون أنّهم فيه، فرادى يبحثون بأيديهم الممدودة، عن متكأ (…)

    ذلك الأرستقراطي؛ من بوسطن، برسكوت أسعفته زوجته. كان تعرّض لحادثة، حين كان طالباً في هارفرد، أفقدته عينا وجعلت الأخرى شبه مطفأة. فقرر حياته للأدب. فانكبّ على الدراسة. وأطلع على آداب انكلترا وفرنسا وإيطاليا واسبانيا. ولقد اهتدى إلى عالمه الحقيقي في اسبانيا الامبراطورية، وهو الذي كان من ألدّ أعداء الجمهورية. وهكذا تحوّل من قارئ نهم إلى كاتب وكان يملي مؤلّفاته على زوجته التي كانت أيضاً تقرأ له. فكتب تاريخ غزو المكسيك والبيرو، وعصور الملوك الكاثوليك وتاريخ فيليب الثاني. فأنجز عملاً سعيداً وشبه تام استغرقه عشرين عاماً.

    لنذكر بمثل آخر، مثل جيمس جويس الذي نحسب أنّ أعماله مزدوجة. لدينا عملاه الهائلان، ولنقل، وغير المقروءين ((عوليس))، و((فينيغانزويك)) إلاّ أنّ هاتين الروايتين لا تشكّلان سوى نصف إنتاجه. فالنصف الآخر، وقد يكون الأهم – كما يقال اليوم – يكمن في اختياره اللغة الإنكليزية التي تكاد تكون لا نهاية لها. فهذه اللغة التي تتجاوز – إحصائياً – كل اللغات والتي توفّر للكاتب الاحتمالات التي لا حصر لها، على الأخص لما يتعلّق بأفعالها الحسية، هذه اللغة إذن، لا تكفيه. لقد فطن جويس، الايرلندي الأصل، أنّ دبلن أنشأها الفايكنغ الدانمركيون. فدرس اللغة الدانمركية وكتب رسالة بالدانمركية إلى أبسن ثمّ درس اليونانية واللاتينية… درس كلّ اللغات وكتب بلغة ابتكرها بنفسه، لغة يصعب فهمها لكنّها تتميّز بجرس غريب.

    أدخل جويس موسيقى جديدة على اللغة الانكليزية. وأعلن بشجاعة (وبكثير من الرياء): ((من بين كل الأمور التي حصلت لي، أعتقد أنّ أقلّها أهميّة كوني أصبحت ضريراً)). وترك جزءاً من نتاجه الواسع ينضج في الظلّ: صاقلاً العبارات في ذاكرته، ومتردداً في صياغة العبارة الواحدة ليوم كامل قبل أن يكتبها ويعيد تصحيحها. وكلّ هذا في حالة من العمى الكامل، أو في فترات من العمى الكامل. وبصورة مماثلة، كان عجز كل من بوالو وسويفت وكنط وروسكين وجورج مور، وسيلة كئيبة لإنجاز ما أنجزوه. كما في استطاعتنا أن نسوق قولاً مماثلاً حول الشذوذ الذي يحاول المستفيدون منه، اليوم، أن لا تظلّ أسماؤهم في هامش الغفلية. ديمقريطس الابديري فقأ عينيه في حديقة كي لا يتلهّى بمشهد الحقيقة الخارجية.

    عددت كثيراً من الحالات. وبعضها من الشهرة بحيث أشعر بالحرج لأنّني تكلّمت، بينها، عن حالتي الشخصية. ولكن الناس يرغبون دائماً في سماع بعض الاعترافات الحميمية وليس لديّ ما يجعلني أرفض لهم هذا (…).

    قلت إنّ العمى أسلوب حياة، أسلوب حياة وليس هو التعاسة كلّها. لنتذكّر هذه الأبيات التي كتبها أكبر الشعراء الاسبان، فراي لويس دوليون، والتي تقول:

((أريد أن أحيا مع ذاتي

وأن أتلذذ بما منحتنيه السماء،

وحدي، دون من يشهد عليّ،

طليقاً من الحبّ، من الغيرة،

من الحق، من الأمل، من الهم))،

كان إدغار ألن بو يحفظ غيباً أبيات هذا المقطع. لي، الحياة دون كراهية أمر يسير عليّ إذ لم أختبر هذا الشعور في حياتي. ولكن أن أحيا دون حب، أعتقد أن هذا ما لا يستطيعه أي منا. ولحسن الحظ أنّه أمر مستحيل. ولكن، برغم هذا، في مطلع الأبيات: ((أريد أن أحيا مع ذاتي/ أن أتلذذ بما منحتنيه السماء))، فإذا ما أقررنا بأنّ الظل من بين أعطيات السماء، فمن في رأيكم، يستطيع أن يحيا مع ذاته، وأن يعرف نفسه، أو بحسب الكلام السقراطي، أن يعرف ذاته بذاته، أكثر من الأعمى؟ (…)

    إذا كان الأعمى يفكّر بمثل هذه الطريقة. فهو من الناجين. العمى أعطية. (…)

    أود أن أختتم كلامي ببيت من الشعر كتبه غوته. لغتي الألمانية ليست ممتازة ولكن أعتقد أنّني أستطيع أن أجد الكلمات دون أن أرتكب أخطاء فادحة. هذه هي الكلمات: (((كلّ ما كان قريباً بعيد))).. كتب غوته هذه الكلمات وهو يفكَر في الغروب عند المساء. ((كلّ ما كان قريباً يبتعد))، صحيح. فعند غياب الشمس تبتعد الأشياء حتى أقربها إلينا، وتنأى عن عيوننا، تماماً كما ابتعد العالم المرئي عن عينيّ، وربّما إلى الأبد.

    كان يسع غوته أن يستلهم غروب الحياة، وليس فقط غروب الشمس، كلّ الأشياء، عندما، تتخلّى عنا، رويداً رويداً. الشيخوخة لا يمكن إلاّ أن تكون أقصى درجات العزلة، أي أنّ أقصى درجات العزلة الموت: ((كلّ ما كان قريباً يبتعد)). هذا الكلام يعبّر أيضاً عن سيرورة العمى البطيء التي أردت أن أحدّثكم عنها هذا المساء، وأردت أن أقول لكم إنها ليست، تماماً، المأساة، وإنّها ينبغي أن تكون أداة، من أدوات أخرى، يمنّ بها علينا القدر أو نُعطاها بمحض المصادفة.

 

العتمة الباهرة


طاهر بن جلون – ترجمة: بسام حجار

لطالما فتَّشتُ عن الحجر الأسود الذي يطهِّر روح الموت. وعندما أقول لطالما، أتخيَّلُ بئراً بلا قعر، نفقاً حفرته بأصابعي، بأسناني. يحدوني الأمل العنيد بأن أبصر، ولو لدقيقة، لدقيقة متمادية خالدة، شعاع نور، شرارةً من شأنها أن تنطبع في مأقِ عيني وتحفظها أحشائي مصونةً كسرٍّ. فتكون هنا، في هذا القبر، في باطن الأرض الرطبة، المفعمة برائحة الإنسان المفرغ من إنسانيته بضربات معزقة تسلخ جلده، وتنتزع منه البصرَ والصوت والعقل.

ولكن ما جدوى العقل، هنا حيث دُفِنَّا، أقصد حيث وُورينا تحت الأرض وتُرك لنا ثقبٌ لكفافِ تنفُّسنا، لكي نحيا من الوقت، من الليالي، مايكفي للتكفير عن ذنبنا، وجُعلَ الموت في بطئه الرشيق موتاً متمادياً في تأنّيه، مستنفداً كل وقت البشر، البشر الذين ما عدنا منهم، وأولئك الذين ما زالوا يحرسوننا، وأولاءِ الذين حللنا في نسيانهم التام. آه من البطء! أوَّل أعدائنا؛ ذاك الذي كان يغلِّف جلودنا المقرَّحة فلا يلتئمالجرح الفاغر إلا بعد وقت طويل؛ ذلك البطء الذي كان يجعل قلوبنا خافقة على الإيقاع العذبِ للموتِ القليل، كأن علينا أن ننطفئ كشمعةٍ مضاءةٍ بعيداً منَّا وتذوب بعذوبة الرغد. غالباً ما كنت أتخيل تلك الشمعة المصنوعة لا من شمع، بل من مادة مجهولة توهم بالشعلة الخالدة، ستارةً رمزية على بقائنا. وكنت أتخيل أيضاً ساعة رملٍ عملاقة، كل حبَّة رمل فيها هي برغلةٌ في جلدنا، قطرة من دمنا، جرعة صغيرة من الأكسجين نفقدها كلما انحدر الوقت نحو الغَور الذي نقيم فيه.

‏”وناديتُ ابنتي
لكي تطفئ الضوء
وتترك الباب موارباً
لكي أسمع – إذا غفوتُ۔
جَلبة البيت من حولي

لكي لا أكون
على السرير
ملكاً يموتُ
بمفرده “.

-ديوان “تفسير الرخام”/  قصيدة “لم يقل لي أحد ما معنى الأسى”

b2bc484b49a5107522ed47187b9e1249 1 ملف خاص: لذكرى بسام حجار (في كلِّ قصيدةٍ قبر)

مقطع بصوت بسام حجار (قصيدة: مزارٌ بجنب الطريق)


“من تكون؟ لست بالتأكيد الجالس على الكرسي خلف الطاولة، قبالة الحائط، ولست المرتحل في وهم الصحراء، ولست مصدر الضوء والانعكاس، ولست الأشكال التي ترتسم متراوحة على صفحة الجدار الأبيض، فما من جدار. إذاً من أنت؟ هل رفعك السراب شخصاً؟”

ديوان “كتاب الرمل” / قصيدة “أنت منذ اليوم”

Bassam Hajjar’s poems in English

Less Than A Drop

Is air enough
For us to split a cold kiss

Darkness damages desire
Living is less than a drop
Don’t waste your whole body
Now

Bullets miss the head
That sleeps on your chest
Bullets miss the mouth and the nipple

Hands see
Then we touch so we don’t get lost

This is your mouth
The chubbiness of the armpit
The curvature of the thigh

And this is my fear

Why your hands read my thoughts

(Translated by Maged Zaher)

 

The Interpretation Of Marble

I don’t mind,
when I look,
absent-mindedly,
from the edge of fifty –
the commotion of pedestrians on a wide street,
down there,
where the shops are,
the taxicabs,
a bunch of students and workers and the unemployed,
policemen,
fathers who are looking for a safe place
in which to keep the pleasures of seeking,
the hardships of seeking,
day by day,
until the seeking day is over,
and the shortest among them,
the most short-lived,
finds refuge in a night of doubts and suspicion.

I don’t mind,
at sunset,
men who drag the disappointments of hardships into lit houses
with the fever of hope
alone
if there is any hope left

And I don’t mind –
when I look,
absent-mindedly –
days I should have lived,
or the shadow I used to be should have lived,
or the person who was for years in my company

And years elapse
like a silent dialogue
like a speeding bus
ahead of me
filled with those who live without me, here
or there

As if these were the memories of the person
I’ve always wanted to be
As if these were memories I’ve read in a book
which I then lost
a book borrowed by a friend then lost
or
maybe I sold it to a book peddler
a basket weaver
who will carry it to the end of the world
and barter it for a loaf of bread
a drink
a warm cup of soup

And I don’t mind
when I look
absent-mindedly
at me
the one who doesn’t mind

For I don’t care what happens metres away
miles away
cities
and seas
and tales
away from the gate of my absent-mindedness

(Translated by Anton Shammas)

A Few Things I Alone Know

He said he was tired
that he had come to his final days,
so he found delight in nothing.

He said daylight hurt his eyes,
dust irritated his lungs,
and that he stayed in his room
sitting on the edge of his bed, his head bowed,
his hands on his hips to support himself.

He said he was tired
and not able to walk in the street
since breathing was a strain,
as if he’d grown used to a kind of suffocation
and was content with as much air
as would not keep the canary alive, dead from the cold.
He said spring
just about killed him,
and the dog days of summer,
and the winter, bitter cold and wet,
and autumn, season of wailing and lamentation,
and that he didn’t know why the chill wouldn’t leave
his limbs.
He said: ‘Take the ring
it is all I own,
that and the fountain pen.
Now wrap me up in woollen blankets,
give me your face to kiss
and your hands
for I might well not see you tomorrow.’
He said he was tired and couldn’t sleep;
that the night was a frightening wilderness.
These minutes or hours may be the last.
So he rises and walks in the hallway,
drinks a mouthful of water,
and the tumult of his heavy wheezing keeps him company,
as if his wheezes spoke to him
like the children or the neighbours or friends over drinks
or casual meetings during an evening stroll,

and he wouldn’t pray
but said: ‘I loved whom I loved
and whoever loved me gave me happiness I did not deserve.
I was alive and the death in my lungs was
a pain and a cough,
and I lived with the smallest bit

of air and pleasure.
I watered the climbing plants until they reached
the ceiling.
I put the canary in its cage,
fed him seeds and water to drink
and he died despite me
and I cried for three days.

No one will inherit the hardship of living as I have,
asthma pains and the bare means.
I made time to wait for my final hour.
I told no one
but stayed to wait.
I told her when she came towards me
let me rest my tired head on your chest
and I didn’t tell her I wanted to cry
but I cried.
A few things I alone know of
made me cry.
I was not afraid.
I was not miserable,
but I cried.’


970cb34fea3071e87e397044b4fb8bc0 ملف خاص: لذكرى بسام حجار (في كلِّ قصيدةٍ قبر)

“ولا أبالي بي
إنْ بقيتُ حيًّا
لأيّامٍ
لأعوامٍ أخرى

فلم يبقَ لي ما أصنعهُ
برجائي
بالشهواتِ التي تبقّت”


ديوان “تفسير الرخام” / قصيدة “تفسير الرخام”


دراسية بحثية: الحقول الدلالية في ديوان (مهن القسوة) لبسام حجار


جميع اللوحات الفنية في الملف للنحات والفنان الإسباني:
إدواردو كيليدا  Eduardo Chillida
والتي يحاكي فيها جذع الإنسان وتشظياته.

2417 2 ملف خاص: لذكرى بسام حجار (في كلِّ قصيدةٍ قبر)

*أعد هذا الملف فريق من مُحبي بسَّام حجار:

محمد الحكيم، موزة العبدولي، عبير أحمد، لبيد العامري، نجاة الظاهري، سارة فلاح، ملاك لطيف، أسرار محمد، شيماء عبدالله، أحمد مرتضى، مريم السعيدي، آلاء خوجة.

زر الذهاب إلى الأعلى