الولادة مرة أخرى – فايز الشمري

مدخل:

وكنتُ أموتُ في نفسي كثيراً

لأولدَ من جديدٍ كلَّ مرةْ

من السهل علينا وصف عملية الولادة أو على أقل التقدير تخيلُّها في الذهن وتمثلُّها في الوجدان، ومما نعرفه عنها من جانب بيولوجي أن هذه العملية هي عملية مختصة بالكائنات الحية دون سواها، وهي كذلك عملية تمر على الكائن الحي مرة واحدة في حياته مثلها مثل الموت الذي هو كذلك من أنصار الرقم واحد.

ولكن ماذا لو تأملنا مسيرة الإنسان في هذه الحياة، وحاولنا الولوج إلى عالم النفس وتركنا الجانب البيولوجي جانباً، يا تُرى كم مرة سنجد الإنسان يولد ويموت؟!

لعل هذه السؤال قد انقدح في ذهن الإنسان الأول منذ تسلل الإدراك إلى عقله وبدأ يستوعب كنه ما حوله محاولاً فهم تفاصيل الوجود الذي يحيط به.

إننا نجد الإنسان من حيث القدرات العقلية التي يمتلكها والهرم المعرفي الذي يتسلقه كائناً باحثاً دؤوباً في سبيل البقاء والخلود، فإن لم يكن بقاءً مادياً كان بقاءً معنوياً، بقاءً غير ملموسٍ، مُدركاً بالذهن، تتناقله الأجيال عبر السنوات والحقب.

170740b5 55814418. sy475 الولادة مرة أخرى - فايز الشمري

وفي رواية (المعطوب وآكلو الورق) يحاول مصطفى الحسن باستخدام التقنيات السردية ترسيخ هذا المفهوم – مفهوم الولادة المتكررة – وذلك عبر استدعاء شخصيتَي (كليلة ودمنة) اللذان يتحدثان بدورهما عن ولادتهما المتكررة التي ابتدأتْ بالنص الهندي الأصيل مروراً بالنص الفارسي ووصلاً إلى النص العربي.

إن هذا الاستدعاء الذي جاء بشكل مقصود وواضح داخل الراوية كان موجوداً كذلك بشكل مُستتر داخل الشخصيات الأخرى التي تختفي وتعود (تموت وتولد) أثناء رحلتنا في قراءة الرواية، وربما كان هذا الأمر غير مُتعمد من الروائي، إلا أنه – في نهاية المطاف – كان موجوداً.

فمريان (المعطوب) ولد في أفريقيا ومات على يد الخاطفين ثم ولد مرة أخرى على يد الرجل الذي اشتراه من دكة العبيد في مكة والذي أصبح عمه فيما بعد ومات بعد انتحار المرأة الغريقة وهكذا دواليك تتوالى هذه الثنائية في أصغر التفاصيل إن شاء القارئ تتبعها. ولسنا هنا بصدد مطاردة تلك الثنائية عند باقي شخصيات الرواية بقدر الرغبة في تسليط الضوء عليها؛ لنعطي للقارئ مفتاحاً من مفاتيح فهم الرواية.

لقد ساهمت الحركة السردية السريعة لأحداث الرواية في تقليص الفجوة بين فصولها وأجزائها اللاتي تعمّد الكاتب بعثرتها داخل الرواية. فكما أن شخصيات الرواية كانت تولد مرات متكررة، كان القارئ المقابل لصفحات الرواية يولد من جديد في تمثّل المعاني وإكمال نواقص لوحة الـﭙـازل التي وضعنا الكاتب داخلها.

لم تصبح لحظة الميلاد إذن لحظة واحدة، بل صارت عبر تطور السنوات لحظات كثيرة تتوالى بتوالي البشر، ففي كل لحظة يولد شاعر قديم في ذهن إنسان معاصر، يولد عبر قصيدة أو بيت شعر، يولد في صفحة كتاب أو مقطع صوتي يتسلل عبر الأثير.

وهذا الأمر الذي ضربنا فيه مثلاً بالشاعر ينسحب كذلك على العالم والفيلسوف والمفكر وحتى الذين فتح التاريخ لهم صفحاته كمجرمين أو ظالمين، فالجميع مؤهل للولادة مرة أخرى أو مرات كثيرة.

إن ما يفعله الإنسان أثناء رحلته في هذه الحياة هي محاولة اختيار أسلوب ولادته القادمة، فسواء كان يدرك ذلك أم يجهله إلا أنه في كلا الحالتين يمارس نفس المهمة ويبحث عن ولادة ترضي طموحاته وتصوراته عن حيواته القادمة.

مخرج:

كم قدْ قُتلتُ وكمْ قد مِتُّ عندكمُ

ثمَّ انتفضتُ فزالَ القبرُ والكفنُ

زر الذهاب إلى الأعلى