ثقبٌ في المخيّلة – صالحة عبيد حسن



يوميات نيويورك (2)
نوفمبر 2021


(1)

 

بين هارلم ومتحف غوغنهايم مسافة 31 دقيقة مشياً على الأقدام، وبينهما أيضاً مساحات هائلة من المصائر المُشتتة، الأسى، القفزة الهائلة بين عالمٍ ثالث وعالمٍ أول، بين حاجة ملحةٍ وترفٍ ضروري، بين جسد حقيقي مُترعٍ بسنواتٍ من القيح والسلاسل والسخط ومخيلة لا تعرف ما هو الميزان الواقعي ليستقيم العالم، بسذاجةٍ تدور في دوائر لونية وتتحايل على القهر والسلاسل، لكنها في آخر الأمر ليست سوى شبحٍ لا مرئي.

(2)


عند باب المتحف، انتبهتُ للتسريب الصغير من مفكرتي الصغيرة التي تُرِكَت مواربةً في الحقيبة، سقطت نغمة دوّنتُ شكلها عندما كنتُ في بيت الجاز منذ ساعة، وصارت رجلاً يمشي بموازاتي، أدركتُ الأمر من شكل أنفه، أنا صنعتُ هذا الأنف وهذا الرأس وتلك المشية القافزة وهذه الدندنة الجريحة.. سقطتْ أيضاً صرخة كأنها أوكورديون معطوب، ومرآةٌ تعكس دائماً صورة شخص آخر، ويدٌ بثلاثةِ أصابع على هيئة مصابيح، ووجهُ امرأةٍ هو بالأصل قصيدة لـ”ريتشارد رايت” ، أضحو أشخاصاً كاملين، يسيرون أمامي لمصائرهم الخالية مني
يومها تذكرت أني سألتكَ:
⁃ هل يشعرُ الخالقُ بالحسرة؟

(3)


يتحايلُ الآخرون على مسافاتهم بالصوت والصورة، وأبترها معكَ بالصوت والمُخيلة، أغلق دائماً خاصية الصورة، وأسرد التفاصيل كما جاءت في الداخل، هائلة وثابة، مهلهلة وعرجاء، فاتنة، محرضة على البكاء، مثيرة للارتياب، فاقعة، أضحكتني، أغضبتني، عبرتها بلا مبالاة. وهكذا دون أن تسألني عنها مرتين، تراها بداخلكَ، وأعيد أنا تلقفها من جديد وأنتَ تمنحها صوتكَ.

أستيقظُ في الثالثة بعد انتصاف الليل، هلعةً ، لأخبركَ بأني خرجتُ من النوم لأرى من النافذة الضخمة بغرفتي في الفندق، جناح خفاشٍ ضخم يحلُّ مَحلَّ ذلك الجناح الأبيض، الذي وُضِع بالأساس في مكان برجي التجارة العالميين، كنتُ أبكي، كان خوفي من كونه شيئاً آخر تسرب من المُفكّرة، لا بُدَّ أنه الثُّقب، لا بُدَّ من أنني كنتُ قد دوّنتُ الأمر في مكانٍ ما، توسلتُ صوتكَ لأن يُصلِح الأمر.. هل طلبتُ منكَ أن تأتي لنيويورك حالاً؟ لا أذكر، لكنني أذكر بأنكَ أشرت لكونها الحادية عشرةَ صباحاً في الإمارات، وبأن هناك جناحَ فراشةٍ سقط في قهوتكَ قبل قليل، فأهدأ..
تلى الأمر طرقات خفيفة على الباب، كان الرجل صاحب الدندنة الجريحة؛ مُبللاً، وهو يريد أن يعود ليرتق الثقب في المُخيلة، لأنَّه لا يعرف لنفسه مكاناً آخر يقيمُ فيه.


*نص: صالحة عبيد حسن


زر الذهاب إلى الأعلى