دلال جازي
مختارات
اقذف قطعة نقود، اقذف أي شيء معدني له رنين
في الفراغ الأسود الذي تقف بذهول أمامه
أصغِ جيداً … إن لم تسمع صدى
فإما أنَّه عميق جداً، أو زائف!
تريد أن تكتشف حقاً؟
ضع قدميك على الحافَّة، تأمل في سقوطك
واقفز.
***
الوسادة الصغيرة المتكئة على الأريكة
والفقد برائحة المشمش،
والضوء!
هذا هو الخريف، عندما ينسى الشجرة في الخارج ويدخل البيت.
***
هذه هي الغيبوبة :
جسد على سرير أبيض
يتدلى مثل فاصلة
وروح عالقة في مكان ما.
***
أحسد الشرخ في الجدار
الخط الوحيد الذي لا يتوقع أحد استقامته
ولا أحد يطلب منه الوصول إلى مكان ما.
أعرج، وسعيد بنزهته!
***
كدتُ أن أصدق
ظلالهم الطويلة التي تسللت عبر السياج،
لا تعني
أنّهم معنا!
***
أن تصادق الجرح يعني
أن يخرج منك وتخرج منه … فتتمايزان عن بعضكما
ويكون لكل منكما كينونته الخاصة،
أن تلقي عليه التحية في الصباح وتتأمله وهو يمشي معك الطريق
فتقيس حجمه بظلك، وترى أنك دائماً أطول وأكبر
أن تتذكره أحياناً وتنساه كثيراً … كما يفعل الأصدقاء
***
بإمكان كلّ منّا
ألاّ ينام وحيدًا
لماذا لا تحرّك مقبض بابي
في هذه اللحظة
و تدخل
كضوء
***
غرق
لماذا أتمسّك بحبل
في طرفه الآخر نهايةُ العالم؟
***
لو أن الهاتف يرن،
ستكون ممتناً، ممتناً جداً، لهذا الأحد الذي خطرت على باله في هذه اللحظة
لو أن أمك تناديك فجأة
أو أن إخوتك كسروا لعبة أو رموا بكرة أمام بابك،
لو أن صوتاً غير مفهوم المصدر، يشبه ارتطام سيارة بأخرى أو انفجار خزان دفعك لكي تهب على قدميك وتتحرك بضع خطوات نحو النافذة
لو شغلك شيء، أي شيء
أو أنك تنام، تنام حقاً
لأنقذك الله من الفكرة التي أتتكَ الآن على هيئة مخلب قط أو قرن شيطان!
محمد النبهان
جرسٌ في الحائط
تأخذني من كفي للسّينما..
نحضُرُ فيلماً عن فردوسٍ ضائع
عن حُزنِ صَديقينِ.. وعن وَطنٍ أوحدَ
تَفتحُ أزرارَ قَميصي، وتنامُ على صَدري.
تأخذني من جوعي لمطاعمَ سرّية..
النادلُ جرسٌ في الحائطِ
والأطباقُ الصِّينيةُ قلقٌ ومواعيد.
تأخذني من قلقي..
لمساءٍ مزدحمٍ بالرقصِ
وأجسادٍ تتمايلُ شبقاً
فوق تضاريسِ اللَّذَة.
تأخذني مِن تَعبي..
لشتاءٍ مبلولٍ
يَتساقَطُ مِن عينيهِ حَبيبانِ
يَسيحانِ بِبَردِ الشّارع.
تأخذني مِن قَلبي..
***
مدينة أخيرة
نرحلُ
لا نتركُ أثراً للبيتِ يدلُّ عليهِ
ولا نحملُ من ذاكرةِ البيتِ حَنينٌ
أو شنطةُ سفرٍ فارغةُ المعنى
الغابةُ
حينَ تُنادينا
نمضي..
أربعُ خطواتٍ في درجِ السهوِ
وَنُعطي للعالمِ ظَهرينا.
***
كأن لا شيء
كلُّ شيءٍ كأن لم يكنْ:
لا المساءُ المساءُ،
ولا خطوةُ الدّربِ تفضي إلى الدّربِ،
لا الدَّربُ،
لا عتبةُ البابِ،
لا درجُ البيتِ،
لا البيتُ، لا رقمُ الهاتفِ،
أو وجعُ الانتظارْ.
كلُّ شيءٍ كأن لا يكونْ:
السّماءُ التي أَسْقَطتني؛
السّماءُ التي سَقَطَتْ من يَديَّ..
لا المرأةُ/ الحلمُ،
لا قبلةُ الجمرِ،
لا الخمرُ،
لا الجسدُ، السّريرُ، الأَريكةُ،
لا صرخةٌ في الجدارْ.
كلُّ شيءٍ كأَنْ لا شيءَ:
لا الذاكرة!
وجهكِ الذاكرةْ.
مريم العبدلي
لحم الأرض العاري
وكُلُّ الذين قَتلتُهم
نَزَفوني
توضّأت
أكتافهم بالضوء
توكأت
أكبادهم
عظام الآخرين
أيها البؤس الطالعُ
من فَخذِ السماء
من يَخيطُ جُرح
دمك؟
هل تُجرح
الدماء؟
و هل ينزفُ الدم
دماً آخر؟
أعرِفهُ هذا العبثْ
أعرفُ هذا العبثَ
اللعين جيداً
ذاك الذي
يُربّي في العقلِ
أعشاشاً للغبار
يرقُدُ فوقَه..
خليقتين كاملتين
تَكبُرُ ذراتُ الغبار
تصيرُ وثناً
تنضجُ أكثر
فتصبح
أرضاً
الأرض؟
غبارٌ تفقس
الماء؟
لحمُ الأرض العاري
الطين؟
أُحجيةُ الشجر!
البشر؟
أجسادٌ تأثثتْ
رؤوسها بِلُغمٍ
أسموه العقل
أرض
ماء
طين
و بشر
كَكلِّ اللذين
قتلتُهم
نزفوني…
تهاني فجر
سمكة
كلُّهم يبحثون عنّي…؛
القدم المبتورة التي تحاول الفرار..؛
طقم الأسنان الذي يعضُّ على جُثة
الهواء الرطب الذي يجف بملابسي الملقاة على ضفة نهر؛
النهر الذي ابتلعته أنتَ وأخرجته أنا من فمي
الأسماك الصغيرة الملوّنة النافقة من جيوبي الأنفية
ضوء النيون نصف المحترق
الشجرة التي تشبه فكرتنا التي علقناها على باب الجنة
قُبلتكَ التي وقعتْ في منتصفها ذبابة، ولم تكملها
الذبابة التي دهستها دبابة في ساعة متأخرة
ليلة البارحة
الضفادع التي تلتقط أفكاري المُتطايرة بخفة
كلُّهم يقتفون أثر غيابي..؛
وأنا..؛
مثل سمكة ملساء
أنزلق تحت جسدكَ
كلُّهم يريدون التلصص علينا..؛
ونحن نضع قُبَلنا في حوض الأسماك
الصغير
ونحن نعبِّئ لُهاثنا المحموم
في بالونات الهيليوم
ونُطلقها في السقف
ونحن ندسُّ تأوهاتنا بين الأقراص المُدمجة
كي لا يلاحظَها أحدٌ
وأنت تبلغ بُحَّتي وتُخبِّئنُي
بين فخذيكَ
عاريةً
حتى لا يظهرَ طرف فُستاني
إن دخل علينا أحد.
دخيل الخليفة
تأخذين يدي من مودتها
تعبرينَ دمي باتجاهي
تنقرين التباريحَ بين عيوني
تلبسين حنيني
تأخذين يدي من مودتها
تكسرينَ المسافةَ نصفَين
نصف يحنّي بطاعتهِ قدَميكِ
ونصف يحوّلُ أنفاسهُ خيمةً ..
تستظلُّ بجفنينِ لا يقرآن النعاس.
خذي من يدي دفئَها
واتركي الروحَ تستدرجُ العشبَ
كي يستمرَّ المواءُ على مرمرٍ لا يعاتبُ غير السراب
خذي من شظاياي وعدَك
ولْتُطْلِقي الارضَ وعلاً يدورُ على جسَدي
ويَحُكّ بقرنيه صفصافةَ الغارقينَ بأنفاسهم.
دافقاً جئتُ كي استريحَ على وترٍ لا يودعُ طيشَ الهواءِ بإيماة ٍ من يِبَاس
وعانقتُ نفسي ليحرثني الجمْرُ .. يطعنُني الوجْدُ
ينفضني البردُ عن قرصاتِ الرصيفِ
فكم قدَمٍ دعَكَتْ وجهَهُ ليمتصَّ جُرحي ..!
يعلِّقني الوقتُ من ياقتي بين نهَريكِ
تسقطُني ضحكةٌ كالصهيلِ بدوّامةِ الهذَيان
أنا الباحثُ الآن عن جثّتي في الهشيمِ
إلامَ تنامينَ بيني وبينَ الوميضِ كأنَّكِ ما كنتِ فاكهةَ الاشتهاءَ؟!
خذي من يدي دفئَها
ألبسيني سماءَك حتى أذوبَ بعشبكِ يا رئةً من نبيذِ التضادِّ تشكِّلُ ديدَنها
أَخنقُ الليل كي تخرجي من صدَى الحائطِ المرِّ مغسولةً بالتناهيدِ مأهولةً بي
أحبُّك رغم لحاف الهواجسِ
نامي على وتَرِ النارِ في سَفري لسرابكِ
يُرْبِكُني الوقتُ اذ يتوقَّفُ ما بينَ صوتكِ والقلبِ
لو تكتبينَ على بُحَّةِ الليلِ عمري
ولْدنا معاً لنعودَ منَ الأفْقِ طفلينِ للتوِّ يستدرجانِ بعيضَهُما نحو قلبيهِما
تنامين ينسكبُ الصبحُ من صمتِ غربتنا لينقِّطَ أسماءَنا مطَرُ الياسمين.
إلى أين تمضينَ بي ..؟
تحملين أناي إلى زمنٍ قد نسيتُ ملامِحَهُ
من حفيفِ المساءات جئتِ لكي تقرئي جمْرِ هذي المرايا
يعلِّمني خصرُكِ السحْرَ أعطيهِ عمري
يحيلُ الفضاءاتِ نايا …….
تعالي ولو بضْعَ أغنيةٍ لنُعـِدَّ المراجيحَ للشمسِ
لا تشربي من دمي في الظلاَمِ
أحبُّكِ
من يوقدُ الشِّعرَ تحتَ لحافكِ..؟ يحْتَضِنُ الآهَ بين جناحَيكِ..؟
ثم يبعثرُ ليلَكِ ما بين صومَعتين؟
أعيدي إليَّ الندَى
فأنا الجافُّ من عسَلِ الحبْرِ
هيا اكتبيني مساءً يعادل إغفاءَتين من الحبِ
ينثرُ أنجمهُ بين شهدِكِ والقلبِ
ياضحكة الحُلْمِ فوق سرير مراهقةٍ تَسْتَدلُّ على ذاتِها من خيالِ الحَبيب الخرافيّ
أنا العاشقُ الغضُّ
أبحَثُ عن همسةٍ في صلاةِ العصَافير
عن بَجَعٍ في خريرِ الكلام
وعن زبَدٍ في الرُّخام المطرَّزِ بالآهِ
عن جمْرةٍ في مراح القوافلِ
عن شهوةِ الملْح فيكِ
وعن قريةٍ تَتَجامحُ فيها الغيومُ أيا امرأةً من ندَى.
اتركيني ألمُّ الشموعَ التي شربَتْ دمعَها من فحيحكِ وانسَيْ وصايا الجذورِ بمعطفِكِ الفَرْوِ
ولْتَهدُمي دميةَ الثلجِ هذا المساء
فلا بابَ للقَمرِ الخارجي سوَى سفَري بينَ عينيكِ
نحو النهاية .. نَحْوَ النهايةِ
نحو النها….
عائشة العبدالله
عكاز في المقعد الأخير
عكس الريح.. عكس التيار..
عكس عقارب الساعة..
وعكس الرائحين لحظة الرواح..
وعكس الغادين في وقت الغدوّ..
أسيرُ وقلبي..
مثل عابريْنِ لا يبحثان عن وطن..
بل عن منفى أقلّ غربة..
أقلّ وحشة..
عن فجوةٍ أقلّ اتساعاً، وابتلاعاً، للأحلام..
أسيرُ وقلبي..
مثل عكازين مبتورين..
يتكئُ جرحٌ على جرحٍ آخر ..
أركبُ معه أول حافلة تعترض الطريق..
وأنزلُ في محطةٍ لا تريدني ثقباً في جيبها..
وأنساه وحيداً.. في المقعد الأخير.
لأنَّكٌ مُشتعلٌ كاللهب.. لأني مدفوعةٌ كالريح
مدينتي موحشةٌ في النهار..
الحمامُ في شرفتك، لا يأوي إلى نافذتي،
والبحرُ في كفي،
لا يمتد على شراعك،
الموسيقا عابسةٌ في الكلام،
والوجوهُ التي تضحك، لا تخضر ابتسامتها،
الأقدامُ تركض دائماً ولا ترقص،
والعيون التي تراقب الحبّ،
أضعاف تلك التي تحب،
ولأنَّك مشتعلٌ كاللهب، لا تمنعكَ الأبواب،
ولأني مدفوعةٌ كالريح، لا يوقفني الرصاص،
ولأننا رفضنا الحدود والخرائط،
لم نلتصق بخطوط الأرض،
لم نلتحم بشيءٍ سوانا،
وكلَّما نظر أحدنا إلى الشمس،
رأى ظلّ الآخر وطنه.
ممشى خشبي
هنا أنا..
هناك أنت..
بيننا،
نهرٌ أبيضُ طويل،
فراغاتٌ في شبكة صيادين،
وخمس دقائق لا أملكها، لأصنع من ذراعي
جسراً إليك.
هنا أنا ..
أرضي جسدٌ أملس،
وصوتك شامة على خدي.
هناك أنت..
أعشابك ملاءاتٌ بيضاء..
ويدي زهرةٌ على قلبك.
كل الجدران التي بيننا تصبحُ مرايا،
كل الصدى ينبضُ بصمت عينين،
كل العقاقير لها رائحة عناق قديم..
ودمعتي التي تبلل طرف الورقة،
تصبحُ زورقاً،
يمد شراعه على كتفيك.
هنا أنا..
هناك أنت ..
والقصيدة بيننا،
ممشى خشبيُّ بين ضفّتين.