بورتريه لغارثيا لوركا
يبحث عن جذور جناحيه
فيتحرّكُ جبينه يمنةً ويسرة.
وفوق اضطرابِ الوجه
تنسدلُ
ستارةٌ من العالم الآخر
محدودبةً وواسعة.
دودةٌ
تصرخ في أنفه
محاولةً تهشيمه
حانقة…
يوناني يقفز
من عينيه البعيدتين.
يوناني
تخنقه
التلال الأندلسية
المتعرّشة على وجنتيه
والوادي المرتجف
في فمه.
عنقه ينفر
إلى الخارج
تائقا
إلى السكين المنسوج
من مياه مسننة.
إذبحوه
من الشمال إلى الجنوب
من الشرق إلى الغرب!
إجعلوا الرأس يطير،
الرأس فقط،
ذاك المجروح بالأمواج البحرية
السوداء
وبأصداف من شبق
تقع مثل جريسات
على وجهه
ذي القناع القديم.
اخنقوا
صوته الخشبي
الأجش
المختبىء
في ديماس الأنف.
حرِّروه منه
ومن ذراعيه الرقيقتين
ومن جسده الترابي.
انقضّوا عليه وحيدا
قبل أن تقذفوه
نحو الفضاء
حتى تصير قوسا حاجبيه
جسرين
فوق الأطلسي
والهادئ…
هناك حيث عيناه
سفينتان تائهتان
تجولان
بلا مرفأ
ولا شواطئ.
***
سوف أنام
يا أسناناً من زهر، يا قبّعةً من ندى،
يا يدين معشوشبتين، وأنت، يا مرضعتي الرقيقة،
جهّزي لي الشراشف الترابية
ولحافا من الطحالب المقلوعة.
سوف أنام، يا مرضعتي، ضعيني في السرير.
أضيئي لي مصباحا عند رأسي
أو كوكبة نجوم، تلك التي تعجبك:
كلّها جميلة، فقط اخفضيها قليلا.
الآن دعيني وحدي: سأسمع البراعم تتفتّق،
ستهدهدني قدم إلهية من عل،
وعصفور سيرسم لي إيقاعات
لكي أنسى.
شكرا… آه، خدمة أخرى:
إذا اتصل بي ثانيةً
ذاك الذي عبثاً أنتظر،
قولي له ألا يصرّ،
قولي إني خرجت.
***
يوم السبت
استيقظتُ باكرا ومشيت حافية
بين الأروقة: نزلت إلى البستان
وقبّلت الغرسات،
امتصصت بخار الأرض النظيف
المتدفق في العشب،
استحممت في النبع المزنّر بسموات خضراء،
ثم مشّطت شعري المبلول
عطّرت يدي
ولبست ثوبا من كتّان
أخفّ من الشاش،
وبقفزة رشيقة حملت إلى البهو
كرسيَّ الذي من قشّ.
مسمّرتين في البوابة كانتا عيناي،
مسمّرتين في البوابة.
قالت الساعة: انها العاشرة صباحا.
في الداخل صوت خزف وكريستال:
غرفة الطعام في الظل، والأيدي تعدّ المائدة.
في الخارج شمسٌ كما لم أرها قط
فوق رخام الدرج الأبيض.
داخلٌ وخارجٌ
وبينهما عيناي،
عيناي المسمّرتان على البوابة،
مسمّرتان:
تنتظرانكَ.
***
أنا في قاع البحر
في قاع البحر
بيتٌ من الكريستال
يطلّ
على جادة
المجوّفات.
سمكةٌ ذهبية كبيرة
تجيء عند الخامسة
لتحيّيني
تحمل لي
باقة حمراء
من زهور المرجان.
أنام في سرير
أكثر زرقة بقليل
من زرقة البحر.
أخطبوط
يغمزني
من وراء الزجاج،
وفي الغابة الخضراء
التي تحوطني
– دينغ دونغ… دينغ دونغ –
تتأرجح وتغنّي
جنيات البحر
اللواتي من صَدَف أوقيانوسيّ أخضر.
في قاع البحر
أنا
وفوق رأسي
تحترق في المغيب
أطراف البحر
المنتصبة.
***
تريدني بيضاء
أنتَ تريدني فجراً،
من زبد تريدني،
من صَدف.
تريدني زنبقةً
أفضل من كل الزنابق، أصيلة
ذات عطر ناعم
وتويجة مضمومة،
لا يعبرني حتى
شعاع قمر واحد
ولا تزعم زهرة ربيع
أنها أختي.
ثلجية تريدني،
بيضاء،
تريدني فجراً.
أنت الذي حملتَ كل الكؤوس
بين يديك
ومرّغتَ شفتيك
بالفاكهة والعسل،
أنت الذي،
مستورا بأوراق تين،
تركتَ لحوم المأدبة
لتحتفي بباخوس،
أنت الذي
ركضتَ صوب الدمار
في بساتين الخداع السوداء
مرتديا اللون الأحمر،
أنت الذي هيكلك العظمي
لا يزال سليما،
لا اعرف حتى الآن
بأي معجزة
تزعمني بيضاء
(سامحك الله)،
تزعمني أصيلة
(سامحك الله)
تزعمني فجرا!
أهربْ إلى الغابات
إذهب إلى الجبل
اغسل فمك
عش في الأكواخ
المس بيديك
الأرض الرطبة
غذِّ جسمك
بالجذور المرّة
اشرب من الصخور
نم فوق الندى
جدِّد أنسجتك
بالملح والماء
تحدّث مع العصافير
واستيقظ باكرا،
وعندما يعود إليك
جسمك
وعندما تسكب في هذا الجسم
روحك
الضائعة في المخادع،
آنذاك، شئني أيها الرجل الطيّب،
شئني بيضاء
شئني ثلجية
شئني أصيلة.
***
ثقل متوارث
قلتَ لي: والدي لم يبك يوما،
قلتَ: جدي لم يبك يوما،
أبدا لم يبك رجال سلالتي:
كانوا من فولاذ.
وإذ قلتَ ذلك انبجست منك دمعة
وسقطت في فمي.
لم اشرب في حياتي كمية سمّ أكبر
من قدح صغير كهذا.
أنا المرأة الضعيفة، المسكينة التي تفهم،
ميّزتُ وجع القرون ما ان شربته.
آه، لا تستطيع روحي
حمل ثقلك كله.
***
حدس
حدسي يقول لن أعيش طويلا.
رأسي هذا يشبه البوتقة،
يطهّر ويحرق،
ولكن بلا شكوى وبلا ظل رعب.
حدسي يقول لن أعيش طويلا
ولكي أنتهي أودّ لو تولد –
في مساء بلا غيوم،
تحت شمس صافية –
أفعى بيضاء من ياسمينة كبيرة
وبرقّة، برقّة تلدغ قلبي.
***
صمت
في أحد الأيام سأكون ميتة، بيضاء كالثلج،
رقيقة كالمنامات في مغيبٍ ممطر.
في أحد الأيام ميتةً سأكون، باردةً كالحجر،
هادئةً كالنسيان، كاللبلاب حزينة.
سأحقق في أحد الأيام حلمي المسائي،
ذاك الحلم الغالي حيث تنتهي الطريق.
سأنام في أحد الأيام مع حلم فسيح فسيح،
حدّ أن قبلاتكَ نفسها لن تستطيع إحياء الخدر.
في أحد الأيام سأكون وحيدة، مثلما الجبل وحيد
بين الصحراء الشاسعة والبحر الذي يغسله.
سيكون ذلك المساء طافحا بالرقة الإلهية
بالعصافير الصامتة والنفل البرّي.
وسيدخل الربيع الزهري مثل شفة طفل
من الأبواب بلهاثه المعطّر.
وسيضع الربيع الزهري – الربيع الزهري أجل! –
وردتين صفراوين على خدّي…
الربيع الرقيق، ذاك الذي وضع ورودا
قرمزية وبيضاء على يديّ الحريريتين.
الربيع الرقيق نفسه الذي علّمني أن أحبك
الربيع الذي ساعدني في الوصول إليك.
آه من المساء الأخير الذي أتخيّلني فيه ميتة
مثل أنقاض مدينة ألفية وخالية!
آه من ذلك المساء الذي يشبه صمت البحيرات
الصفراء والساكنة تحت شعاع القمر!
آه منه مساءً ثملا من التناغم الكامل:
كم مريرة هي الحياة، وكم هو الموت مستقيم!
الموت المنصف الذي يحملنا إلى النسيان
مثلما يستقبل العش عصفورا تائها.
وسيقع في بؤبؤيّ ضوء خيِّر،
الضوء الإلهي الأزرق للساعة الأخيرة.
ضوء خافت سينزل من السماء
وسيسكب في عينيَّ حنوّ غلالة.
ضوء خافت سيغمرني كلّني
بحجابه اللامحسوس كطرحة عرس.
ضوء سيهمس في روحي على مهل:
“الحياة كهف، الموت هو الفضاء”،
وسيمحوني في سكون بطيء وسامٍ
مثلما عند الشاطئ الذهبي يمّحي الزبد.
***
اللمسة الضائعة
تهرب اللمسة من أصابعي بلا سبب
تهرب من أصابعي… اللمسة الشريدة
المتدحرجة في الريح، بلا قدر ولا غاية،
اللمسة الضائعة، من سيلتقطها؟
استطيع أن أحب هذه الليلة برحمة لامتناهية
استطيع أن أحب أول من سينجح في الوصول اليّ،
لكن لا أحد يأتي. هناك فقط دروب مزهرة
ولمسة ضائعة تتدحرج… تتدحرج…
إذا نادوك في الريح هذه الليلة يا أيها المسافر،
إذا ارتجفت الأغصان بتنهيدة رقيقة
إذا ضغطت على أصابعك يدٌ صغيرة
راحت تأخذك وتتركك، تنالك ثم ترحل،
وإذا لم تر تلك اليد، ولا الفم الذي يقبّل،
إذا كان الهواء هو الذي ينسج وهم النداء،
آه يا أيها المسافر الذي يحمل السماء في عينيه،
أنا الذائبة في الريح
هل ستعرفني؟
***
أنا تلك الزهرة
حياتكَ نهر كبير يجري غزيرا.
على ضفته، خفية، أنبتُ بتؤدة.
أنا تلك الزهرة الضائعة بين الأسل والحشائش
التي تغذيها برحمتك، لكنك لا ترمقها قط.
عندما تعلو تسحبني فأموت على صدرك،
وعندما تجفّ أموت ببطء في الوحل
لكني أعود فأنمو بتؤدة
عندما في النهارات الجميلة تدفق غزيرا.
أنا تلك الزهرة الضائعة التي تنمو على ضفتيك،
خاشعة وصامتة، ربيعا وراء ربيع.
——————-
*نصوص: ألفونسينا ستورني
ترجمة: جمانة حداد