“واهياوا” ما تزال
بلدة حمراء ترابية
حيث الرائحة اللزجة
للأناناس المقطوف
والمرمي في الحقول الواطئة
تتصاعدُ لتختلطَ
بالأوراق الشوكية
للصبّار
في الوادي المجاور.
.
عشنا هناك
قرب الحافّة
حيث السّحلبية تنمو عالياً
مثل الفوانيس في الليل،
وحيث ثمار الحبّ تنضجُ
على الأغصان
قبل أن يتمّ قطافها.
.
ترعرعنا هناك
في المطر الراسخ
الذي يهطل مثل ستائر بنية اللون
تختلسُ أمّي النظرَ من خلالها:
مساحات من الكآبة.
كانت تُبقي الأطفال تحت أغطيتهم.
بنينا بيوتاً داخل بيوت،
نازعين الوسائد والشراشف
عن سرير أهالينا،
وشيدنا جدراناً خارج
مجلة (ناشنال جيوغرافيك)
التي كان والدي يتابعها منذ سنوات.
لطالما أشبعنا جوعَنا
على تلك الصور من كل أنحاء العالم،
فيما كان الوحلُ ينقّط
من النوافذ،
فوق الأوراق الخضر الكابية
لسعَفِ البلح
ونحن نأكل السبانخ.
كان الندى الناعم ينمو على شكل خواتم
حول المغسلة
فيما حشرات الميئنية
تسبح عبر الأنابيب
على أقدام كثيرة،
والفطرُ ينمو
حول أصابعنا الصغيرة
جاعلاً كلّ شيءٍ
زلِقَ الملمس.
كنّا موسوسين وشاحبين.
.
ذات ليلة أتذكّر
كيف أنّ أختي صرخت.
كل الأضواء في المنزل
أنيرت دفعةً واحدة.
في السطوع المفاجئ
اندفعنا إلى غرفتها،
ووجدناها متكوّرة
في الزاوية الأبعد للسرير،
فستان نومها مشدودٌ إلى جسدها بطريقة غريبة،
عيناها كبيرتان كعينيّ،
تحدّقان بعيني الخفّاش
الملتصق على الشاشة.
.
لكنّ أظافره القارضة
سرعان ما انفكّت أخيراً
ما إن لمسَ أبي فروَ جسدِه
بعصا المكنسة.
أجنحة مائية
الصباحاتُ له،
زرقاء وبيضاء،
مثل غطاء الطّاولة عند الفطور.
إنه سعيد في المنزل،
وبنقرةِ ملعقةٍ
يسحبُ العصافير
إلى تحت كرسيه.
يغنّي فتختفي الصحونُ.
.
أو حاملاً قلمَ الطباشير كشمعةٍ،
يرسمُ دائرةً.
إنّه يعسوبهُ رقم مائة،
طالباً المزيد من الورق،
وهذا اليعسوب أحمر الجناحين
مثل الآخرين،
يريدهُ أن يطيرَ، ببساطة،
بالانحناءة العفويةِ لتوقيعهِ.
.
يسمّيها أجنحةً مائيةً،
تلك المصاقل التي لفّها حول ذراعِه.
أرتدي فستاناً من القلق،
وأكنسُ عصافيرَ الصباح.
إلى الماءِ يعودُ،
غاطساً حيث البرودة،
متوثباً، صارخاً في وجه الشمس.
من هنا، يبدو الماءُ مرشوشاً بالذهب.
.
أراقبُ الدوائرَ
التي يصنعُها جسدُه الصغيرُ
تتموّجُ وتهفّ،
ثمّ تتبعثرُ كالصّدى،
إلى جسدِ الماءِ، والضوءِ والهواء.
بصمتُه على الماء
لا تُعمّرُ إلاّ قليلاً،
مثل رجفةٍ عابرة لجناحِ يعسوب.
.
ذاك هو الحزن، أقولُ لنفسي،
الصباح الذي اختاره ليتركَ جناحيه خلفه،
ذلك أنّه لن يتذكّرَ
بأنه هو والجمالُ صنوان،
يعبرُ الماءَ، محمولاً على الهواء تقريباً،
في أوّل طيران منفردٍ له.
سوف أكتبُ: “كيف لم يكن بمقدوره
أن يحتوي نشوتَه”.
في الجانب الآخر،
وفي إطار زمني آخر،
ينتظرني ـ
بما أنني تجاوزتُ للتوّ جسدَه،
الذي انزلق منّي كسمكة،
سابحاً، متحرّراً من نفسِه.
*
ترجمة: عابد إسماعيل