دستويفسكي ضدّ الماركيز دو ساد: جون آتاريان

أشخاص:

ترجمة: أسماء القناص

Fedor Dostoievski by Séverine Scaglia
كان الماركيز دي ساد (1740-1814)، الفاجر، المُنحرف والإباحي، شخصيةً مِحورية في الفكر الغربي. قدّمت رواياته مثل: “جوستين” (1791)، “الفلسفة في المخْدَع” (1795)، “جولييت” (1797) ولأول مرّة الفلسفة العَدمية مُوضحةً كُل ما يترتب عليها من شُرور.
لقد تدفقت فلسفة ساد من تضخّم الأنا، مما دفعهُ إلى التطّرف الشديد في مُحاربة الإيمان. إن عدم وجود الله يجعل من الكون مُجرد طبيعة مادية بحتة، آلية تشغيل ذاتي «الحركة الدائبة للمادة تُفسر كل شيء». إن البشر مُجرد آلاتٍ تتملصُ من المسؤولية الأخلاقية، وطالما لا توجد حياةٌ أخرى، فإن سلوككَ غيرُ مُهم، سواء كُنت مُنحرفاً، أو فاسِداً. تُؤكد الأعرافُ المحلية أن الأخلاق نِسبية، وتختلِف باختلاف الثقافة، والجغرافيا، وبالتالي مُبتدعة. الطبيعة وحدها هي دليلُنا الأخلاقي، ومُذْ تبنّت الطبيعة مَسألة خلِق حيوات جديدة من أشكالِ الحياة الميتة، أصبحتْ أهميةُ البشر لا تعلُو عنِ الحشرات، جميعُهم سواسية. استخدمَتْ الطبيعة الجرِيمة، التدمير، والموت ضرورةً ومُتعةً لها، لذلك يكونُ القتلُ أمراً طيّباً، والسفّاح هو أسمى صورة من صور البشرية.
لقد وُلد الفردُ وحدهُ، وهو المُهم فقط، لا وجود إلا لدوافِعه الأنانية، وبدون أية التزامات لأحد. كُل فرد مُحرّض ضِد الآخرين «أُمتّع نفسي بغض النظر عنِ الحساب». الفردُ يميلُ بطبيعته إلى الهيمنة، وإلحاق الألم بالآخرين، وهذا ما يُمتعه، لذلك الناسُ العادية ليست إلاَّ كائنات نَفعية، لُعبةٌ بيد الأثرياء، الأقوياء، والإلهيون. أولئكَ الذين لا يمنحُون الحُب على الإطلاق. يكون الجمالُ، والبراءة، مُلهماً للقسوة، والتصرفاتِ الشيطانية. منذُ جعلت المادية المُتعة تتناسبُ طردياً مع الإثارة، بقدر ما كُنتَ قاسياً، بقدر ما تستمتع. لذلك فإنّ الأنانية، التطرّف، والقسوة هي المسارُ الصحيح.
إذا لم يكُن هناك إله، جحيم، لا حق، ولا باطل، وبدون أية مسؤولية أخلاقية، فلا وجود لمعنى يتجاوزُ حدود المُتعة، ثم يكون الوُجود بأكملِه، بلا أية معنى أو قيمة. لا شيء مما تفعلهُ يبدو مُهماً، والآخرون يفقدون قيمتهم، ما تفعله معهم، ولهم لا يعني أية شيء. إن العدمية تُحرّرنا، وعندها يُصبحُ كل شيء مسموحاً.
سوّغ ساد باستمرار الأنشِطة الجنسية الأكثر انحطاطاً، وتفسخاً، وقام بتبرير كُل جريمة تتضمن القتل، وأكلَ لُحوم البشر. لقد قاد الضجر، والنهم ساد لأبشع الجرائم التي بلغت ذروتها في المجازِر، حتى أن جرائمهُ الغارقة في الشر جعلتْ مِن التوبةِ، والاستقامة أمراً مُستحيلاً. وبسبب عجزِ الواقع عن إشباع رغباته اللامحدودة، الرغباتُ المتلهفة نحو الدمار الشامل، أصبح الإحباط، والسخط حليفاً له.
بما أن دينامية الشر، ووجهات نظر ساد في القسوة، والقتل تُشير إلى أن العَدمية في نهاية المطاف شيطانية لا أكثر، ولا تحتوي إلا على تدنيس للمُقدسات، إدانات مسعُورة لله، والمسيحية، والمُمارسات الشيطانية بما فيها السوادُ الذي يَطغى روايات ساد، حيثُ المركز الوحيد هو التمرّد، والسعي للتفوق عن طريق الشر، والسيادة.
أثّر ساد بشكل واضِحْ على الكُتّاب الرومانسيين، والمنحلين أمثال: تشارلز بودلير، جوستاف فلوبير، ألغرنون سوينبرن وراشيلد. لقد أخبرُهم ساد ما أرادوا سماعه، وسَعتْ فلسفتهُ لتحريرهم، وحثّهم على الانغماس، والتعبير عن هوسهم في القسوة، والانحراف، لذلك ساهَم ساد بشكل جلي في تفشّي هذا المرض في الفكر، والثقافة الغربيين.

II
كرّس أحدُ الكُتّاب نفسهُ لمعارضة الفلسفة السادية، التيار العَدمي في القرن التاسِع عشر وهو فيودور دستويفسكي. لقد عرَف دستويفسكي ساد جيداً، كما وضح الباحث روبرت لويس جاكسون، وذكرُه بشكل متكرر في مذكراته، و رواياته، كـ “مذلون مهانون”، “الشياطين”، و”الإخوة كارامازوف”. سبّب ساد الهَلع لـ دستويفسكي، بعيداً عن كونه “ساد الروسي” كما نعته إيفان تورجنيف، أو سادي، سادومازوشي كما ادعى ماريو براز، وسيغموند فرويد، و كان ذلك جلياً ابتداءً من مذاكرتِه إلى آخر أعماله، “الإخوة كارامازوف”. يقولُ دستويفسكي: «مع كُل ما تترتب عليه الشهوة الحيوانية، مروراً بالقسوة، والجريمة جميعها تتجلى في شخص الماركيز دي ساد». وَجد جاكسون تجسيداً واضحاً للفلسفة السادية، ومُبرّراً للفجور في شخص “سفيرديجالوف”، الفاجر، المثير للاشمئزاز، و الذي اعتدى على امرأة في رواية “الجريمة والعقاب”. يُخلص دستويفسكي إلى مَدى خطورة الأسئلة الأخلاقية، والنفسية التي يُثيرها ساد، لكنه رفض بشكل قطعي لاأخلاقية التوجه السادي الذي تسبب في تشويه، وتدمير النسيج الأخلاقي، والاجتماعي للفرد، والمُجتمع.
في الحقيقة، لقد فعل دستويفسكي أكثر من ذلك، بينما احتضن الرومانسيون، والمنحلون ساد بصفته المثل الأعلى، والمُحرر لهم، واجههُ دستويفسكي، وتنكر له، وأكّد وجهة نظر العالم المسيحي الذي رفضُه ساد بشدة. الأدلة في “الجريمة والعقاب” (1866)، و”الإخوة كارامازوف” (1880) توّضح أن دستويفسكي قد قام بقراءة، وتأمل أعمال ساد عن كثب، التفت لحوادث مُعينة فيها، وتناول حججاً مُحددة. شاركَ دستويفسكي ساد البصيرة ذاتها في إنكار الله، والمنُاداة بالعدمية من أجل تحقيق أقصى مراحل التحرّر، والحصول على الرخصة في الجنس، الجريمة، التدمير، والقتل. في الوقت ذاته الذي بشر ساد بذلك، قام دستويفسكي بإدانته، وهنا يكمنُ الفرق بينهما. تتعاطى أعمالُ دستويفسكي نقداً عميقاً لـ ساد، بلغ ذروتهُ في روايته الأخيرة، “الإخوة كارامازوف”.
في البداية، لم يكُن ساد إلا شَخصية هامشية في اعتبار دستويفسكي، و روايتُه “مُذكرات من البيت الميت” (1862)، تناولت الحياة في سجن سيبيريا، والعقاب البدني. أشار دستويفسكي إلى أن بعض الجلادين قد حملُوا داخلهم شيء ما يوحي بـ الماركيز دي ساد «هناك بشرٌ كالنمور، مُتعطشة دائماً للدماء». وصف أيضاً كيفَ أن الّدم، والسُلطة تُسكر الإنسان، ودينامية الفساد تُحول هذه العينات القاسِية إلى طُغاة لن يكونَ بمقدورهم العودة إلى وضعِهم الإنساني. يظهر وعي دستويفسكي في ساد بشكل ماكِر في روايته “مذلون مهانون” (1862)، جشعُ الأمير “فالكوفسكي”، فلسفتُه، التنصل من كل الالتزامات، و المُثل العُليا هي إحدى أشكال تضخّم الأنا. في هذه المَرحلة مِن مِهنة دستويفسكي، شكّلتْ الأنا السادية، والعدمية مُشكلة مَركزية لم يُكرّس أية مجهود لحلها.
بَعد عامين، وفي رِواية “الإنسان الصرصار”، تناولَ دستويفسكي القسوَة، والاعتداد بالذات بشكل مُعقد جداً، واحتقرَ الحجج ذات الطابع المُتفائل التي تقُول بأن الناس يُسيئون التّصرف فقط لأنهم لا يعرفون مَصالحهم، وسوفَ يَتصرفون بشكل صحيح حِين يتم تبديد هذا الجهل. المُتفائلون يقومون بتأويل المصالح للسلام، الحُرية، الثروة، والإخاء الخ… مُخطئون كُلّ أولئك الذين يؤمنون بأن الحَضارة الحَديثة قادرة على جَعل الفرد أكثرَ سلاماً. في الواقع، لقد جعلتْ مُنه أكثر حَساسية إلى درجة التمتّع بإراقة الدماء. يظُن دستويفسكي أنه في عالم مِثالي من التقدميين في القرن التاسع عشر، وفي وقت ازدهار العُلوم التي تنفي إرادة الفرد الحُرة، وإمكانية حل جَميع المُشكلات. في عالم كهذا، رُبما يُمارس البشر القسوة بسبب الضجر، والملل. مُذ كانت أعظمُ رغبات الفرد هي التغاضي عن القيم، والتفوق على الآخرين، فإنه سَيرتكب أفعالاً غبية، ومُضرة لإثبات أنه لن يكون دُمية يتلاعبُ القدر بها. ويضيف دستويفسكي «إن أكبر فشل للبشرية هو افتقارها للحس الأخلاقي».
لكن بطريقة أُخرى، يَرى دستويفسكي الآن الفرد كما يفعل ساد، يمتلكُ الإرادة الحُرّة لفعل أيّ شيء مما يَجعله عُرضة لارتكاب أعمال غير منطقية، كالسادية، والافتقار إلى الحِس الأخلاقي. وعلاوة على ذلك، غض البصر عن حاجة الفرد للنظام الأخلاقي، والإشباع الروحاني خطأ فادِح يُحرض على التجاوزات السادية. هنا يكون دستويفسكي هو البداية للتعامل مع مَأزق الحداثة، وساد.

III
أصبحتْ الحرُب الروحانية، ونظرة ساد للعالم الشاغل الرئيسي لـ دستويفسكي، وذلك يَظهر في “الجريمة والعقاب”، و”الإخوة كارامازوف”. إدراك دستويفسكي، وانتباهه لفسوق ساد تنامَى على قدم وساق، مما يوحي بأن رؤيته نضجُت، وأصبحت أكثرَ عُمقاً للتركيز على مأزق الفرد، والعمل على مصِيره في إطار الحداثة. حينها يتصادمُ الإله، والشيطان من خلال معركة ما بين المسيحية، والعدمية السادية. كان المركز في رواية “الجريمة والعقاب”، قتلُ الطالب “روديون راسكولينكوف” لامرأة عجوز، وشقيقتها، وتورطه مع “سونيا” فيما بعد ممّا يُؤدي إلى اعترافه، واقتياده إلى سِجن سيبيريا.
مِثل ساد نفسه، وتضخّم الأنا السادية، يَقضي “راسكولينكوف” مُعظم وقته في التأمل داخل غرفته الحقيرة، مَعزولاً عن الآخرين، وبلا أصدقاء تقريباً، وحين يَكون في الشوارع يَكون غافلاً غيرَ مُدركاً لمُحيطه. يُلاحظ زَميل “راسكولينكوف” حسّه العالي بالتفوق على الآخرين، وأنه في بعض الأحيان لا يكون إلا تجسيداً للقسوة، والبرود، واللاإنسانية، إن أناهُ السّادية تتوق إلى التحرر الأخلاقي «إن الأخلاق مُجرد تحامل، لأن الفرد ليسَ ببهيمة» وليسَ هُناك ما يمنعك من فعل أي شيء تُريده، وهذا مَا يَنبغي أن تكُونه. يَتضح أن “راسكولينكوف” قد نَشر في وقت سابق مقالاً تناول فيه فلسفته الاجتماعية التي تتوافق مع رؤية ساد. قسّم في مقالِه المجتمع إلى فئتين، فئةُ “العاديين” الذين لا وجود لهم إلاّ من حيث أنهم مَواد إن صح التعبير، وليسَ لهُم من وظيفة إلا أن يَتناسلُوا، ويجب أن يُعانوا من سوء المُعاملة لأن واجبهم هو الانقياد، والطاعة فقط، وفئة عُليا هي فئة “الخارقين” الذين لا يقومون إلا بالتدمير الفعلي، وكسر القانون، والذين لكونهم خارقين لديهم الحق في ارتكاب أية جريمة، أولئك المتفوقين هم مُجرمون بحكم مَلكاتهم. سورجوس، وسولون، ومحمد، ونابليون، وغيرهم. يُمكن أن يُوصفوا بأنهم مُجرمون، لأنهم حِين أقاموا قانوناً إنما خَالفوا بذلك قانوناً قديماً كان يُعد مُقدساً» هذه الصُورة تتبع تقنية ساد في تبرير القسوة، والفَساد وذلك عن طريق إعطاء قوائم بجميع المُؤسسين، والمُشرعين الأشهر الذين خولت لهم الجَريمة. في الواقع، باستثناء نابليون، كُلّ هذه الأسماء التي ذكرها “راسكولينكوف” تَظهر عِند ساد في روايته “الفلسفة في المخدع”.
أرادَ “راسكيلنكوف” أن يَكون خارقاً “تأليه الذات السادية”، كَان مُعجباً بـ نابليون «الحَاكم الحقيقي هو المسمُوح لهُ كُل شيء»، لقد أخبرَ “راسكولينكوف” “سونيا” لاحقاً أنهُ قتل المرأة العجوز لأنه أرادَ أن يُصبح نابليون.
يُظهر “راسكولينكوف” توافقاً قوياً مع “رودان” جرّاح “جوستين”، اسمهُ الأول “روديون” يُشابهه، وكلا الرجُلين بررا جرائمهما لأسباب مُتماثلة تقريباً. تآمرَ “رودان” و زميلُه لقتل، وتشريح ابنته البالغة من العُمر خمسة عشر عاماً من أجل تجربة طبية، يقول “رودان”: «فكّر بها!! تُضحي بشخص واحد من أجل حِفظ آلاف الأرواح» رُبما يُمكن للمرء أن يَتردد إذا كان السّعر بخساً! أليسَ الغرض من عقوبة الإعدام، الذي عادة ما يكون حكيماً، هو التضحية بفرد من أجل حِفظ البقية؟». قبل القتل، سَمِع “راسكولينكوف” طالباً يُناقش قضية الطالب الذي قتل المرأة العجوز، وأخذَ مالها، مُبرراً أن فِعلته هذه تُعد خيراً عظيماً. هذه الأفكار كانت تَستحوذ على “راسكيلينكوف” نفسه، «حسناً، ألا تظن أن جَريمة صغيرة من الممكن أن تُكفر عن خطاياك؟ تَقضي على حياة واحدة من أجل حِفظ الآلاف من الفساد، والانحلال إنها بسيطة جداً، فَرد واحد مُقابل مئات الأرواح.».
في لمسة سادية أُخرى، حطّ “راسكولينكوف” من آدمية المرأة العجوز، وأشارَ إليها مراراً وتكراراً بأنها مُجرد قملة. بالنسبةِ إليه، لم تكُن العجوز إلا مجرد مَادة مُثيرة للاشمئزاز. “راسكولينكوف” لم يستقِل تماماً عن الإنسانية، على العكس من ساد. إنّهُ نوع مُتقطع، كان مُحباً تارةً، وفاسداً تارة أُخرى. لقد حَاول حِماية شقيقته “دونيا” مِن “أركادي”، أحدُ مُلاك الأراضي الذي تحرش بها جنسياً، هُنا دستويفسكي يُشير إلى حجة ألكسندر سولجينتسين «حتّى داخلَ القلوُب التي طَغى عليها الشر، يَتبقى جسر صغير من الخير» هذا الجسر يترُك “راسكولينكوف” مُنفتحاً على الإحسان، والهداية من خلال مَحبة “سونيا”.
تُجسد “سونيا” الفضيلة مثل ما تفعل “جُوستين” بطلة ساد، ابنة لأب سكّير، وأم مُصابة بالسل، احترفت البغاء من أجل إعالة أُسرتها، وكما “جوستين”، احتفظت بنقاء رُوحها على الرغم من تعرّضها الوحشي للانحراف، والشر، ولكن هُنا ينتهي التشابُه. يُجيب دوستويفسكي ساد من خلال “سونيا”، لم تكُن مَسيحية “سونيا” عاطفية أو ليبراليةً مُتسامحة بل كانتْ حازِمة، وصارمة.
عندما طَغت النزعة السادية لدى “راسكولينكوف” قامَ بتجريد ضحّيته من الإنسانية، لكن “سونيا” لم تَفعل ذلك مما أحبَطه:

«سونيا، لكنّي لم أقتُل إلا قملة، مُقرفة، ضارة، ولا فائدة لها» سألته باستنكار: «إنسان يكُون مُجرد قملة؟»
«سونيا، أعلم.. أعلم أنها لم تكُن قملة، لكنني أفترِض أنني أتحدّث فقط عن كثير مِن العفن»

“راسكولينكوف” أخبر “سونيا” أنّهُ يُريد أن يقتلَ دون ضمير، من أجلِ إشباع ذاته «مثلَ ساد، سَعى للتفوّق من خِلال العدوان، أرادَ أن يتعلمَ شيئاً عن نفسِه كما يقول، ما إذا كانَ مِن المُصطفين أو مُجرد حشرة كالبقية، ما إذا كانَ بإمكانه تخطّيهم أم لا، إنّه يُريد أن يَعرف هل لديهِ الحق لفعل ما يريد أم ليسَ لديه الحق!!» صَرخت “سونيا” برُعب: «الحق لتقتُل، لتقتُل؟» أجابها “راسكولينكوف” بانزعاج، ثم حوّر اللوم على الشيطان، كما يفعلُ ساد، لكن “سونيا” لم تسمح له بالتهرب من المسؤُولية الأخلاقية «وأنت قتلت، قتلت!» إصرارُها على ذلك حطّم دفاعات “راسكولينكوف” حتى انهارَ يائساً. توّسل “سونيا” لتتركهُ لوحده ثم سألها ما ينبغي القيام به.
حضّت “سونيا” “راسكولينكوف” على الاعتراف بجرِيمته، والاستسلام للألم تكفيراً عن ذلك، وأصرّت بأن هذا هو أمُله الوحيد للخلاص. بحُبها المسيحي، و وداعتها، ولطافتها نَبذت شر “راسكولينكوف”، وبالرّغم من مخاطر غَضبه طالبته بالتوبة، والإعتراف. وبعدها اتضحت رحمتُها عن طريق الاستسلام للمُعاناة مَعه. من خلالِ “سونيا”، أنكرَ دستويفسكي على ساد اختزاله، وتجريده للإنسانية، وأكّد مِراراً على قيود الأخلاق المسيحية التي رَفضها ساد، الأخلاق التي كما يظن تحمِل في طياتها الكثير من الحُب، والفداء.
مُواجهة أُخرى تحدُث بين الأنا السادية، والفضيلة، بين “دونيا”، و”أركادي” الذي جسّد فجُور ساد. لقد ضرَب زوجته بالسوط، وقامَ بقتلها كما تَعتقد السيدة “راسكولينكوف”. طارَدَ الخادمات، واعتدى بوحشية على فتاة بكماء، وصماء تبلُغ من العمر خمسة عشر عاماً أو أربعة عشر، ثم بعد ذلك شَنقت نفسها.
خلال أحادِيثه مع “راسكولينكوف”، زعَم أن المرأة تتمتع بالإذلال، وقد افتخر بإغواء سيّدة فاضلة. يبلُغُ من العمر خمسين سنة، مَخطوب لفتاةٍ في السادسة عشر لكنه لا زال يُطارد “دوينا”. الشهوة السادية للتدنيس جُزء لا يتجزأ من نَشاط “أركادي” الجنسي، والوحشي. قارن وجه خَطيبته الشّابة بوجه “مادونا السيستينية” لـ رفاييل، وكانَ يَرى إنكارها لذاتها، وبراءتها أمراً مُغرياً. لقد أثارَ “أركادي” احتمالية وُقوعه في الحب، ورُبما كانَ هو الضحية الحقيقة “عبداً للرغبة” استشهد بميولَه الطبيعي لتفسير سلُوكه، وأضاف أنّه لا يَرى سبباً لكبح جماحه مع النساء، وأن رَذيلته دائمة، ومُستمرة، جُزء من الطبيعة لا يخضع لهَوى من الأهواء، وشيء يَجري مِنه مجرى الدم.
«مرّة أُخرى هنا، تابع دستويفسكي ساد بشكلٍ وثيق، ولَجأ للطبيعة لتفسير أسوء السلوكيات الجنسيّة على أنها سادية، وعلاوة على ذلك، الكثير مِن حديث “أركادي”، وتبرئته لنفسه تتلخّص في خطاب الرّاهب “كليمنت” في رواية “جوستين” «أية رجل يحمِلُ داخله أذواقاً مُنحرفة هو مَريض، ويستحق التعاطُف.» حينما حاولَ “أركادي” التقرب منِ “دونيا” للمرة الأخيرة، صدّته بسُرعة مما أشعلَ ثائراً داخِله، وهنا إجابة لـ ساد. إن الأهداف المُفضلة لدى الفَاجر هن العفيفات من النساء اللواتي لهن كل الحق في مُقاومة الشّر.
من خلال “أركادي”، يُحذر دستويفسكي مِن الأنا السادية، وأنها لن تُقدم لمعتنقيها سِوى الموت. رَغِب “أركادي” بشدة بحُب “دونيا”، ولكن بسبب شرّه، وأنانيته صدّته، وازدرت توسلاته الأخيرة. ابتعلته العُزلة بعدَ إحباطه في مسعاه، وانتحر بكُل يأس.

IV
كانت آخِر أعمال دستويفسكي “الإخوة كارامازوف” غَارقة في الوعي التام بـ ساد، وتُعتبر الرواية أكبر جُهد قدّمه دستويفسكي لمواجهة فساد ساد الشيطاني. لا يخفى على القارئ أن قتل “فيودور كارامازوف” مِن قبل ابنه غير الشرعي، وإلقاء اللوم على ابنه “ديمتري” كان المركز في الرواية، وكان هذا من قبل التحرر، مُحاربة الإيمان، والعدمية في صَميم فلسفة ساد. هُنا دستويفسكي يُفصّل الجوانب المُختلفة للروح السادية، و رُؤية العالم من خلالها.
يُعطي البطل “ايڤان كارامازوف” تجسيداً تاماً لفكر ساد في نظر دستويفسكي، “ايڤان” كما تم اقتباسه مِن قبل “بيتر ميزوف”، يعرِض فلسفة ساد في وقت مُبكر من الرواية “شخصنة الفلسفة السادية”:

«لم يُوجد قانون في الطبيعة يُجبر الفرد على أن يُحب العرِق البَشري، أية حُب على وجه الأرض، لم يكن ذلك بسبب قوانين الطبيعة، لكن ببساطة لأن المرء يُؤمن بالخلُود، القانون الطبيعي بأكمله يكمُن في الإيمان، لو كُنتَ ستُحطم إيمان البشرية بالخلود، سيَجّف الحُب، والقوة للحفاظ على الحياة، وعلاوة على ذلك، لا شيء بعد هذا سيكُون غيرَ أخلاقي، حتى أكل لُحوم البشر سيكون قانونياً لكل شَخص لا يؤمن بالله أو الخلُود. يَنبغي أن يتم تَغيير القانون الأخلاقي للطبيعة حالاً إلى نَقِيض القانون الدّيني السابق.
تضخّم الأنا، حتى الجَريمة، لن تكون قانونية فقط، ولكن يَنبغي أن يُعترف بها على أنها حتمية، وعقلانية لأية نَتائج مُشرفة.»

يكُون الثيم المركزي للرواية، والذي يَظهر بشكل مُتكرر هو صِيغة ساد من أجل التّحرير «إذا لم يكُن هناك إله، إذن كُل شيء يُصبح مَشروعاً». لا وجود للإله، وبالتالي لا وجود للخلُود، هُنا أعلن “إيڤان” “العدمية المُطلقة” كما فعل “راسكولينكوف”. يُجيد “إيفان” العُزلة السادية، الكبرياء الفِكري، والانفصال التام عن الآخرين. في وقت مبكر من الرواية، يُخبر “إيڤان” أخاه “إليوشا” «لن يَأخُذ الكثير من ديمتري ليقتُل والده» صرخ “إليوشا” برعب وأردف: «معاذ الله» ابتسم “إيڤان” لهُ، وسأله: «لماذا يجب أن ينهى الله عنهُ؟ ستلتَهمُ دابة أُخرى، وذلك سيخدِمُ كليهما»

تُوضح مُناشدات “إيڤان” السادية حَتمية الطبيعة، واعتقاده التام بأن أنا الفرد الطبيعية تتمنى الشّر للآخرين، ورَفض رفضاً قطعياً وضعهُ لحدود أخلاقية على رغباتِه، وخياله. تتجلى عدميتُه في احتقار الحياة البشرية الذي يتّضح عندما يقول لـ “إليوشا”: «يُقرر الفرد من الذي يستحق أن يَعيش على أسس طبيعية، وكُل فرد له الحق في تمنّي موت أية فرد آخر» لماذا تكذب على نفسِك؟ طالما أن جميع البشر متشابهين؟». دستويفسكي مُرددا مَقتهُ الشديد لفُسق ساد، يفتتح بـ “إيڤان” فصل “المُحقق الكبير” بالاعتراف إلى أخِيه “أليوشا” أنّه لم يفهم مُطلقاً كيف بإمكان المرء أن يُحب جيرانه، و بعدها.. حَادثُه بوحشيّة المرء الطبيعية مُقارباً عن كثب ساد.
مُناقشة “إيڤان” عن جَلد الأطفال، وديناميكية المُتعة السادية هي مُستوحاة بشكل واضح من قِبل العديد من كَوالِيس جلد الأطفال في رواية “جوستين وجولييت” لـ ساد «هُناك أناس مع كل ضربة يصِلون إلى الشّهوانية، شّهوانية حَرفية، مما يَزيدُ من مُعاناتهم تَدريجياً مع كُلّ ضربة» نُقص دفاعات الأطفال هي التي تُغري الجلّاد، مُجرد الثقة الملائكية للطفل الذي لا يُوجد لديه ملاذ أو مناشدات تجعلُ من دم الجلّاد الخسِيس يثُور.
يَرى “إيڤان”، مثل ساد تَأصّل الوَحشية، والسادية في الطبيعة البشرية «في كُل مرء هُناك شيطان كامِن، شيطانُ الغضب، شيطانُ الشهوانية جراء صرخات الضّحية المُعذبة، شيطان الانفلات للخرُوج عن المألُوف» حتى الآن، لم يكُن “إيڤان” سادياً بأسره، عدمُ مقدِرته على فِهم الحُب تنبعُ من الاشمئزاز من الوحشية، السادية، مُعاناة الأبرياء، ورَفض بشدّة تَبرير استخدام السّادية، والوَحشيّة كوسيلةٍ لتحقيق الصّالِح العام.
كَما كان “أركادي” مُكملا لـ “راسكولينكوف”، كَان طالِب اللاهوت “راكيتين”، الجَشع، الكلبّي، المُهتم بمصالحه فقط، مُكملا لـ “إيڤان”. يَرى “راكيتين” أن المرء لا يُحب إلا لدواعٍ أنانية «وُجد الحَمقى من أجل انتفاع الرجُل الحَكيم». أرادَ “راكتيين” أن يكتُب مقالاً يُثبت فيه أن “ديمتري” لم يُساعد في مقتل “فيودور” لأن بيئته أفسَدته. حين زارَ “ديمتري” في مُعتقله، قَام بشرح المَادية السادية، والجبريّة لِفضح المسيحيّة، قائلاً لـ “ديمتري”: «إن المرء يَرى، ويُفكر بسبب الألياف العصَبية في الدماغ، وليس «لأن لدي رُوحاً، وأنا نوعاً ما صورتُها، ومثالُها» سأله “ديمتري”: «إلى ما سَيؤُول الفرد بدون الله والخلُود؟ كُل الأشياء تحِل بعد ذلك! يُمكن للفرد أن يفعل ما يحلُو له!» استجاب “راكتيين” بإجابة تُغلّف ساد: «الرجُل الذكي يفعلُ ما يشاء.»
الخَلاعة المُضطربة لدى “فيودور”، و”ديمتري كارامازوف” تُعطي بورتريه عن الجنسانية الساديّة. “فيودور” السّكران، الفاسِق، و دُون أية خجل من شرّه، ينجذِب لجمال شاّبة، وبراءتها، لكنّه ينجذِب إليها فقط على أنها دعوة إلى الوَحشية. جَعلها زوجتهُ الثانية، وأخضعَها للقسوة، والتدهور. تُثير تقواها العميقة التدنيس لأيقُونة السيّدة العذراء «أنت تُؤمن أنها مُعجزة، و لكن هُنا.. سأبصِق عليها، ولن يحدُث لي شيء!».
يُشير “فيودور” إلى الشبّان الذين يقومُون بجلد فتياتٍ حُكم عليهن بذلك، الفتيات أنفسهن، بعد إساءتهن للأب المُقدس زوسيما، أصبحن يُشكلن مَجموعة من دي ساد. يُخبر “فيودور” ابنه “إليوشا”: «إذا كان هُناك إله سيضطرُ للإجابة عن ذلك، ولكن إذا لم يكُن هُناك، فلا يحق للآباء أية شيء». مثل ساد، أراد أن تُقمع المسيحية من أجل أن تسُود الحقيقة.
اعترف “ديمتري” بحُبه للرذيلة، و لقسوة على “إليوشا”، وتخلى عن خطيبته “كاترينا” بسبب هوسه الجنسي في “غروشينكا”، بعد أن اشتهاها والدُه أيضاً. شارَك في حفلات السُّكر، وهاجم والِده، وفي ليلة مَقتل “فيودور”، اعتدَى على “غريغوري” خادم “فيودور” العجوز، وسحقه.
من أجلِ أهوائِه، وحماقاتِه كان “ديمتري” في حالة تأَهب لتسويغ كل ما يُريد أن يَفعله، ارتبط برؤية “إيڤان” التي التي تقول «إذا لم يكن هُناك إله، إذن كُل شيء يُصبح مشرُوعاً» كان مُنفتحاً على مادية “راكتيين”، وأعرب عن نسبيّة الأخلاق الساديّة «يكُون الخير شيء واحد معي، وشيء آخر، ومُختلف مع رجل صيني، لذلك فهو نِسبي».
كان “سمردياكوف” مُذ صِباه يُمثل الإجرام في الأنا السادية، صامتاً، مُتجهم الوجه، مُنكفئاً على نفسه. حينما كان في الثانية عشرة من عُمره حاول “غريغوري” تعليمَه الكتاب المُقدس، لكن “سمردياكوف” سخِر من رواية الخلق. لقد كان مُلحداً، وسادياً. حينما كان صغيراً لطالما استمتَع بشنق القِطط، وقبل مقتل “فيودور كارامازوف”، أَمر الفتى “إلوشا” بوضع دبّوس في قطعة خُبز، ورميها لكلب جَائع الذي أكلها، وهرب يَئنّ من الألم. خلال زيارة “إيڤان” بعد الجريمة، يقوُل “سمردياكوف” لـ “ايڤان”: «أنت الذي قتلته.. أنت القاتل! لقد كُنتُ فقط أداتك، خادِمُك المُخلص الذي يفعلُ ما تقولُه.»
كان سرِقة المال دافعُه لبدء حياة جديدة، لكن الفكرة تجذّرَت ولا سيما لأن كُل الأشياء مُستباحة «هذا ما كان يشرُحه “إيڤان” لهُ في كثير من الأحيان. كان مُحقاً، لقد أخبرَه “إيڤان” سابقاً بأنه «إذا لم يكُن هُناك إله، تُعد الفضيلة غير موجوُدة أو ضرورية حتّى وهذه الطريقة التي رأيتُ بها الأمر».
برّر تحرُّر ساد ارتكاب الجرائِم، وخصوصاً القتل. في تقسيم هذه الأدوار يكُون “إيڤان” الأول، و”سمردياكوف” الثاني. تحرُر “إيڤان”، وسُلطته على “سمردياكوف” دفَعته لقتل “فيودور كارامازوف”، هُنا حقق دستويفسكي صُورة مُصغرة لخطر ساد الحضاري، وغيره من المثقفين العدميين في تقبّل المُجرمين. بالفعل قد تقبلوا مُرتكبي الجَرائم الصغيرة الذين حررتهم عدميتهُم، وشجعتهم على أسوأ التجاوزات.
تُكمل ابنة السيّدة “هالكوف” الخبيثة “ليز” المعرض السّادي “للإخوة كارامازوف”. كما هو واضِح لكُل شخص على دِراية بالسادية، “ليز” هي المونتاج للخلاعة الأنثوية لـ “جولييت”:

«أودُّ أن يُعذبني شخص ما.. أُريد مَرضاً. أظل دائماً أرغب بإضرام النّار في المنزل.. يا إلهي كم أشعُر بالضجر!! اجعلني غنية واجعل الفقر ينهش الجمِيع.. سآكل الكعك، والقشدة ولن أُعطي أي أحد آخر.. سأقتلُ شخصاً ما لو أصبحتُ فقيرة للأبد، حتّى وإن كنتُ غنية ربما أقتُل.. أود فِعل الشّر، لذلك سوف يتدمر كُل شيء.. أوه ما ألطف أن يكون كُل شيء مُدمراً.. جميعُهم يُحبّون الشر سرّاً.. الجميع يُحب الجريمة (قالت ذلك لرجل قام بصلب طفل يبلغ الرابعة من العُمر) أخبرها أن الطفل كان يئن، وبقيَ يشتكي حتّى أن الرجُل وقف له اعجاباً..» هذا جميل.. أحياناً أتخيلُ أنني أنا من صَلبَه، سأعلقه هُناك و هو يئن، وأجلسُ أمامه وأنا آكل مُربى الأناناس (هنا يتضح فُجور جولييت التي أقامت مأدبة حينما تعرّض الأطفال للتعذيب، والخوزقة الخ ) أنا أكره كُل شيء.. لا أريد أن أعيش.. لأنني لا أحب أحداً!!»

حياة المُسن “زوسيما”، وتعاليمه “الكتاب السادس- الراهب الروسي” الذي كتبُه دستويفسكي لدحض الإلحاد، ويُعتبر تتويجاً لأعماله. تُقدَّم إجابة دستويفسكي المسيحية على أكمل وَجه لـ ساد. إن قصّة “زوسيما” هي قصّة عن التحول من الأنا السّادية إلى القداسة المَسيحية. كان “زوسيما” في صِغره ضابِط جيش غني، وكان يَرى رجاله مُجرد قَطيع. ثمل، ماجِن، مُشتعل، وعازم على إثلاج شهيته، مُتغطرس، ومُنغمس في ذاته أيضاً. تم تحريض “زوسيما” على مُبارزة الرجل الذي تزوّج المرأة التي أرادها، وقبل الُمبارزة بليلة، هاجمهُ بوحشية في وجهه. وفي صباح اليوم التالي، كانت ذكرى وفاة شقيقه “ماركيل” الذي تُوفي وفاة القديسين في السابعة عشر من عمره خلال عيد الفصح، شعرَ “زوسيما” بالندم الجليل (الحس الذي ندده ساد) كان هذا الندمُ مُصاحباً للميتانوما (تغيُّر عميق وعادة ما يكون روحياً في طريقة عيش الفرد-التحوُّل) توسّل الغُفران على الدوام رافضاً إطلاق النار من الخلف في المبارزة، ولهذا ترك كتيبته ليُصبح راهباً.
من خلال زائر “زوسيما” الغامِض، وتعاليم الشيوخ، رفضَ دستويفسكي الفردية الراديكالية لـ ساد، والحُرية لبيع الوعود الفَارغة. الفردانية المُتطرفة لا تُحقق الامتلاء، إن ما تُحققه هو التدمير الذّاتي. لأنه في النهاية لا ينتهي في تحقيق الذات، ولكن في الانعزال، والانسحاق. تفسِّر العُزلة، والخوف مِن المحن على أنها التّحرر وذلك لتكاثر، واشباع الرغبات «إن الحُرية المزعُومة تستعبدنا لشهواتنا.»
نُقطة تلو أخرى، يُجيب دستويفسكي ساد بواسِطة الأضداد. بشّر ساد بالرذائل تجاه الله والآخرين، أمّا “زوسيما” فقد بشر بالتقوى تجاه كليهما، يقول ساد: «إن كل فرد هو عدو للكُل»، أما “زوسيما” يُبشر بالأخوة الروحية، والاحترام المُتبادل، والإحسان. يُنادي ساد بالعُزلة الراديكالية، والتمركز حول الذات، ويُبشر “زوسيما” بأننا نحفظُ بعضنا. إن تحُرّر ساد المُتواصل لإثبات الذات يُؤدي إلى الإحباط، أمّا “زوسيما” فيُعطي السلام المُتدفق من التقوى. الحَيوات المُتحررة، الصّاخبة، المحمومة، المُرتكزة حَول الأنا تم ابعادُها مِن نطاق الرحمة الإلهية، لكن هدُوء “زوسيما”، وتأمّله يُدخله داخل حدود هذه الرحمة. في الواقع، يرفُض ساد نفسه هذه الرّحمة، أما “زوسيما” فإنه يُشدد على الانفتاح، والاهتداء مِن خلالها.
الجَمال هو الشاغل الكبير في “الإخوة كارامازوف”، والوسيلة المُهمة لسلُوك طريق الرحمة. يَجعل دستويفسكي أهمية الجمال واضِحة في وقت مُبكر من الرواية، حين أخبرَ “ديمتري” “إليوشا” أن الجمال «رهيب وفظيع» غيرُ مفهُوم ولا يفهمه. يعتمدُ دورهُ في حياة الفرد على الكيفية التي يَستجيب له، تضارُباته، وقُدراته المُصاحبة للمثالية والفساد. أغلب البشرية ترَى أن «الجمال في سدوم» الجمال غامض «الإله والشيطان يَتقاتلان هُناك، وقلب المرء هو ساحة المَعركة.».
أما الجمَال لدَى ساد فهو مُجرد تحريض للشهوة، والتدنيس، دعوَة إلى الشّر، وأنه يَصلُح بالتالي لـ “فيودور كارامازوف”. بالتأكيد على النقيض لدى “زوسيما”، الجمال هُو شاهِد عيان على الله، ودعوة للخشوع. في الفِكر الدّيني الروسي، يَلعبُ الجمال دوراً حاسماً في التوبة. جمالُ الخليقة، الكتاب المُقدس، الكنَائِس، الأيقُونات، والقداس تُثير umilenie (خليط من الرقة والخشُوع). الرّحمة قد تُؤدي إلى الوعي بالإله، وتُوحي بالرهبة، والتقوى، والإيمان. يلعب umilenie دوراً بارِزاً في تحولات “ماركيل” “التوبة” (الذي قد تخلّى في وقت سابِق عن الأرثوذكسية) و “زوسيما” نفسَه. الجمَال هُو التجلّي الإلهي، مصدر الرّحمة التي تُؤدي إلى التحول الجِذري «الجمال سُينقذ العالم» هذا ما كتَبهُ دستويفسكي في مُذاكرته.
الذّكريات الثّمينة للجمال، الكُتب المُقدسة، الأشخاص الجيدون وهلم جراً… هُم كما يَقولُ “زوسيما” وسائل ثَمِينة للرحمة. قد تَلعُب الذّكريات التي تسترجعها في وقت لاحق دَوراً حَاسماً في الخلاص. وفي نهاية الرواية يسترجِع “أليوشا” «ذكرياتُه المُقدسة» والتي سوف تُبقيه آمِناً حتّى مماته، و ربما تكُون وسيلة للخلاَص ومنع الشّر»
حينما بَشّر ساد بالتفوق من خِلال العُدوان، كان “زوسيما” يَحض أتباعه للسمو مِن خلال الحُب. إن المُتعة الرُّوحية هي المُكافأة التي تُمنح فقط للصالحين، على النقيض مِن ذلك، تُؤدي الأنا السادية إلى الجحيم. سألتُ الآباء والأساتذة : «ماهو الجحيم؟ لقد افترضت أنّه المُعاناة مِن عدم القُدرة على الحُب». في الفقرة الأخِيرة لـ “زوسيما”، يَصِف الأروَاح التي تفتقِد الحُب في الجحِيم، وقد أجاد وصفَ ساد وأتباعه بشكل مِثالي «الكائنات المُتغطرِسة، والشرسة حتّى في الجحِيم.» على الرغم من معرِفتهم وتأملهم للحقيقة، قد ضحّوا بأنفُسِهم للشيطان ورُوحه المُتغطرسة «إن أمثال هذه الأروَاح اختارت الجحيِم، لأنهم لَعنوا الذّات الإلهية والحَياة. هُم الذين حَكمُوا على أنفسِهم بذلك، لقد أهدروا المغفِرة وكرِهوا الإله» يَصرخُون عالياً بأن الإله يجبُ أن يُبيدهم جميعاً، وإن هذا الإله يَنبغي أن يُدمر نفسه وخليقته، وأنهُم سوف يَحترِقون في نار الغضب إلى الأبد توّاقين للموتِ والفناء»
إنّ “الجريمة والعِقاب” مِثل “الإخوة كارامازوف” تبعثُ على الأمل للتوبة والخَلاص. وقد خاض “ماركيل” و”زوسيما” هذه التجربة. لقد تحوّل “ديمتري” من الجهلِ الرُّوحي وحياة الفجُور إلى محبة الإله إثرَ اعتقاله. حينما سقَط “ديمتري” مرِيضاً بعد إدانته بتُهمة القتل، كانت “ليز هولكاف” مِن بين هؤلاء الذين نجحُوا في الوصُول إليه، لقد استقرّت في غُرفة مُنفصلة في قِسم السّجن من المُستشفى، وأرسلت الزهُور إلى جنازِة “إلوشا” مُلمحة إلى “جِسر الخير” الموجُود حتّى في النفس السادية، ومن خِلال هذا الجسر يُمكن للرّحمة أن تحدُث.
كانت أرثوذكسية دستويفسكي حاسِمة بلا شك في تَشكِيل رده على ساد، لقد كانت الأرثوذكسية الفرع مِن المسيحية الذي تلوّث باتصاله مع أثم التنوِير العقلاني ولكن رُؤية دستويفسكي المسيحيّة لم تتأثر بهذا الغُبار المُقاوم للرحمة. لقد كان قادِراً على مُراقبة الحَداثة مِن الخارِج واختراقِها مع منظُور نقدي مُستقل، وعلاوة على ذلك، ضغُوط الأرثوذكسية على الجمَال، الرّحمة، الخير، والتواضُع جَعلتهُ النّقيض التام لاستِّخفاف ساد الراديكالي، وهذا ما يَجعل مِن دستويفسكي الكاتِب الذي واجه رُؤية العالم بشكل مُعد، وفريد للكشف عن كُل ما هو لعنة على الأرثوذكسية، وقام بفضح جوهرِها الشّيطاني.
و خُلاصة القول، يَعرض دستويفسكي عدميّة الأنا السّادية، مُحذراً مِن عواقِبها الوَخيمة، ويكشِف عن نبذ المسيحيّة الشّديد لـ ساد، ويقُوم بعرض المسيحيّة على أنّها البَديل الوَحيد لفلسفة ساد. يرفُض دستويفسكي أي حلِّ ثالِث من العلمَانيّة الإنسانيّة، والفلسفات القائلة بأن الفرد يمُكن أن يكُون خيّراً بدوُن الإله، ويكُون الإيثار الاجتماعي هو البديل للمسيحيّة. يَرى دستويفسكي أن النّزعة الإنسانيّة العلمانية لا تُولد التقوَى، والمَحبة التي بإمكانها إنقاذُنا مِن الانزلاق في هَاوية ساد.
إن اعرابه هذا ينُم عنِ الكثير من الرّفض من خلال توبة “ديمتري”. ويُلاحظ هذا البطل بمهارة إمكَانيّة تبرير الأفعَال التي تَسعى لها النّفس الإنسانيّة كتملق “راكتيين”، وتودد الثريّة “مدام هولاكاف” الجشِع «لديهِم هذا التّبرير الاجتماعي لكُل شيء مشبُوه يفعلُونَه» وذلِك سيكُون قيد غير كافٍ على الشّر. حينما أخبرَ “راكتيين ديمتري”: أنّهُ «عن طرِيق الحِفاظ على أسعار اللحُوم مُنخفضة بدلاً عن الفلسفة، سيُظهر المرء الحُب للإنسانيّة بشكل مُباشر وأكثَر بساطة» فأجابه: «حسناً، إذا كان يُناسبك ويصنَع روبلاً من كُل قرش، إنّهم من دُون الله أكثر عُرضة لزيادة أسعار اللحُوم»
من كتّاب عصر دستويفسكي الذين قَرأوا ساد، كان وحده من تولّى حجم ساد، وسَعى لصد تهدِيده الرهّيب للحضارة. إنّه يُشبه في هذا ونستون تشرشل، لقد أدرَك وحدُه الخَطر الكوني للبلشفيّة وهتلر. ومثلما كان تشرشل وحدُه قادِراً على التعامُل مع هتلر، فقط مُفكر في تقوى دستويفسكي المسِيحي وتميّزه، قادر على الرد على عبقرِيّة ساد الشيطانيّة. دستويفسكي يَظهرُ هُنا كبطل عظيِم في الحرب الرُّوحية للتاريخ الضمنِي.

المصدر: Dostoevsky vs. the Marquis de Sade by John Attarian
مصدر الترجمة: مدونة “اندفاعات” لأسماء القناص

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى