ثمة أشياء لا تفهمها، مثل تلك الشراكة الزوجية التي تتجاوز الواقع الزوجي العادي لتصبح حدثا عالميا، ليس من باب الاقتران، بل من باب صنع «هزّة ثقافية» تكون ارتداداتها أقوى من أي علاقة بسيطة تجمع رجلا وامرأة. مثل الشراكة الزوجية التي جمعت عضو الأكاديمية السويدية الشاعرة كتارينا فورستنسون بالمصور الفرنسي جان كلود آرنو، وهما زوجان عاديان، لو أنهما من مجتمع آخر غير المجتمع السويدي، فالمصور الفرنسي الذي لم يتخلص من بعض عقده الفرنسية تجاوز حدوده في مغازلة النساء إلى التحرش بهن، كما تجاوز حدوده حين مدّ يده لأسرار زوجته واستخدم أسماء الفائزين بجائزة نوبل قبل الإعلان عنها في مقامرات عبر الإنترنت من أجل مبالغ مالية كبيرة. «العقلاء» ساهموا جميعا في ستر نجم الكاميرا الفرنسي الأشهر في السويد، لعلّهم اعتبروا تصرفاته نوعا من اللانضج، ولم يأبهوا بما فعله، سقط من أعينهم ربما، لكن الرّجل واصل حياته في صالونات العالم بشكل طبيعي، إلى أن أسقط عروش أعضاء الأكاديمية، فاستقال من استقال، وامتعض من امتعض، وشل من شل أمام تبعات سلوكياته غير الطبيعية.
ألغيت جائزة نوبل للآداب هذه السنة، وسال حبر كثير في الصحافة العالمية والعربية، وأطلقت اتهامات كثيرة ضد اللجنة ومصداقيتها، وقال بعض العرب أشياء غير منطقية من باب قراءة ما حدث، لكن الحدث المهم اليوم هو أن القرن الواحد والعشرين بدأ بتأنيث العالم، وإن عاد قارئي إلى مقالات سابقة سيجد ما أرمي إليه، وما كنت أراه ولا تريد أن تراه الأغلبية، وما أقصده هو هذه القوة الناعمة التي بدأت بإسقاط الرجال عن عروشهم، رؤساء ومشاهير ورموز دينية.
متغيرات العالم الجديدة تمكن المرأة اليوم ليس فقط من إيصال صوتها، بل برسم حدود لدعم مكانتها اجتماعيا وسياسيا من خلال تقليص السلوك العدواني الذكوري تجاهها.
فبعد الصدمة التي هزت النخبة بما حدث في كواليس الأكاديمية السويدية، ها هي الصدمة الثانية تأتي من مدينة «كان» لتهز أكبر شريحة من الجمهور العالمي من كل الفئات، كون إدارة المهرجان خصصت خطا ساخنا للتبليغ عن المتحرشين!
ثمة ثورة تقوم بها المرأة لتخرج من كهفها الذي دفنت فيه على مدى قرون، لكن اللافت اليوم، أن خروج امرأة عن صمتها بخصوص موضوع التحرش بإمكانه أن ينهي مسار رجل قوي يمتلك سلطة سياسية أو مالية أو غيرها.
من أستراليا أثار أيضا انسحاب الكاتب الأمريكي جونو دياز ضجة كبيرة، هو الحائز جائزة بوليتزر المرموقة من مؤتمر أدبي، بعد أن اتهمته الكاتبة الأمريكية زينزي كليمونس بالتحرش خلال جلسة من جلسات مهرجان سيدني للكتاب، ومع أن الكاتب حاول تشتيت الرأي العام نحوه بسرد قصص تخصه، اعترف فيها بأنه تعرّض للاغتصاب حين كان طفلا، وأن هذا الأمر أربك على مدى حياته علاقته بالنساء، إلاّ أن الأمر خرج عن سيطرته، حين تشجعت كاتبتان أخريان بكشف نظرته العدائية نحو المرأة، ما جعله يكتب في ما بعد أنه حان الوقت «لتثقيف الرجال على أن تكون العلاقة مع المرأة بالتراضي».
نظريا يبدو الموضوع كله غير قابل للنقاش عند فئات كثيرة، لأنه مرتبط بالأخلاق، لكن مفهوم الأخلاق أيضا تغير منذ مطلع هذا القرن، فكون المرأة دائما هي العنصر الأضعف، وهي المتهم الأول لإثارة الرجل، وتحريضه على التحرش بها، بقيت أخلاق الرجل تتأرجح ضمن السلوك الشخصي وانعكاس التربية العائلية عليه، والوسط الذي ينمو فيه الذكور والإناث معا، وفي خلفية أخرى، تكون الحرية الممنوحة للذكور على حساب تقليص حرية الإناث في وسط ما، هي المحرض الأساسي للاعتداءات بأنواعها على الإناث، وهذا ما نعيشه يوميا في مجتمعنا، لدرجة أن التحرش في وسائل النقل العامة، والأماكن المزدحمة يتم علنا، بدون الشعور بأي حرج من طرف المتحرش لأنه سلفا يعرف أن ضحيته ستكون المتهم الأول كنتيجة حتمية لما سيقوم به، حتى إن كانت محتشمة في ثيابها، ويُشهد لها بحسن السلوك، إذ أن الخطاب الاجتماعي والديني السائدين على مدى قرون حدد أن الفضاء الطبيعي للأنثى هو البيت، بالتالي فإن المرأة على هذا الأساس هي المعتدية على فضاء الرجل ولهذا تستحق ما يحدث لها. هذا الفصل بين الجنسين وتقسيم فضاءات العيش ومهام الواجبات والحقوق منذ نعومة أظافرهما هو الذي سبب هذا الإرباك في التعامل مع الآخر، لكن تغير ظروف الحياة وقسوتها ودخول العالم في حروب، ومجاعات، وأوبئة، قلّصت من عدد الرجال وأجبرت المرأة على العمل لتعيش، خلق تشويشا في تلك المفاهيم التي رسخها الدين ورفضها الواقع. فهذه المرأة التي هي شريكة الرجل الطبيعية في حياته، وهي شقه الثاني، والفلقــــة الثانية لبذرته، لم يكتمل تواصلها معه ولم يبلغ مستويات الرضى والتراضي بينها وبينه، مع أن الحقبة الزمنية التي فتحت النقاش حول طبيعة المرأة ونوعها ككائن حي طويلة جدا منذ مؤتمر فرنسا العجيب أواخر القرن السابع.
أربعة وعشرون قرنا مضت والمرأة تعيش في متاهات الظلم والتهميش والتحقير والإذلال، وفرض ما يجب أن تفعل وما لا تفعل إلى أن آن أوان سماع صوتها في عصر الإنترنت والأبواب المفتوحة على كل الغرف التي كانت مغلقة سابقا.
انتشر هاشتاغ «أنا أيضا» الذي أطلقته الممثلة الأمريكية أليسا ميلانو ليصبح مفتاحا لثورة نسائية على صمتهن أولا ورفض الاستمرار الغبي في حماية المتحرشين، ثم تحوّل بوحهن إلى علامة فارقة ميزت الحملة المناهضة للتحرش على مستوى العالم. للأسف لم يتجاوب معها في عالمنا العربي غير فئة قليلة من النساء الواعيات والمدعومات من عائلاتهن، إلاّ أن الأمر ليس نهائيا، فالحملة مستمرة منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وها هي تبلغ مرحلة حاسمة كونها اقتحمت معاقل رجالية كان من الصعب اقتحامها في سنوات سابقة. ولعلّ أهم ما وصلت إليه هذه الحملة هي كشف ما تخفيه ستارة النخبة، وزبدة المجتمعات المخملية والبراقة، من انهيار أخلاقي وتواطؤ مع الفاسدين مقصود أو غير مقصود.
انهارت أسماء كبيرة بين أركان السياسة والمال والفن عالميا، مثل استقالة وزير الدفاع البريطاني مايكل فالون بعد اتهامه من طرف زميلة له بالتحرش، وعُلِّقت عضوية النائب كالفن هوبكينز بعد أن اتهمته إحدى الناشطات في حزب العمال بالتحرش بها، كما استقال جاستن فورسايث نائب مدير منظمة الأمم المتحدة للطفولة للسبب نفسه.
لكن السؤال الذي يبقى معلقا هل يكفي كل هذا لردع المتحرش؟ أحد أهم مشاهير التحرش المخرج رومان بولنسكي الذي طرد من قبل الأكاديمية الأمريكية لجوائز الأوسكار بسبب علاقة جنسية مع قاصر في الثالثة عشرة من عمرها عام 1977 يصف حملة «أنا أيضا» بأنها «مجرّد هوس نسائي» في سخرية لاذعة وتحقير متعمّد للنساء، وهذا يعكس استهتار فئة من المتحرشين بما يحدث، ولعل هذا هو السبب الذي زاد من غضب النساء حتى امتدت الحملة لتطال نخبة النخبة، وتهز الكيانات التي صنعت الحدث الفكري والثقافي عبر العالم، إنه جرس إنذار لإعلان يقظة العقل ومواجهة جنون الغريزة. وهذه قراءتي الخاصة لما يحدث في انتظار موقف واضح من النخبة العربية التي لا تزال في الغالب متأرجحة بين العقل وصراخ الغرائز.
319 4 دقائق