الصمت – وديع سعادة

لماذا أمضى نيتشه سنواته الأخيرة صامتًا منعزلاً؟ هل أراد أن يقول إنَّ الصمت هو أعلى درجات الكلام؟ التعبير الأفصح عن لا جدوى التخاطب؟ أن ينفي إمكان التواصل بين الذات والآخر؟ بين الفرد والجماعة؟ هل كان صمته يأسًا من اللغة ذاتها، من محمولاتها ومدلولاتها وتناقضاتها وخياناتها، من نبعها ومصبّها معًا؟ أم أن الصمت هو الاحتفاء الوحيد المتاح بالحياة، والتشييعُ اللائق لمن يريد أن يودّعها بإخلاص؟

لماذا صمت نيتشه كلّ تلك السنوات؟ ولماذا غادر رامبو الكلمات؟ والكثيرون غيرهما لماذا وضعوا هذا الحدَّ المرعب بين اللغة وخرسها، بين الذات والآخر، بين الحياة وعدمها، بين الإقامة وشطب الوجود، هذا الكائن الصغير الوحيد بين عدمين؟

ولكن، هل من حدٍّ، أو نقيض، بين الصمت والكلام؟ ألا يكون الكلام في الغالب أخرس والصمتُ في الغالب مطلوق اللسان؟ أليس السكوت لغة داخلية ضاجَّة والقولُ أصواتًا ضاجَّة أيضًا؟ أين الحدود إذن؟

وإنْ لا حدود، إنْ هباءٌ واحد يجمع الصامتين والمتكلمين، ما معنى أن نختار الصمت وأن نختار الكلام؟ ما الفارق إن تكلَّمنا أو صمتنا؟

غير أنَّ الصمت يخفّف الثقل؟

كلَّما نقص صوت، أعتقد أن الأرض تشعر براحة.

الذين يصمتون يرتفعون عن الأرض قليلاً، لا تعود أقدامهم وأجسادهم ملتصقة بها. الذين يصمتون ينسحبون من جمهرة الأرض كي يحتفوا بذاتهم. كأنَّ الاحتفاء بالذات لا يتمُّ إلا بالعزلة. كأنَّ الاحتفاء بالحياة لا يكون إلا بالصمت.

ألا يمكن الواحد أن يحتفي بذاته مع الآخرين؟ إنه احتفاء فرديّ، بلا شريك، هذا الذي تقف فيه الذات أمام نفسها وتغنّي. تختلي بروعتها، بخوائها، وتنتشي. يخرج من صمتها النشيد الجميل النادر، البدئيّ، السريّ، النقيّ. النشيد الذي لا يقول شيئًا، لا تراوغه الكلمات، لا يحكي ولا يُسمع.

الذات تحتفي بغيابها عن الآخر. الذات تحتفي بالغياب.

هل هو الاختفاء إذن ما يُطرب له؟ هل هو الخواء ما تقام له الاحتفالات؟

هل الاحتفاء هو الاختفاء؟

بصمت الشجر والحجر تطرب الأرض وبصخب البشر تمرض. بالسكون تورق وتزهر وبالضجيج تموت. ليس صحيحًا ما تعلَّمناه. جوهر الحياة ليس الحركة بل ربما السكون. المياه المتخبّطة الهادرة لا تقيم ولا تحيي إنما تجرف وتقتل. لا يُطلع الماءُ حياةً إلا إذا رقد.

على الحافَّة، على الحدّ، يمكن أن نكون. على الحدّ بين الذات والآخر، بين الخارج والداخل، على العتبة. هناك قد تكون حياتنا على الحدّ الضئيل النحيل المسنون كشفرة.

الحياة، على الأرجح، تبدأ من النقطة الصغيرة الممحوَّة. النقطة التي تكاد لا تُرى، بين احتضار الصوت وولادة الصمت. بين انتهاء الكلام وبدء السكون.

هناك ينتهي التناسل الخارجي ويبدأ التناسل الداخلي. تبدأ ولادة الحياة التي تخصُّنا، العالمُ المعاد تركيبه، المستحيل أن يكون في مكانٍ آخر.

في النقطة الممحوَّة يولد كوننا.

على الشفير، حيث لحظة الانبثاق ولحظة السقوط توأم. حيث الولادة والاحتضار واحد. حيث الوجود والعدم في نقطة نحيلة جدًا، على رأس شفرة.

ولكن، من يقوى على الحياة هناك؟

من يستطيع أن يحيا على شفرة؟ أن يُنجي لحظة ولادته من لحظة موته؟

والأرض، هل لذلك مكدَّسة بالجثث؟

فلنصمت قليلاً. أصواتنا أودت بنا إلى هنا، إلى هذا الجحيم. إلى القتلى الساقطين بالكلمات، بالخطابات، بالشعارات. إلى المعذَّبين في زنزانات الكلام المقفلة. المشنوقين باستحالة وصول الصوت. المرميين في فراغات حائرة، حيث لا سقفَ صمتٍ ولا فضاء كلام.

الصامتون منتحرون أيضًا. صحيح. لكنهم يتوحدون مع ذواتهم على خشبة الانتحار.

لو يصمت العالم الضاجُّ، قليلاً. ماذا يحدث لو صمت العالم؟ لو اختفى ضجيج البشر لحظة؟ أما كانت الأرض تستعيد بعض فتوَّتها، بعض صحتها؟

هذه الأصوات تنشر الأمراض.

إذا كان هناك من يريد فعلاً أن ينقذ البشرية فليأمرها بالصمت.

الأرض لا تفتقد غيرَ مخلِّصٍ واحد، يخلّصها من الضجيج.



*نص: وديع سعادة

زر الذهاب إلى الأعلى