كتبت: سوسن جاد
الحاجة أم الاختراع، وكذلك الخيالُ أبِيه. فلاختراع أداة جديدة؛ يجب عليك حتماً أن تطلق عنان خيالك للامعقول واللامقبول لتنسج منه كياناً جديداً في شكل فن أو ماكينة. وبالنظر لوثيقة الأزهر لتنظيم مستقبل مصر لتبيان الموقف الشرعي من اللامعقول واللامقبول، انتصرت الوثيقة لموقف الشريعة المستنير من حرية الفكر والإبداع حيث أكدت الوثيقة أن هذه قيمة منصوص عليها فى الشريعة الإسلامية وتعطي للمسلم الحرية الحقيقية فى فكره وآرائه وأفعاله، ولكن هذه الحرية ليست مطلقة من كل القيود إنما هى محددة بما لا يضر المجتمع من منطلق فكرى يطلق عليه القانونيون النظام العام.
ولكن دعنا ندقق لحظة ونعيد السؤال: كيف يمكن للشريعة أن تشجع على الإبداع؟ كيف يمكنك البحث في الشريعة لتبيان أن الاختراع الفلاني حلال أم حرام وهو لم يوجد بعد؟ هل يكفيك الاقتناع بجواز الاختراع طبقاً للنية من استخدامه؟ أي أن حلاله مرهون بنيتك ألا يتم استخدامه فيما يضر المجتمع؟
دعني أروي لك قصة قصيرة أنت بطلها، وعليك إمدادي بقرارات ودوافع الشخصية. أنت شخص متدين تعيش في الثمانينيات، تعمل في شركة طبع وتحميض أفلام، وتسكن في عمارة تسكنها قوادة ودائماً ما ترى فتيات الليل يترددن على مكتبها. ذات يوم، تطلب منك القوادة أن تساعدها في تطوير اختراع جديد (نعرفه لاحقاً باسم شرائط الفيديو) لتسجيل أفلام جنسية وتوزيعها لتساعدها في الانتشار حيث إنها ترغب في توسيع نطاق عملها بتكلفة أقل. هل سترفض وتعتبر هذا الاختراع حرام لأن الساعية له تعمل بالجنس التجاري؟ أم تعتبره حلالاً لما ترى فيه من قدرة عظيمة لنشر المعلومات والإعلام بشكل عام؟
وماذا إذا سألت شيوخاً وعلماء، واتفقوا جميعاً على حرمانيته، وقمت أنت بتحديهم وسُلطتِهم، وصنعت بالفعل أداة تنشر أفلام الجنس بشكل واسع، ثم في ظرف عقد أو عقدين كانت هي نفس الأداة المسؤولة عن الانتشار الواسع للدين الإسلامي في شكل محاضرات ودروس دينية؟ هل تكتب عند الله عاصياً أم يُكتَبون هم ضحلاء الرؤية؟ ومن يتحمل مسؤولية إخفاق الشعوب الإسلامية في الوصول إلى أي سبق صناعي أو ثقافي، لمجرد أن عالم دين اجتهد فأخطأ؟
صديقي، هذه القصة حدثت بالفعل، فقد كان المحرك “الوحيد” (وليس الرئيس، بل الوحيد) لتطوير1صناعة أفلام الفيديو هو أفلام البورنو وتجارة الجنس لتصبح أقل تكلفة وفي متناول الجميع. فاستوردنا نحن هذا الاختراع وسجلنا عليه محاضرات الشيخ الشعراوي لنشاهده يحض على صفات مجتمع مثالي كما صوره فهمه لكتب السيرة، تشعرنا نحن بالرضا كمستهلكين للحضارة، مثله، نبدي أراءنا ذماً ومدحاً فيما يقدم لنا على الطاولة من طعام وأجهزة وتقدم إنساني، دون تفكير في حيثيات صنعها.
وإليك قصة أخرى أنت أيضاً فيها البطل. هذه المرة أنت مقامر سكير مضر للمجتمع لأنك “هلاس” تصرف أموالك على ملذات فاسدة مثل سباق حلبات الخيول. ذات يوم وقد أثملك الخمر أثناء مشاهدة السباق، تحداك بعض الأصدقاء عبثاً لمعرفة عما إذا كانت الخيول ترفع أرجلها الأربعة أثناء الجري أم كل رجل على حدة. بعد كثير من الجدل، قررتم أن تستأجروا كاميرا لتصوروا لقطات كثيرة وسريعة للخيل أثناء الجري لحسم الرهان، فأنتم أغنياء مدللون تفنون أوقاتكم وشبابكم في أنشطة غير مفيدة سوف تسألون عنها يوم الدين. على أية حال، تم حسم الرهان، واكتشفتم متعة اللقطات السريعة من الكاميرا الثابتة، وتم ولادة فن جديد اسمه السينما على يد عابثين لا قيمة لهم في المجتمع الذي ينشده الإسلام. بعد سنين طويلة وصل فن السينما الشرق الأوسط، واستخدمناه كذلك في نشر قيم المجتمع المحافظ كما ننشده، وفي لفظ كل ما هو لامعقول ولامقبول.
بينما تحاول الشريعة تهذيب الإبداع ليتسق مع شكل المجتمع الإسلامي الصحيح، فإنها تحرمه من ممارسة اللامعقول واللامقبول الذي هو المحرك الأساسي للإبداع. فينتهي بها الأمر تلك الشريعة، أن تكون وعاء استهلاكي يقوم دائماً بدور ردة الفعل في شكل الحكم على الناس وأفكارهم، هذا فاسد وذاك مضر، في شكل سلبي (غير استباقي) بعد ظهور الفكرة وليس قبل ظهورها، فيؤدي ذلك إلى حتمية الكسل الفكري لدى المجتمع، لأن أفراده يؤثرون الالتزام بالمقبول والمعقول، خوفاً من مخالفة النظام العام، لربما ينجحوا لا سمح الله في اختراع أو إبداع ما.