فاتن، من خطاب حبيبٍ لرولان بارت، ترجمة: هاجر سيد

1

لم يُخطط المحب لتسمية خصوصية رغبته، وبدلًا من ذلك تعود غرامية موضوعه على هذه الكلمة الحمقاء: فاتن!

يوم جميل من أيلول، خرجت لأقوم ببعض المهام. باريس فاتنة ذلك الصباح… إلخ. فجأةً مجموعة من التصورات تجمعتْ لتُشكل انطباعًا متلالئًا (ليتلألأ: أي ليمنع نهائيًّا الرؤية، ويمنع النُطق): المناخ، الفصل، الضوء، الشارع العريض الذي تكتنفه الأشجار، الباريسيون الذين يمشون في الخارج، التسوق، جميعهم احتجزوا ضمن ما من شأنه أن يكون له مَبعث كذكرى: كمشهد، باختصار؛ هيروغليفية اللطف (كما قام غرويز برسمها) المزاج الجيد للرغبة. كل باريس تحت وطأة إدراكي، بدون إرادتي في إدراكها: لا ضعف ولا شهوة. أنسى كل الواقع في باريس التي تجاوز سحرها التاريخ، العمل، المال، التجارة وكل فظاظة المدن الكبرى، أرى هنا فقط شيئًا من رغبة جمالية مقيدة. وفوق مقبرة بيرلاشيز، قَذف راستينياك تحديه للمدينة: وبين اثنين منا الآن أقول لباريس: فاتنة!

2

بعد انطباع الليلة الماضية، استيقظت خفيفًا بفكرة سعيدة “س كانت فاتنة ليلة أمس”، هذه ذكرى لـ… ماذا؟ ما يلقب به اليونانيون الآلهة القديمة: “بريق العيون، جمال الجسد المضيء، تألق الكائن المرغوب به”: وقد أضيف، كما هو الحال في المقاعد القديمة، الفكرة، والأمل في أن الكائن المحبوب سيهب نفسه بناءً على رغبتي. بمنطق فردي، الشخص المغرم يرى الآخر ككل، (وعلى غرار باريس الخريفية)، وفي نفس الوقت، هذا الكُل يبدو له تذكيرًا، لا يمكنه التعبير عنه، إنه الآخر ككل الذي يصنع بداخله رؤية جمالية، يمدح الآخر لكونه مثاليًّا، ويمجد ذاته لاختياره هذا الآخر المثالي، يتخيّل أن الآخر يريد أن يُحَبَّ، كما هو نفسه يريد أن يُحِبَّ، ليس لواحدة أو لأخرى من صفاته، بل لكل شيء، وهذا الكُل شيءٌ يُمنح للآخر في هيئة كلمة فارغة، إذ لا يمكن للكُل أن يكون مُجرَّدًا دون أن يتضاءل في فتنته! ليس هناك أفضلية نوعية، ولكن فقط تأثير الكُل شيء. وبعد، في نفس الوقت فتنته تقول كل شيء. تقول أيضًا ما ينقص في كل شيء؛ إنه يسعى لتحديد موقع الآخر الذي تتشبث به رغبتي بطريقةٍ خاصة، ولكن موقعه لا يمكن تحديده، وبذلك ينبغي أن أعرف أي شىء: لغتي التي دائمًا تتلعثم، تتأتئ في محاولة من أجل التعبير عنه، ولكن لا يمكنني أن أصنع شيئًا واحدًا سوى كلمة فارغة، ونطق فارغ، وهي بدرجة الصفر في كافة مواقعها حيث رغبتي الخاصة لهذا الكائن الخاص سوف تتشكل (وليس لأحد سواه). التقيت ملايين الأجساد في حياتي، ومن هؤلاء الملايين، ربما أرغب في بعض المئات، ولكن من هؤلاء المئات، أحب واحدًا فقط، وهذا الآخر الذي أنا مغرم به هو من يحدد لي خصوصية رغبتي.

3

الاختيار صارم للغاية حيث يتعين عليه فقط بما هو فريد، يقول، الفرق بين الانتقال التحليلي، والانتقال العاطفي، واحدًا كونيٌّ والآخر مُحدَّد. بالنسبة لي، تطلب الأمر العديد من الحوادث والعديد من المصادفات المفاجئة بل وربما الكثير من الجهد؛ لأجد بين هؤلاء الآلاف الصورة التي تناسب رغبتي. هيرين لُغز عظيم، التي لن أمتلك مفتاحها قط، لماذا أرغب في كذا وكذا وكذا؟ لماذا أرغب هذا الكذا وكذا بشكل دائمٍ وبتلهُّفٍ؟ أكُل هذا الكذا وكذا الذي أرغبه (شكل ظلّي الصورة، ومزاج جيد)؟ وفي هذه الحالة، ما الذي يوجد في جسد المحبوب مختصٌ في هوسي ؟ ما الجزء المحتمل أن يكون بالغ الهشاشة/ أي حادثة؟ الطريقة التي يُقصّ بها ظافر اليد، أهي سنّ مكسورة ومنحرفة بعض الشىء، خصلة من الشَّعر، الطريقة التي تتفَشَّى بها الأصابع وتتباعد أثناء التحدث، وأثناء التدخين؟ حول كل هذه الطيّات من الجسد؛ أريد أن أقول إنها فاتنة. فاتنة تعني: هذه رغبتي، ما دامت فريدة من نوعها، هذه هي! هذه هي تحديدًا ”كما أحبها“. حتى الآن، كلما زادت تجربتي لخصوصية رغبتي، كلما قلت قدرتي على تسمية ذبذبة الاسم وتطابقه مع دقة الهدف، ما ميزة رغبتي؟ ما يليق برغبتي، ينتج عنه بذاءة في التعبير. ولفشل اللُّغة هذا، يظل هناك سياق واحد فقط، الكلمة ”فاتنة“، والترجمة الصحيحة لفاتنة ستكون لاتينية المعنى: (إنها الذات، هو، هي، بِلَحْمِهِ وشَحْمِهِ).

4

”فاتنة“ إثر عياء غير ذي جدوى/ إعياء اللغة ذاتها، من كلمة إلى كلمة، ”وبمعنًىٰ آخر“ أُعاني لأصيغ فردية صورتي. لأعبر عن بذاءة رغبتي بشَكْلٍ غَير مناسب، رحلة في نهاية فلسفتي الأخيرة ما هي إلا اعتراف بالحشو وتطبيقه. الفاتن هو الفاتن، أو مجددًا؛ أنا هائم بكِ لأنكِ فاتنة، أحبكِ لأنني أحبكِ، وبِذَلكَ ما يُقرّب لُغة المُحب هو الشىء ذاته الذي أسّسها. فِتْنَةَ، لا يُمكن أبدًا وصف فِتْنة، في التحليل الأخير، تجاوزت القدرة على التعبير “أنا مفتونٌ”. هنا نكون قد بلغنا أقصى اللغة، حيث يُمكن أن يكون تكرار الكلمة الأخيرة كأسطوانة مخدوشة، أنا أُثمل نفسي بتأكيدها، أوَ ليس الحشو الحالة الخرقاء التي سنجدها، إنما كل القيّم المحيّرة، والنهاية المجيدة للعملية المنطقية، وفُحْش الحماقة، وانفجار ”نعم“ النِتشَوّية؟

زر الذهاب إلى الأعلى