فهرس الخراب – أحمد الملا

وُلِدتُ قُربَ الجملةِ الأخيرة من فصل الخوف، بمجرّد وقوعِها على الأرض، نشفَ الكلام في فمِ الشيوخ الخاشعين في المعاجم، قرعَ النحس نبوءاته، وتخلّى الضحك عن الصغار عنوةً، وأخذوا يرطنون بصفيرٍ مريب.


لم ينبّه الأشجارَ خلوُّ الأعشاش، ولا نباح الكلاب وسُعار جرائها.
سرعان ما انزوى الكبار وتساقطوا، سمّمتْهم الخيبة واحدًا تلوَ الآخر.
رأيتهم يتلثّمون بالحزن، ويعتزلون النخيل.


المجانين آخِرُ مَن فقدنا.


في الأسواق تتسوّل لغةٌ طارئة، لم تجد حُماة يدلّلونها بتصغيرِ أسمائنا، ولا أغانٍ ترقِّق من مشقّة العمل. انتفخَت كلماتُها وتشقّقَت، تطايرت الأوراق مصروعةً تنزّ أشداقها وترغي. لغةٌ هوجاء حشدت رغاءها دون رُعاةٍ عطوفين، ولا نحاة ينحنون ويحنُّون أو يحزنون.


في غفلة من الأمهات، نبَتَ أشباهٌ قساةٌ بين عتباتنا، لا يميّزهم مكان ولا وضعوا الوقت في بيوته، توحّشَت عيونهم وصمّت آذانَهم الصيحةُ حين نبشوا بمخالبهم بطون الكتب.


قساة، شبّهنا بهم أخطاء آبائنا، أرعبهم مغزى القصص، سَلَحوا على رواتها، نهبوهم النهايات قبل حينها وأجبروا قرّاءها على النسيان.
ها هم يطعنون الكلمات الفارّة بنصالٍ معقوفة، يبقرونها وينثرون حروفها للهوام.
لم يعد من الحكمة أن تقول، ليس من الحكمة أن تردّدها، فالحرس يحكمون الطرقات، يحتكرون المعابر ويسدُّون الدروب.



ابلعْ لسانك
وتريّثْ قبل جريرة التأويل
عليك تنقية القواميس من كلِّ شكٍّ ورائحة.
ليس لك أن تقلّب الفكرة، كي تتخيّر ما تريد؛ عجّلْ بدفنها ولا تتردّد.


مفرداتٌ لا تأمن في الخروج على عفّتها، أغلقنا الأبوابَ دونها، أوصدنا عليها النوافذ، وحين ضاقت بنا، وأطلقنا مُكرَهين سراحَها في الفضاء، ترصّدَها قنّاصةٌ من أعلى المآذن، تناثر الريش ولطّخَتِ الغيمَ حُمرةٌ سالت من الأسطحِ والمزاريب.


هربتُ إلى خلاء الصمت، موصومًا بالغدر، طريدًا وملعونًا بالأضداد.
خلفي مدينةٌ ترجم المجاز، تدقّ المسامير في كفيه مصلوبًا على الأبواب، مدينةٌ تفتّش ثياب الحروف؛ خشية تهريب المعنى، كنت أنزعه واحدًا واحدًا من فوق الأرفف، ألفّ جنبيه بخرقة، أخبّئه في النهار عن أعين المارة، وفي الليل أغطّيه بحيلة النوم.


لو نطقتُ بما لا يُفهم،
لو أفلَتَ عقال الغامض،
لتعقّبته كلابُ الصيد،
يُقاد من رقابه، عاريًا بلا قناع،
يُطاف به الأسواق، عِبْرةً، ويُعلّق رأسه على الأسوار.


تضاءل الكلام، حتى ضَمُرت العبارة،
لا النطقُ بها يجدي ولا صوتٌ يعلو فوقَ عقيدةِ القتل.
شحُبَتْ الكلمات وشيّعناها بالأعين ورششنا نعوشها بـ«المحو».


لجأتُ إلى الصمت، لُذْتُ بظلِّه بعيدًا عن حراب البنادق، حديدِها أرهقني برنينٍ رتيب يحكُّ الجدران، حطّابو الإشارات أحرقوها ولم تنجُ منها علامة.
ما الذي ترتابه أعين الحراس؟ تفتّش الغايات وتفسِّر ما بين السطور.

حملتُ الصمت بين أضلاعي وفررت،
ها قد خلَتْ من بعده الصفحات، صُفّت الجنائز تباعًا وتراصَّت القبور.

ها هم يطلقون الرصاص من كل صوب، وكلما نُكِّلَ بجثّة نصبوا خيالها في الحقول وارتجلوا عدوًّا يحشون جيوبه بالقشِّ وأكمامَه بالوهم، ساوَت الأرض بدُخَانِها بين قاتلٍ وقتيلٍ، كلٌّ يخطُّ بصراخه الأجش، الفصلَ الأخير من فهرس الخراب.




*نص: أحمد الملا



زر الذهاب إلى الأعلى