
ذكرى رحيل
نرحلُ،
كأننا لم نكن يومًا أشجارًا،
تذرفنا الرياحُ مع صهيلِ الوحدة
وتهوي بنا إلى قيعان البحر
تسلبنا أرواحنا وأسماءنا،
ولا تُبقي علينا سوى ملح الاغتراب
تتآكلُ أجسادنا،
نتقلَّبُ على صخورٍ الانتظار
نهشُّ الطيور الجارحةَ عن موتنا الأخير
وندفنُ بقايا الحبِّ على تلةّ الجبل الحزين
المجبولِ بالدموعِ على أشجاره الموتى
أشجارٌ كانت تصطاد التخوم
من أفواه المجرّات النائمة،
وتسلبُ اللهفةَ الأولى من عيون الطفل
وارتعاشةِ النهر في بكاء الليل
لاشيء يُثير رُعبَ النور
مثل عينيكِ
بين نسائم الفجر يُذكر القمر
المذبوح بين يدك بأنكِ قاتلة
ولا شيء يسلب صفاء البلّور
سوى ضحكاتك
يا أنتِ أيتها المدفونةُ فيّ
خذي هذه البذور لتكبري،
ونستحيلَ شجرةً مرةً أخرى
***
غواية المرج
تراءت لي في شجون العُشب
أماني تحلِّقُ في الغياب،
أحلامٌ خريفية تتساقطُ وتتلاشى
في ارتطامها بعنفوانِ ربيعٍ راسخ
نظرةٌ تزمجرُ وهي تمتطي
ظهرَ بحرٍ ملتهبٍ،
تمخرُ العباب نحو المدى الشارد
تراءت لي في وحدتي
طيوفٌ من النورس
وكنتُ اُشيح بناظري عنها
هذا البكاء لاينتهي
وانا اُجدّفُ قواربَ الرحيل
ولا اُصغي لصوتِ الدمعة
وهي تحرقُ الملح
على أصابعِ يدي
وينتثرُ اسمك بين شقوق
جدران الأمل الزائف
ولايخُضُّ الليلُ وجداني
وأظلُّ أسرحُ في متاهات النجوم
أفكرُ بسرقةِ الإله
يدُه
ويدي
ويدانا
لأجمعَ نشوة التراب ِ
من رحيق روح الله
وأصنعكِ من جديدٍ
حُلمًا
ألمسُه بيدي
***
الشجرة الأولى في نبوءة الخزام
هجرتني شجرةٌ خضراء
أتوقُ للغُصنِ، أتوقُ للورقةِ،
ولا أعرفُ كيف أواسي الريح!
ولا كيفَ أرثي الربيع !
لا أعرفُ كيف أزرعُ روحي !
ماري جراح الدمع المُتّقد على شرنقة الليل
ماري عذابات الفجر المسموم بالوداعات
ماري شمعةُ القُرنفل المّعطّر بالرحابة
ونهاياتُ الأمل الباكي على موجةِ الوداعة
ماري خليلةُ البهاء النازفِ على بتول الفَراش
ماري كواكبُ الروح المدغدغةُ بشعاعِ النور
وتهاليلُ العصافيرِ المُهاجرة إلى براحِ البرزخ
وسماءات البحرِ الكئيب المُثقل بالدمِ والعار
ماري اشتياقُ الفجرِ لزهرةِ الشفق الأخيرة
وتشكُّلُ اللهِ على مبسمِ الأطفال
ماري معبودةُ المطرِ وحدائقُ الصفاء
وتلهّفُ النسيمِ على خصرِ الوديان
لم يعد لهذا النهرِ مصبٌّ سوى دموعي
ولم يعد لهذا الوجدان صورةٌ سوى طيفُكِ الأخضر
يسكنُ الرؤى هديلُ الألمِ،
وتستبقُ الذكرى على أحداقِ الأمس،
ويقرأ الصباحُ على مذبحة ِالتلال شِهابَ التعاويذِ وزمجرةَ العُشبِ الكثيبِ فوقَ تراتيلِ القصيدة،
وتظلُّ حِجارةُ النبوّةِ تُلقي على دمِكِ الأخضر اسمي، ووجهي، ودمي،
ذاكَ الندى فوق سنابلِ الخزامى تَحوَّلَ إلى زوبعةٍ من الأشواق كُنتُ بوجهكِ ألوّنُ السماءَ بالزُمرُّدِ،
كُنتُ بصوتكِ أُغنّي بلغة العِطرِ
كُنتُ بيدكِ ألمسُ الإله
كُنتُ بخصركِ أكره نِساء العالمِ
وحيدًا، بِلا ظِّلٍ، بلِا شجرة.
___________
*ماجد الفهمي، شاعر سعودي من مكة.