ماه من – آمنة عبد الغني

ذات يوم، سوف تومض حياتك أمام عينيك، فتأكد أنها تستحق المشاهدة

أشخاص:

*ماه من: قمري، باللغة الفارسية

تبدو الذاكرة كائناً شبحياً نقاوم بها ثقل الأيام ومتاعبها، تارةً تظهر كشاشة سينما داخلية كالمخلص الذي يرمم جروحنا، وتارة تصف لنا روشتة أقراص تضع فيها ضحكات من نحب وهمساتهم نتناولها سراً عندما نصاب بوعكة، وتارة تُلبسنا جناح طير تحمل معها أجمل اللحظات لنرتفع عن متاعبنا. 

أمتهن حرفة بناء الذكريات بمهارة وإتقان مع جميع أحبائي، بما في ذلك الأماكن والطبيعة التي أعتبرها كائنات حسية تألفني وأألفها، وأعزي تلك المهارة لقدرتي على التنقل معهم بخفة من حاسة لأخرى.

وفقاً للأبحاث التي أجراها مايك ويكينج، 62% من الذكريات المؤثرة التي تم استرجاعها كانت متعددة الحواس، فكلما زادت قدرتنا على استخدام حواسنا بشكل متعدد، زادت فرصتنا في الاحتفاظ بالذاكرة واستدعاؤها في المستقبل. لذلك عند رغبتي في تثبيت لحظة معينة في ذهني كجزء من مخزن الذكريات، أكون منتبهة للمداخل الحسية المحيطة بي، هل هناك رائحة مميزة في الجو؟ أغنية معينة تلتقط انتباهي؟ ملمس يثير إحساساً معيناً؟ طعمًا يجعل اللحظة لا تنسى؟ أحيك نسيجًا من الروائح واللمس والتذوق وأراكمه مرة تلو الأخرى، حتى أبني قصراً من الذكريات التي لا تُنتسى. 

وقد وضعت ذلك الصوت الصباحي الدافئ في قارورة أحملها معي أينما أذهب، خيطت معها آلامي وأفراحي وأحلامي. تُناسبها صفة الحارس: فهي حارسة المفاتيح، حارسة الخاتم، حارسة الكنز، حارسة النذر… أحكي عن فيروز حارسة ذكرياتي والناطقة الأبدية باسم القمر. وما هي حكاية القمر الذي يبدو ملازماً لفيروز في معظم أرشيف أغانيها؟ فمنزلها هناك خلف القمر، والقمر عندها بالدار، تروي لنا حكاية الليل والقمر العشقان، ومن يوم ما حبت صار القمر أكبر، وصار تنادي حبيبها سيدُ الهوى قمري، ولونت سماها معه وزرعت الهوى معه، اللي تشرح الهوى على مطلعو ، ومعها يرقص القمر ويلعب عالشجر، ومن غزلها يُكسى القمر، وهي التي بكفيها مع حبيبها ضو القمر، وهي التي تخاف لتنام وينزل القمر ويلاقيها غافية، وصار حلمها بس ان القمر ياخدها بعينيه ويهرب

The goddess of the Moon 1 ماه من - آمنة عبد الغني
حظيت الميثولوجيا القمرية بأهمية أكبر مقارنة بالميثولوجيا الشمسية

في رحاب الأساطير القديمة، نرى أن الميثولوجيا القمرية كانت تحظى بأهمية أكبر مقارنة بالميثولوجيا الشمسية. ويعزى ذلك جزئياً إلى الأثر العميق الذي كان يتركه مشهد السماء في الليل بنجومه المتلألئة وقمره الساطع على نفس الإنسان القديم. وبالرغم من أهمية الشمس كمصدر رئيسي للطاقة والحياة، إلا أن القمر كان يثير استفسارات وتساؤلات أعمق في نفوس البشر، وذلك بفضل حركته الشهرية التي كانت تتناغم بشكل لافت الحركة الطبيعية الداخلية لجسد الأنثى. لذلك صنف القمر في أساطير العهد القديم على أنه أنثوي الطابع. وارتفعت أهمية القمر عندما ارتبطت أهمية القمر في وعي الإنسان منذ القدم بالتغيرات الموسمية على الأرض وخصوبتها. فكان القمر بمثابة العنصر المحرك الذي يعيد الحياة إلى الأرض بعد فترات السبات. وهذا ما عكسته الأساطير السومرية، فتم تجسيد مراحل القمر من البدر إلى المحاق من خلال قصة هبوط آلهة الخصوبة “إنانا” وفقدانها جزءاً من زينتها أمام عبورها كل بوابة من بوابات العالم السفلي حتى تصبح عارية تماماً، حيث يعتبر وجودها في الأسفل رمزاً لغياب الحياة والخصوبة في فصل الشتاء. في حين تعود حية ومجددة في الربيع مع عودة النباتات إلى الحياة عندما تجد محبوبها “ديموزي” إله الخضرة، وهنا يبدأ ظهور القمر مجدداً أول الشهر، كخيط رفيع يتزايد حتى يكتمل بدراً. 

Luna statue 1 ماه من - آمنة عبد الغني
سيلين، إلهة القمر في الأساطير الإغريقية (التمثال في الأصل يبين إلهة القمر الرومانية لونا، والتي تعد الإلهة المقابلة لسيليني)

نحن كائنات تسعى دائماً للبحث عن المعنى في كل شيء من حولنا، وقد ابتكرنا الأساطير لتكون عوالم موازية وظلالاً باهتة للحقائق الأرضية، لتساعدنا على التعامل مع المآزق البشرية وتعيننا على العيش بعمق وكثافة. القمر في أغاني فيروز ليس مجرد جرم سماوي، بل هو يتجلى كرمز للأنثى في رحلتها العاطفية، المتبدلة في تحولاتها، والهشة في ارتباطها العميق بمن تحب، فتتبدل أحوالها وأطوارها مع الحبيب بين الضياء والعتمة، تبدو بدونه هلالاً رقيقاً شاحباً ولا تخضر الأرض بدونه، ومعه تكتمل بدراً تنير السماء وتخضر الأرض بهما. وينعكس التناغم في مشاعر الأخذ والعطاء في لعبة الضياء والعتمة في التربيعين الأول والثاني من أطوار القمر، حيث تارة يغلب الضياء على العتمة، فتعطي أكثر مما تأخذ، وتارة أخرى يحدث العكس. 

هذه تدوينة للتذكير بأن حياتنا ليست فقط الأيام التي مضت، بل الأيام التي ستظل في ذاكرتنا إلى الأبد، الجزء الأهم في الذكريات ليس فقط تذكرها، بل صنعها، لأنها الدليل على أننا عشنا حياة ذات معنى. لذلك، اسعَ لصنع أجمل اللحظات وللاحتفاظ بها لأطول مدة ممكنة، قم بسردها كقصة، لتحيا وتظل خالدة في عقلك وروحك للأبد. 

ذات يوم، سوف تومض حياتك أمام عينيك، فتأكد أنها تستحق المشاهدة.

كتابة: آمنة عبد الغني

زر الذهاب إلى الأعلى