ألحظُ وغيري الكثير مِن الفئات التي تتمثَّل حقيقتها ضمن النَّسق الذي تنتمي إليه؛ عن كثبٍ أنَّ بعض مراكز البحث وللأسف الممتعض، لا تعرف شيئًا عن ماهيَّة الدور المنوط بها أو حتى عن التعريف المُعجميّ الذي يكون رديفًا لماهيَّتها أو ما يتعدّى ذلك مِن متعلقات المَوْضع في مجتمعٍ ودولة. ويزيد على هذه الملاحظة الموضوعيَّة المُمْعنة في واقعنا؛ ما انتفضَ فيَّ مِن حسٍّ وطنيّ وحميَّة على أمانةِ المؤمن والبدويّ إذا وَالَى ورسَخَ تَمام الصِّدق في مُوالاتِه.
فتقوم بعض تلك المراكز بمَهام مراكز الترجمة في أدنى مستوياتها، أو لا تنجح في الأغلب إلَّا في مُحاكاة أقبح صُورة لعمل مؤسسة إعلاميَّة تُديرها عصابة مدرسيَّة، أقول عصابة مدرسيَّة لأبرهن خواء استراتيجيَّات الإدارة الحقّ للمؤسسة الإعلاميَّة بمَهابة عملها المُتضمِّن هُمومًا اجتماعيَّة وقضايا وطنيَّة وأفقًا إنسانيًّا، وبما يملأ معنى كَوْنها سُلطة رابعة وفق المعيار التصنيفيّ والتأثيريّ لسُلطات الدُول والمجتمعات الحقيقيَّة؛ فضلًا عن مركز البحث أو الفكر نفسه.
و”كغريقٍ مُستجيرٍ بغريقِ” بالمعنى الذي جاء به شطر إبراهيم عيسى، تذهبُ تلك المراكز في محاولةٍ مُهَلْهَلة لتعويم القيمة المقترنة بماهيَّتها وبالهيئة التي ينبغي لها أنْ تتمثّلها بنِتاجها البحثيّ والفكريّ وبطرائق الإفادة منها؛ إلى تأجير بعض مَن تسوّل له نفسه أنْ يرفع هاتفه ليتأكد مِن وجوده، إذْ لا إدراك له بوجوده دون تسليل نفسه إلى هذه النافذة الرقميَّة التي تهبه قيمةً رقميَّة هي الأخرى. إنّني حتى لا أجد توصيفًا لفظيًّا يحتملُ الدِّلالة التي يتمثّلها هؤلاء الذين لا أعرف الرابط العجيب بينهم وبين مراكز الفكر.
أناسٌ شديدو العاميَّة -بالمعنى الاصطلاحيّ الفقهيّ؛ فلا هُم أصحاب عِلْم ولا هُم حتّى طلبة عِلْم- ربما لا يُحسن بعضهم تهجئة اسمه كاملًا، يُجلَبون إلى مراكز تتوهّم أنّها بحثيَّة وفكريَّة، لتسويق شيء -فكر وبحث غير متحققين أصلًا- لا يُمكن أنْ يعبُر وعيهم في مَوْضعٍ يُماثل فيه الدالّ مدلوله بالمعنى اللِّسانيّ لعِلْم الدِّلالة في المُعجم العربيّ.
إنَّ ما يحصل هو أكبر مَهانة للبلاستيك الذي يحمل لافتة مركز بحث أو فكر؛ علاوةً على ما يلحق اللافتة مِن أيّة قرائن ارتباطيَّة بنِسْبة الفرع إلى الأصل. إذْ كيف لجماعاتٍ مماثلة تنتهج تَعويم القيمة بهذه الطرائق العجائبيَّة التي تُسِفّ بأيّ قيمة لاحتمالات نِتاجها -إنْ تحققَ لها أنْ تُنتج نِتاجًا بحثيًّا بالأُسس المنهجيَّة والنزاهة العِلميَّة وما تقتضيه مِن سِماتٍ تُحقّق في البحث العلميّ والنِّتاج المعرفيّ ماهيَّتهما؛ وليس بترجمة الصحافة الغربيَّة فقط-، أنْ تُحسن إدراك ماهيَّة مراكز الفكر أو طرائق عملها أو حتّى الغايات مِنْها.
استئجار جوقة مِن حَملة الهواتف؛ إنّما هي حالة ثُبوت لِفشل المركز البحثيّ في مَهَمته الحقيقيّة، إنّنا أمام معضلة في الوعي، وعجز عن بناء الفكر، وخواء في الإشارة إلى العقل فضلًا عن بناء العقل ذاته وتعرُّف حدوده؛ وهذا ولابدّ سيُشكِّل خطرًا على سيرورة المستقبل الذي نستشرفه طوال الوقت، تحت ضوء الشمس وتحت المجهر أيضًا، ونظلُّ مع ذلك نُؤَوّلهُ ولا نَقرَؤهُ.
إذْ إنَّ هذا الانحدار القيميّ إذا شَمِل مَواضِع مثل مراكز البحث؛ فَلا يُمكن أنْ يجعل حبر ورقها مرجعًا لبحث بدائيّ ولا حتى إحالة أو تضمينًا لأيّ شيء، فضلًا عن افتراض أنّها ركيزة لِصُنع قرار سياسيّ؛ ما يعني أنّنا نبني عُشًّا بالغ الهشاشة لِطيرٍ تنفضهُ “البَليل” وحدَها لا “الصَرصَر” ولا “النكباء”.
وأعتقد أنَّه ينبغي وضع رقابة مِن نوع معياريّ لمثل هذه المراكز، وتفنيد نِتاجها بما يتوافق مع ماهيَّة البحث العلميّ وحقيقة الفكر والوعي في مُختلف أنْساق المعرفة الإنسانيَّة؛ وقياس ذلك وفقًا لما تبنيه في مساحة الواقع لا في صُور تذكاريَّة لمصافحات وهميَّة تُنشَر في صحفٍ تُشارك هي الأخرى في المصافحات الوهميَّة نفسها.
نحنُ نكتبُ تاريخًا لِمَشْهَديَّة بدويٍّ عظيم اسمه زايد بن سلطان، بَنَى وطنًا فارِقًا، وبِكَفَّيْه التي حَفرتْ البِئْر، وسَقَتْ الخلائق حتى ارتَوَتْ، لَزَمَ التاريخ حدَّ أنْ تكون صَنيعتُه في هذا الوطن تاريخًا مفصليًّا لتاريخ الجماعة البشريَّة مُنذ كهفها الأوّل حتى مُحمَّدنا الكريم مِن أوّل بَذره، وبذر مُحمَّدنا، وما يبذر عنهم حين يكون أصلهم هُو زايدنا.
وهذا التاريخُ الذي نُصدِّقُ وفاءَ مروءَتِنا البدويَّة له، يجب أنْ نَصْدُق معه في تحديد ما يبنيه ويُعاظمه ويُكَوْثره، ولا شيء سيفعل ذلك مثل الوعي، الوعي الذي يبنيه الواعي، وليس الوعي الذي يحرسُه الجاهل ثمّ يَردِمهُ لأنّه جاهل.
والوطن الذي بُنِيَ بالبصيرةِ والحكمة التي جاءَ بها زايد؛ يجب أنْ تُنامِي مَجْده المعرفة والوعي التي توجب بصيرة العارف إذا عَرَف، العارِف وحده؛ ولا يُعوَّل في صَوْن الإنسان والأوطان إلَّا على العارِف إذْ يُؤتَمن وفاقَ همّ الوطن وإنسان الوطن همّه ذاته؛ فكانَ أهْلًا لكلّ مَوْضِع، وعَيْن الأثر الذي يبذُر هي عَيْن اليقين في تدليله وبرهانه.
ــــــــــــــــ
*مقالة: فاطمة بنت ظافر الأحبابي – الإمارات