تَحتَ صنوبرِ الحزن – أدونيس

أشخاص:
بلدان:

مئة جريح بلا وسادة ، مئة راية بلا سارية ، والفرح يضرب الخنادق والدم أغنيات ورقص .

بقليل من العشب الأخضر ، بقليل من الحجارة الأليفة ، بقليل من حكمة المطر ، نحطم أبوابنا العتيقة ، نرفع خيمة الصبر ،.. والبطولة حارس يتحفّز ، والحب ضربة داهمة .

للأصابع الذهبية الكسيحة نخلق عظم الرفض ، للأفواه اليتيمة الجائعة ننبش الجذور ، نحرث جبهة الأمير .

من هم هؤلاء ؟ ما هي هذه البلاد الحمراء ؟ لا تقيسوا الأرض بالسوط ، لا تزنوا الشعب بالحديد ، الكذب أثداء فارغة ، والعمر أبقى من السوط .

بجراحنا الخجولة العاشقة نمحو أسماءك القديمة يا عبودية ، ونرمي أسماءك الجديدة في محارق التمرد .

لكننا بلا موت ، فاقسي يا جراحنا المميتة ، واكذبي يا بلاد الخناجر ، ويا شعب القيود استبسل ، إننا الشمس والهواء ، إننا بلا موت .

يا رب ، أيها الهيكل المنور بالعذاب والدمع – بالشعر والدمع ، يا فحل الشمس والأرض ، افتح ولو مرة ، جفونك .

هي ذي مرآة ثاكلة ، تمسك ذيل الشارع وتحمل صناديق الفقر – هي ذي في جهنم البغي ، تلدغها أفاعي الطغيان ، ويخبطها فهد المشنقة .

هو ذا شعب بلا وجه يقفز تحت المهاميز ، وتثقب عيونه مسامير الجريمة .

هي ذي بلاد أجبن من ريشة ، وأذل من عتبة ، تدخل ملكوت الصمت وتمد جبينها للسنابك .

يا رب ، يا فحل الشمس والأرض ، علمنا أبجدية الهواء ، أرنا عصفوراً ما ، شجرة ما ،.. دلنا على النور والفضاء .

من يعشق دربنا الطويلة حيث الجوع ينعشنا ، وحيث تغذينا الحسرة .

من يعشق فراشنا الممزق حيث البطولة زوجة وديعة ، وحيث الموت فريسة وخبز ؟ وها نحن يا رب …

في ممرات تحزمها الصاعقة ، في مضايق بلا ظلال ولا ملك ، نمضي إليك عراة ، فاتحين .

نغسل عفونة الأرض ، نتزوج الماء ، ونملأ الليالي بصراخ الأشياء الجديدة .

أيتها الساعات التي تلبس وجه قايين ، أيتها الأيام الآتية افتحي كتابك لنا .

وحدنا في مفارق الموت والحياة – وحدنا ننتظر ، نلمح التعب يمحو سماءنا . ونلمح الشمس تنفسخ في تجاعيد أيدينا .

تحت أسناننا الصغيرة تتفتت عروقنا ، لا شيء يمنعنا من المحبة ، لا شيء ينقذنا من القتل ، ووحدهما – القبر والمحبة يفتحان صدريهما لنا .

يقتلوننا ؟ يمنعوننا من السير ؟ عبثاً يفعلون .

إننا زاحفون عنيدون مقدرون للسير أبداً ، لهذا نحن صارمون ، لهذا نحن معذبون .

وفي سيرنا الملتهب تكبر آثارنا ، وتنتفض ،..أجمل من قلعة رهيبة ،.. وأكثر اخضرارا من البحر .

لا شيء يجرف أقدامنا ، لا شيء يلجم طريقنا ، لنا بطولة أبطأ من حجرة . ولنا بطولة أسرع من طرفة العين .

لسنا كثيرين ، لكن الهواء معنا ، ومعنا الشمس والتراب ،.. نحضن الحرية ونحيا بين الجدران الأربعة لكتاب البطولة .

وحين يسلبوننا بيوتنا الألفية ، نبدلها بصخرة جامحة ، يرشح منها الأفق . ونرقد في أيدينا . وإذ نموت نفترش الأرض ، وفي وجوهنا المحبة .

لبلادي الأسيرة ألتصق بالموت وأكتب هذه الأغنية . لشعبي الرافع يديه في وجهي أصلي وأكتب هذه الأغنية .

أعياد الشجر بعيدة وفي أرض أخرى ، لكن بلادي زهرة لوتس ولؤلؤة .

لا رعد ، واليباس يرصد الجذور ، وأنا وأخوتي على المائدة ، نتقاسم بيضة صغيرة – لكن زيفاً يورق في زنودنا اليابسة ، لكن خيطاً من الجوع يربط قلوبنا بسنابل القمح .

آه يا رب … من أين أعطيتنا هذه القلوب ؟ وأنت أيها الوطن ، أيها الخيط المشتعل من الحديد والموت ، أية ألوهة ساحرة في وجهك ؟

الرصاص يحصد أيامنا ، وأيامنا طويلة تخطف النفس وتجلس فوق الأشلاء ،.. لكن الخطر نورنا ، وفي الهواء نلتجئ ، وفي الشمس المنارة .

أيها العبيد المتوّجون برؤوس الناس ، أيها الأحياء المتعفنون ، لكم نعبر الصاعقة ونمحو بأجفاننا الشوك والوسخ ، لكم ننقذ سفينة الشرف ، نحملها على دمائنا ونمخر بها لجة العمر .

وأنت أيها الحب ، أيها التائه المحطم ، يا كعبة نادرة لحجاج نادرين ، أنت هواؤنا وشمسنا ، أنت خبزنا وماؤنا ، في السجن والمقصلة ، في العذاب والتشرد ، في الحياة والموت .

تحت صنوبر الحزن وقفت جياد أيامنا ، الفضاء ريشة تحترق ، والطريق خيط راقص من الرعب والفرح .

إنها جباهنا العريقة تسقط في حفرة الشمس ، إنها السماء تقطع صحاري وجوهنا .

أسميك هاوية ، أيها اليأس ، لكنك لا تسمى . خلف جدرانك المسرعة نقطر دماً ونشتعل . أنت بؤبؤ وشمع ونحن راية ونار ، لكننا رفيقان أبداً ، تخنق أطفالنا الجائعين ، ونخنق ظلامك المفترس .

أيها اليأس ، أيها الفاتك البربري ، لن نفترق بعد الآن ، ولن نمشي معاً بعد الآن . فوق صدورنا يرتمي تاريخ القلب ، فوق طريقنا تشمخ كنيسة الروح . نركض ، نتلاقى ، وننادي : الحب والله ، وننادي مسيح الثورة .

ويا مسافر بين صخرة الموت ومضيق الحيرة ، كن معنا فراشة عاشقة ، تتآخى مع الفجر ، وتوقظ الوردة الذابلة . واحفظ معنا في جليد أغصانك نسغ الربيع والضوء .

للعرب ننفخ بوق النفير ، نكسر أهدابنا قصائد وحباً .

لقارتين من الله والعبودية ، نعلو غيوماً ونرتفع مشاعل . نمسك عظام أطفالنا ونضرب يافوخ المستعبد ، نلملم زنودنا المسحوقة ونصفح جبهة العبد .

للعرب … آه اتركي سريرك الضيق يا أرواحنا اللجوجة ، مجدك يلتفت ، وقارتان من الله والعبودية في فجيعة وانتظار .

وأنت أيها الشعر الذي تكتبه سياط الشرق ويقوده الجليد الأحمر ، أيها الشعر الملطخ بالكذب ، المحمول في نقالة من المال ، والركوع . أيها العلق ابتعد عن العرب ،.. ابتعد عنا .

أنت لا تعرف جموعنا المتمردة ، تجهل سر موتها ، تجهل بعثها المنتظر ، أنت أظافر الجرب ، أنت أفيون الضياع .

نحمل فقرنا المحب ونسير في جحفل من الجوع ، لكن الروح لؤلؤنا ومنارنا القلب ، وللحرية نولد ونحيا .

وأنت انطرح فوق الأنقاض العالية وعطرها وأهنأ بالجيف والبثور ، وغن القشور والسطح .

لن تبلغ أعمالنا الخالقة ، لن تكون في فصولنا غير اليباس والصفرة ، ولن تتمشى بقامة الشعر !


*أدونيس

زر الذهاب إلى الأعلى